لماذا وإلى أين ؟

كيف تحولت الخوصصة إلى فتيل أشعل نار الاحتجاجات في المغرب؟

شكلت المطالب الاجتماعية أهم محرك للحركات الاحتجاجية التي عرفها المغرب منذ مطلع الألفية الثالثة وحتى الآن، حيث أن فئات واسعة من المواطنين أصبحت تعبر عن تذمرها من الخدمات الاجتماعية التي تقدمها بعض القطاعات العمومية (الصحة – الشغل – التعليم) وتهجرها، وتفضل عليها الخدمات التي يوفرها القطاع الخاص، فيما تظل فئة كبيرة من المغاربة عاجزة عن الاستفادة من الخدمات التي يقدمها القطاع الخاص؛ نظرا لارتفاع المقابل الذي يؤدونه للاستفادة من هذه الخدمات، حسب مجموعة من التقارير الصادرة عن مؤسسات دستورية كالمجلس الأعلى للحسابات.

فهل ساهمت سياسة الخوصصة التي نهجتها الحكومات المغربية المتعاقبة منذ الاستقلال في تجويد الخدمات المقدمة في القطاعات العمومية أم العكس هو الذي حصل؟ وهل كان لهذا الأمر تأثير على السلم الاجتماعي؟

رهان الخوصصة

من المعروف أن الدولة المغربية راهنت منذ الاستقلال على نهج سياسة اقتصادية ارتكزت على تشجيع المبادرة الخاصة والاستثمارات الخارجية، وقد سعت (الدولة) إلى تأدية دور محرك للاقتصاد عبر المقاولات العمومية، مع المحافظة على الأسس الاجتماعية للنظام السياسي.

ومنذ سنة 1993، تسارع مسلسل “لبرلة” الاقتصاد المغربي وفتحه على الأسواق الدولية، عبر انطلاق سياسة اتفاقيات التبادل الحر وعصرنة الأسواق المغرب، وذلك بعدما سعى المغرب عبر حكوماته المتعاقبة بين سنتي 1983 و2000  إلى تطبيق توصيات سياسة التقويم الهيكلي، وخصوصا استقرار المؤشرات الماكرو-اقتصادية وتطهير المالية العمومية، إضافة إلى رفع الدولة ليدها على مجموعة من القطاعات الاقتصادية عبر مسلسلي الخوصصة وتحرير الأسواق.

في هذا الإطار يقول الخبير الاقتصادي والأستاذ الجامعي نجيب أقصبي: ” قبل أن تصل الخوصصة للقطاعات الاجتماعية، بدأت كسياسة تدخل في نظرة شمولية لاستراتيجية الدولة المغربية منذ أول مخطط اقتصادي وضعته حكومات البكاي وعبد الله إبراهيم، التي سعت إلى الاعتماد على اقتصاد السوق والقطاع الخاص؛ كمحرك أساسي للاقتصاد المغربي”، مضيفا أنه “لهذه الغاية وظفت الدولة إمكانياتها لإنشاء البنيات التحتية وسن سياسات مالية واقتصادية، من إعفاءات ضريبية ودعم مالي وقروض..، لكي تقوي القطاع الخاص الذي كان من المفروض أن يصبح المحرك الاقتصادي من حيث خلق الاستثمارات ومناصب الشغل..”.

ويعتبر أقصبي في تصريح لـ”آشكاين”، أن المشكل يكمن في كون” القطاع الخاص لم يستطع أن يلعب الدور الذي كان يرجى منه، فاضطرت الدولة إلى الاستمرار في بذل المجهود الذي كانت تبذله سابقا، مما استنزف إمكانياتها المالية نظرا لغياب إصلاحات ضرورية، كالإصلاح الجبائي الذي كان يمكنه أن يقوي الامكانيات والموارد المالية، وهو ما أدى إلى حدوث أزمة مالية مما دفع بالدولة إلى تطبيق سياسة الخوصصة التي شرعت في نهجها مند سنة 1993″.

ويشبه ذات الخبير الاقتصادي لجوء الدولة للخوصصة كـ”لجوء المرأة إلى بيع مدخراتها من حلي ومجوهرات بعدما تستنزف مواردها المالية”، مشيرا إلى أن “90 % من المؤسسات العمومية تمت خوصصتها”، لكن رغم هذا الاختيار، يقول أقصبي ” لم يقم القطاع الخاص مرة أخرى بالدور الذي كان يرجى منه، مما دفع الدولة إلى الاستمرار في نهج ذات السياسة لدعمه، فكانت النتيجة مرة أخرى أزمة في المالية العمومية، لأن الموارد الذاتية الجبائية في غياب إصلاح ضريبي حقيقي للنظام الجبائي لم توفر للدولة مداخيل توازي المصاريف”، موضحا أنه “لكي تغطي الدولة النفقات المطلوبة في إطار هذا النموذج لجأت للقيام بخطوة أخرى وهي الشراكة بين القطاع العام والخاص (pbp)”، التي بدأ تطبيقها سنة 2014 بمقتضى القانون رقم 86.12 ‏المتعلق بعقود الشراكة بين القطاعين العام والخاص، كما وافق عليه مجلس النواب ومجلس المستشارين.

النفق المسدود

يرى أقصبي أن الدولة بحكم اختياراتها، التي لا تكاد أن تكون سوى هروب للأمام، تصل إلى النفق المسدود، أي عجز مالي يؤدي إلى غياب الإمكانيات لإتمام نفقاتها، وهو الأمر الذي دفعها هذه المرة للجوء إلى الشراكة مع القطاع الخاص، بعد ما باعتهُ مؤسساتها العمومية سابقا”، مبرزا أن هذه الشراكة تعني: “منح الدولة للقطاع الخاص الإمكانية لكي يستثمر ويستغل مجالات جديدة”، أي، يردف نفس المتحدث “أن الدولة تفتح للقطاع الخاص المجال لإنتاج خدمات هي في الأصل ذات طابع عمومي، ولكن نظرا لكونها ( الدولة ) لا تتوفر على الإمكانيات لكي تؤدي هذه الخدمة العمومية كما يجب بإمكانياتها الذاتية، مما يعني استسلامها للأمر الواقع، تطلب من القطاع الخاص الاستثمار في هذا المجال عسى أن يعوض الخصاص الحاصل في القطاع”.

ويؤكد أقصبي أن “فتح المجال للقطاع الخاص من أجل الاستثمار في قطاع الخدمات العمومية هو اعتراف بفشل الاستراتيجيات المتبعة من طرف الحكومات المتعاقبة لأزيد من خمسين سنة الماضية”، معتبرا “أن الوصول إلى حد الاعتراف بعدم القدرة على القيام بمهام حيوية وأساسية تعتبر مقابل للضرائب التي يدفعها المواطنين، كالحفاظ على الأمن والصحة والتعليم والطرق..، وكون أن الدولة تفوت هذا الأمر للقطاع الخاص، هو اعتراف بكونها تأخذ الضرائب دون أن تؤدي مقابلا لها، متمثلا في خدمات عمومية للمواطنين، وهو اعتراف أيضا بالعجز، مما يمس بأسس العقد الاجتماعي بين الدولة والمواطنين”، حسب تعبير المصدر.

ويشير متحدث “آشكاين”، إلى أن هناك قطاع خاص ينتج خدمات عمومية لا بأس بها، تستفيد منها فئة معينة من المواطنين، خاصة ذات الدخل المتوسط والمرتفع”، وأن “وجود قطاع خاص يستثمر في هذا المجال ليس مشكلا في حد ذاته” حسب أقصبي، ولكن المشكل، يقول المتحدث نفسه ” يكمن في أن المواطن الذي يؤدي الضرائب وليست له إمكانيات للذهاب للقطاع الخاص ليس له اختيار أخر، نظرا لغياب خدمات مماثلة في القطاع العام؛ كما هو الحال في دول أخرى كفرنسا والسويد، حيث يمكن للمواطن العادي أن يستفيد من مستشفى عمومي بها خدمات ذات جودة قد تفوق القطاع الخاص”، مبرزا أن ” المواطن المغربي يحس بالحيف، ويشعر بأن الدولة تطلب منه أداء مزيد من الضرائب، لكن لا توفر له الخدمات التي هي من حقه، الأمر الذي يدفع حتما إلى مزيد من الاحتقان الاجتماعي”، بحسب تعبير أقصبي.

تقيم عملية الخوصصة

ارتباطا بذات الموضوع، يقول أستاذ التعليم العالي، رئيس اللجنة الاستشارية للتنمية الاقتصادية بجهة الرباط سلا القنيطرة، سمير بلفقيه، “إنه لحدود الأن لم يتم تقييم عملية برنامج الخوصصة الذي اعتمدته الحكومات السابقة”، معتبرا أنه “من أولى الأولويات في إطار النقاش حول بلورة نموذج تنموي جديد وتقييم عملية الخوصصة التي أدت إلى إدخال الخواص كمساهمين في مجموعة من المقاولات العمومية والتي تذر على الحكومة حوالي 10 مليار درهم “.

ويضيف بلفقيه في تصريح لـ”آشكاين” أنه ” كان الهدف من الخوصصة هو تحريك الدورة الاقتصادية في المغرب والرفع من معدل النمو وخلق فرص شغل جديدة وضخ دماء جديدة في المقاولات”، لكن، يستدرك بلفقيه “مع مرور السنوات أصبح معدل النمو يدور في فلك 3 و4 في المائة ومعدل البطالة يتجاوز 10.6 في المائة”، مشيرا إلى أن هذا الأمر “لا يعني أن عملية الخوصصة هي الوحيدة المسؤولة عن هذا الوضع”، في وقت يؤكد فيه على أنه “حان الوقت للقيام بتقييم موضوعي لهذه العملية”.

ويوضح المتحدث نفسه أن “نموذج النمو الاجتماعي هو لصيق نموذج النمو الاقتصادي، وهذان النموذجان معا هما ما يصطلح عليه بالنموذج التنموي”، مشيرا إلى أن “الإشكال أكبر من العلاقة بين العام والخاص”.

ويرى بلفقيه أنه ” لم يتم الاستعداد بالشكل المطلوب والمعقول للثورة الديموغرافية التي عرفها المغرب منذ بداية الثمانينات”، وأن الدولة بـ”إمكانياتها لم تكن قادرة على استيعاب هذه الثورة الديموغرافية في مجالات التعليم والصحة والتشغيل وقطاعات أخرى”، إضافة إلى ذلك “تراجع مداخيل الدولة، حيث لم تعد قادرة حتى على سداد ميزانيات التسيير منذ 2011 وإلى 2014 “، بحسب بلفقيه، الذي يشدد على أنه “مع تزايد الطلب الاجتماعي خصوصا عند الشباب وساكنة العالم القروي وتراجع أو محدودية مداخل الدولة كان لزاما على هذه الأخيرة البحث عن حلول آنية من أجل الإجابة اللحظية على المتطلبات الاجتماعية، ومن بين هذه الحلول نجد نظام الشراكة عام خاص (pbp)”.

ويبرز بلفقيه أن “آثار نظام الشراكة بين العام والخاص ظلت محدودة”، ويعطي مثلا على ذلك في إطار التعليم، حيث يقول: “إن الطلبة بالجامعات الخاصة التي أنشئت في هذا الإطار لا يتجاوز عدد طلابها ألفي طالب، ويصل المجموع العام لعدد الطلبة في القطاع الخاص 40 ألف طالب، فيما يظل أكبر عدد للطلبة موجود في القطاع العام، والذي يضم أكثر من 95 في المائة من مجموع الطلبة في المغرب”.

الخوصصة وتأجيج الوضع الاجتماعي

وحول ما إذا كان نظام الشراكة عام – خاص، وتفويت خدمات القطاعات الاجتماعية للقطاع الخاص سببا في تأجيج الوضع الاجتماعي وتزايد عدد الاحتجاجات الاجتماعية؟ يجيب المتحدث نفسه: “أن الإشكال ليس في علاقات القطاع العام بالخاص فيما يتعلق بالاحتجاجات، اليوم الإشكال أكبر، فالمغرب يعيش تحولا مجتمعيا و يعرف تزايد طلبات شريحة واسعة من الشباب وساكنة العالم القروي، وسوق الشغل مطالب بخلق على الأقل 160 ألف فرصة شغل سنويا والتي لا تنتج منها الدولة سوى 19 ألف منصب، فيما القطاع الخاص يخلق أكثر من 92 في المائة منها”.

ويؤكد متحدث “أشكاين” على أن “مردودية القطاع الخاص في إطار نظام الشراكة عام-خاص، وأجرأة القانون المؤطر لهذا النظام، والذي تم التصويت عليه قبل سنتين يبقى محدودا”، منبها إلى أن “العملية مازالت في بدايتها”، وأن “الثقل الكبير يبقى على الدولة رغم محدودية المداخيل”، ولهذا يقول بلفقيه “أصبح لزاما التفكير في النموذج التنموي الجديد كما جاء على لسان الملك في خطاب افتتاح الدورة التشريعية لأكتوبر 2017، من أجل بلورة نموذج اجتماع جديد ونموذج للنمو الاقتصادي كفيل بالإجابة على حاجيات المغاربة”.

أما النائب البرلماني ورجل الأعمال الشهير فوزي الشعبي، فقد أكد على أن “الخوصصة لم تحقق كل الأهداف المرجوة منها، لكن تم تحقيق نجاح نسبي ببعض المجالات التي شملتها (الخوصصة)، كقطاع الخدمات وقطاع الصحة”، مؤكدا في تصريح لـ”آشكاين “، أن “هناك بعض المصحات الخاصة التي أثبتت نجاحها، وأن هناك مواطنين لا يتوفرون على موارد مالية كافية ويفضلون الولوج للقطاع الخاص نظرا للخدمات التي يقدمها وبالتالي يمكن أن نقول إن هناك نجاحا نسبيا”، حسب الشعبي.

ونفس الأمر بخصوص التعليم الخاص، يضيف المتحدث نفسه، ويقول: ” فهناك من المواطنين من لا يتجاوز مدخوله 4000 درهم شهريا ويفضل أن يدرس أبناءه في التعليم الخاص، إسوة بأبناء جيرانه ومعارفه”، منبها (الشعبي) إلى “خطورة هذا الأمر على ضرب مصداقية التعليم العمومي”، ومشيرا إلى أنه “يشكك في نوايا الحكومة من حيث كيفية تعاطيها مع التعليم العمومي، لكونها تتوفر على كل الإمكانيات التي لا يمكن لأي مستثمر خاص أن ينافسها فيه، ورغم ذلك فجودة التعليم الخاص أفضل من التعليم العمومي”.

ويضيف الشعبي أن “التعليم الخاص نجح نسبيا إذا قارناه بالتعليم العمومي، لأن هذا الأخير ضعيف”، مشددا على أن ” التعليم الخاص فيه روح المنافسة التي لا توجد بالتعليم العمومي، وهو أمر مرتبط بالأرباح لأنه كلما كانت نسبة النجاح بمؤسسة تعليمية خصوصية مرتفعة كلما كانت هذه المؤسسة أكثر جذبا للتلاميذ”.

وأكد الشعبي على ضرورة إصلاح التعليم العمومي، وأعطى مثلا على ذلك بفرنسا حيث قال “إن التعليم العمومي به يفوق التعليم الخاص جودة، وذلك بفعل العناية الشديدة التي تُوليها الدولة الفرنسية للتعليم العمومي”، مبرزا أن “عددا من أطر الدولة ومسؤولي الحكومة بالمغرب درسوا بالقطاع العام، كمولاي حفيظ العالمي ومحمد بوسعيد والأمين العام للحكومة السابق إدريس الضحاك والحالي محمد الحجوي وغيرهم”.

ما العمل؟

ومن خلال ما سبق يتبين أن سياسية الخوصصة التي نهجتها الدولة المغربية، سواء من خلال خوصصة عدد من المؤسسات العمومية أو الشراكة بين القطاع العام والخاص، كان لها دور في اتساع الهوة بين فئة لها إمكانيات للاستفادة من خدمات جيدة نوعا ما، يقدمها القطاع الخاص، وفئة لا تستطيع الاستفادة من هذه الخدمات نظرا لمحدودية دخلها، في وقت أصبح فيه القطاع العام عاجزا، تقريبا، عن تقديم خدمات مقبولة من طرف المواطنين، الأمر الذي أدى لمزيد من الاحتقان الاجتماعي وتزايد عدد المطالبين بمطالب اجتماعية في مجالات الصحة والتعليم والشغل، مما يحتم بالضرورة بلورة نموذج تنموي يراعي هذه الاختلالات.

احصل على تحديثات فورية مباشرة على جهازك ، اشترك الآن

0 0 أصوات
تقيم المقال
من شروط النشر : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments

يستخدم موقع الويب هذا ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

0
أضف تعليقكx
()
x