لماذا وإلى أين ؟

درويش وإدوارد سعيد: فلسطين الأخرى

يوسف الوهايبي

كنت طوال هذا العدوان الإسرائيلي الوحشي الأخير على الفلسطينيّين، أعود بين الفينة والأخرى، إلى أعمال محمود درويش وإدوارد سعيد. أمّا لماذا؟ فلا أدري حقّا. بل وأنا أحرّر هذا المقال، كنت كأنّي في المدينة العربيّة القديمة، في طريق ضيّق بين داريْن، غير سالك، أو هو نُقِب من هذه إلى هذه؛ أو الزقاق الذي نسمّيه في القيروان «زنقة عنّقني» حيث التواء المدخل، لا يتيح لك العبور إلاّ إذا أخذت بعنق القادم من الجهة الأخرى، أو عصرت بها؛ كما يقول العرب في حدّ «التعنيق».

بل كنت كمن يتعرّف حاله، وينقّب عنها، كلّما عانى من سطوة اللحظة الفلسطينيّة التي تذكّرنا بعجزنا واغترابنا وتمزّق ذواتنا، ونحن نرى هول الدمار والخراب في غزّة؛ ناهيك عن نفي الفلسطيني وطرده وإبعاده. بل لعلّي كنت أهرب من «الزخارف التكنولوجيّة» الحديثة التي قد تجعل تعاملنا مع هذه «اللحظة» أيسر وأبسط، أو كأّنّها من المألوف الذي نعتاده ونأنس به. والألفة تذهب بالأشياء أو هي لا تجلوها في كونها الخاصّ؛ وما نتلقّاه من العالم وأشيائه ينقلب، في ظلّ العادة والألفة إلى نماذج تُحتذى، ورواسم لا نصغي لها. بل لعلّي كنت أحاول أن أفهم «سرّ» هذا النضال الفلسطيني المستميت؛ بالمعنى العميق لكلمة «سرّ» وجذره «سَرَرَ» وهو من الأضداد؛ فـ»أسرّ الشيء»: كتمه وأخفاه، وأظهره وأعلنه.

وما بين قصيدة درويش وفكر سعيد، شيء كالسرّ حيث كلّ منهما «يخترع» فلسطينهُ من هامش ما أو حاشية ما، أو مسافة ما. أقول هذا بحذر كبير، ومعرفتي بتجربة درويش أعمق بكثير من معرفتي بسعيد الذي أعوّل في فهمه على دارسيه من العرب والأجانب؛ بحكم أنّي أقرؤه مترجما إلى الفرنسيّة والعربيّة. ولكنّي أكاد أطمئنّ إلى الرأي القائل بأنّ ما يجمع بين هذين «المؤتلفين المختلفين» إنّما هو «الاغتراب» الذي تولّدت منه الكتابة عندهما، وتحرّرهما من سلطة الأعراف وشتّى مؤسّسات المعرفة التي تتمثّل الثقافة الفلسطينيّة عامّة؛ على ضرورة تنسيب الحكم، فقد كان هذا «التحرّر» أقلّ عنتا عند سعيد الذي يعيش في الغرب «الحرّ» منه عند درويش. ولكنّ كلاّ منهما كان يعيش تجربة المنفى، ويعرف كيف يجعل من «فقدان» فلسطين، مدخلا، لا إلى الهويّة الفلسطينيّة فحسب، وإنّما إلى إعادة ابتكارها.

والمنفى عند سعيد الذي هجّر من القدس، مع عائلته عام 1947؛ شأنه شأن درويش، حال مجازيّة أو حافز إبداع، على قدر ما هي تاريخيّة مردّها إلى طرد وحشي، وتمزيق أرض وتهجير قسري؛ ولكنّه أيضا «روح شتويّة» في أيّام المنفى الباردة؛ أو كما يقول درويش وكأنّه يذكّرنا بالعبارة الفرنسيّة «له ستّون شتاء» أي هو في الستّين من عمره:
«الآن في المنفى… نعم في البيت،
في السّتين من عمر سريع
يوقدون الشّمع لكْ
فافرح، بأقصى ما استطعت من الهدوء،
لأنّ موتاً طائشاً ضلّ الطريق إليك
من فرط الزحام… وأجّلك»
والمنفى جرح لا يندمل، وحزن مبرّح؛ أو «حياة مشوهة» بعبارة أدورنو الذي يستأنس به سعيد. لكنّه يغدو أداة مقاومة وتحرّر. بل هو عالم خصوبة، وليس جدبا روحيّا؛ ولذّة للمبدع الذي يتحرّر من ضيق المكان، ومن لزوم ما لا يلزمه من إكراهات التصرّف بشكل مخصوص، استجابة لشروط مقرّرة يمليها الفكر والهويّة. بل يتحرّر من كلّ ما هو جاهز أو مصنوع مسبّقا على مقاس أمّة أو مجتمع أو مكان أو ذاكرة أو سرديّة معيّنة.

والمنفى من هذا المنظور، عند هذين الفلسطينيّين الفذّين، إبداع يحقّق تلك المعادلة الصعبة بين الفرد الذي «ينقطع» عن المجموعة، ويبقى فيها، فيمشي في الناس وحيدا، وبين مضايق العبارة وسمت الأحداث.
المنفى ليس «استئصالا جراحيّا» كما تقول الفرنسيّة لاتيسيا زاشيني. والاستئصال كما أفهمه هو البتر أو القطع قبل الإتمام. وإنّما هو جدل بين الداخل والخارج، والاعتزال والالتزام، والذاكرة والنسيان، والارتيابيّة والنزعة الإنسانية، والمألوف والغرابة، وترك الأرض، وأرض التبني، وأرض الأحلام، وعطفات التاريخ وثناياه، وضياع المكان فالعودة إليه، أو المصالحة معه إلى أجل غير مسمّى. وقد عاد درويش إلى رام الله، ولكنّه لم يعد إلى فلسطين. وهو ما أدركته من شعره، وعرفته منه، عندما تجاذبنا حديثا خاطفا في القاهرة، عن حفل توديع الفلسطينيّين في تونس عام 1994، حيث قدّمته وسميح القاسم في الأمسية التي انتظمت بالمسرح البلدي. وكان ذلك باقتراح لطيف منه على وزير الثقافة التونسي أيّامها الأستاذ المنجي بوسنينة. وكنت نشرت نصّ التقديم في القدس العربي بعنوان «أرض كنعان تسهر في ليل إفريقيّة».

ما يعنيني في هذا السياق أنّه يحسن بنا أن نتنبّه إلى أنّ المقصود ليس «المنفى الاختياري» فهذا من الغربة أو الاغتراب والاعتزال؛ أو لأقل إنّ كلّ منفى غربة، وليست كلّ غربة منفى. على أنّ هذا أو ذاك يقوّي الذاكرة، فلا ينقطع من المكان الأوّل أو «أوّل منزل» أثره في المنفيّ، حتى وهو يتعهّد ذاتيّة مخصوصة «متشكّكة» كلّما تعلّق الأمر بخطاب متحكّم استبداديّ، أو اتّخذ هيئة من تساؤلات النقد الذاتي، حيث يتفحّص المنفيّ منجزه السابق. وفي ما يخصّ درويش، أقدّر أنّ هذا ما ساعده على إغناء تجربته الشعريّة، ونقلها نقلة نوعيّة. وللمنفى عتبات كثيرة، لا يقف عليها إلاّ الذين اختبروا مضايقه من فلسطينيّين وسوريّين وعراقيّين وغيرهم؛ والقرن العشرون كما يلاحظ سعيد، هو بكلّ جدارة قرن الهجرات الكبرى التي لم تنقطع، بل نراها تزداد ضراوة يوما بعد يوم؛ حيث أنّ «خارج الإقليميّة» هو الظاهرة الأكثر انتشارا، وليس استقرار الناس في أوطانهم. وقد تكون أوّل هذه العتبات عتبة الشعور، حيث تبدأ الخبرة بالظهور، فالوعي بالانتماء أو الانتساب إلى وطن أو مجموعة؛ لكن دون أن ينتمي المنفيّ إلى أيّ منها، حتى عندما تكون حاله في ما نسمّيه «الوطن الثاني» أشبه بـ»تعريق النبتة» كلّما امتدّت عروقها بعيدا في الأرض؛ فهي إنّما الأصل الذي يذهب سفْلا، ومنه تتشعّب العروق. ولعلّ هذا ما يفسّر نبرة «الاعترافات» التي تستوقفنا في كتابات سعيد، وفي مجاميع محمود ما بعد بيروت، أو بدءا من «الجداريّة» على ما أرجّح، إلى نصّه الأقوى «لاعب النرد».

وهي تخصّ عندهما مساءلة «الجذور» سواء في البلد الأمّ أو بلد المنفى، لكن من دون أن تتّخذ ذلك الشكل «التأسّلي» الذي يعيد صاحبه إلى طبائع الأسلاف، أو يجعله يتشبّه بهم في أخلاقهم وشمائلهم.
فالمنفى عند هذين الفلسطينيّين «مباعدة»، وأفضّل شخصيّا هذا المصطلح المستعار من المسرح الذي يعني موقف البعد المتحفّظ، يتّخذه الممثّل من شخصه، والمشاهد من العمل المسرحي؛ وهو أنمّ وأدلّ على ما أنا بصدده، من مصطلح «إبعاد». والمباعدة «هجرة داخليّة» و»موقف معطّل» أو هو «معلّق». وفي شهادة لي عن تجربة درويش، نُشرت في حياته، أشرت إلى أنّه وإن كان يستنبت نصّه في تربة الميثولوجيا الفلسطينيّة، فإنّ قصيدته تفيض عن هذه الميثولوجيا وعن الشعر، فنرى فيضها يغطّي سرير الغريبة، بل يصل إلى أبعد من زهر اللّوز وحواره مع سعيد، حيث يتمازج الصوتان؛ إلى «فلسطين الأخرى» أو الطريق التي لا تفضي إلى أيّ مكان. والشّاعر الحقّ كما كتبت في شهادتي، هو الذي يجيد التّعامل مع ثنايا اللغة، أي طيّات صّرّة العلامات والرموز التي يحملها الإنسان، وهو الذي يجيد طرحها وثنيها، يطرح الذي جعّده الكمش وشوّه مرآه، ويطوي أو يثني ما شطّ به البسطُ حتّى كادت تتمزّق حواشيه. وهو «محنة اللفظ» كما يسمّيها القدماء، على نحو ما نجد في حوار الشاعر مع المفكّر؛ وهما اللذان لم يكفّا طوال حياتهما عن مقاومة التزمّت بشتى أشكاله، من أجل الاحتفاء بتعقّد الهويّة وتعدّدها، وكرم ضيافتها، كما تقول الباحثة الفرنسيّة.

ولا غرابة في ذلك، فالمنفى عالميّ متعدّد، وفلسطين «سيّدة البدايات» هي أرض عالميّة بامتياز.  بل إنّ سعيد يكاد يحدو حذو أدورنو «فقد ولّى زمن البيت»، وحذو نيتشه في المعرفة المرحة: «إنّه لمن دواعي غبطتي أن لا أكون مالكا [لمنزل]». وما يميّزهما هي هذه الحركة المستمرّة ذهابا وإيابا، التي هي أشبه بمفصل في نابض؛ تسمح بفتح باب في الاتجاهين، بين التجربة والخلق، بين الشعر والحياة؛ بين المكان الفلسطيني والفضاء العالمي. ولا أجد في رصد هذه الحالة أو «فلسطين الأخرى»، أفضل من قصيدة «عنواني» للهنديّة أمريتا برايتام (نقلا عن الفرنسيّة): «اليوم أزلتُ رقم منزلي، واقتلعتُ الصفيحة المعدنيّة التي كانت تحمل اسم شارعي، وكلّ صفائح الشوارع الأخرى/ لكن إذا كنت تصرّ على أن تجدني/ إذن في كلّ مكان حيث تـُشرق نفس أبيّة/ اعلمْ أنّ ذاك هو منزلي».

*إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبر بالضرورة عن رأي آشكاين و إنما تعبر عن رأي صاحبها.

 

احصل على تحديثات فورية مباشرة على جهازك ، اشترك الآن

0 0 أصوات
تقيم المقال
من شروط النشر : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

1 تعليق
الأكثر تصويتا
أحدث أقدم
Inline Feedbacks
View all comments
متصهين
المعلق(ة)
7 يونيو 2021 00:04

مالك انت وفلسطين؟المل يحن وقت الاسترزاق السياسي والادبي بهذه القضية؟ الا تعلمون اننا نعيش وضعا اسوأ من الفللسطينيين؟ قد صدق من قال ” تازة قبل غزة”

يستخدم موقع الويب هذا ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

1
0
أضف تعليقكx
()
x