لماذا وإلى أين ؟

الريع السياسي..سرطان يهدد المغرب

يعاني الواقع السياسي بالمغرب من عدة آفات أفقدت السياسة نبلها ووظيفتها، وضمن هذه الآفات، الريع السياسي، الذي أثار جدلا عموميا واسعا، ورغم ذلك لازال يبحث عن السبيل إلى القنوات المؤسساتية، لمعالجته والحد منه، أو بالأحرى التقليل من آثاره القاتلة للممارسة والمشاركة السياسية. ولعل ترسيخ الريع السياسي، بكونه:”استئثار فئة السياسيين بمداخيل وامتيازات قارة دون أن يكون مقابل ذلك جهد أو اجتهاد أو استحقاق حيث تكون هذه المداخيل مورده الوحيد للعيش أو الاغتناء”، يقف حائلا أمام الحد منه، ويدخل المناهضين له في دائرة سيزيفية، لا مخرج منها إلا ترك صخرة الريع تستقر في قاع الجبل أو رفعها بقدرة شعب واعٍ أو مؤسسات حية ذات إرادة صلبة.

حاولت “آشكاين” معالجة موضوع الريع السياسي بالمشهد السياسي المغربي، عبر استقاء آراء الفاعلين السياسيين سواء المشاركين في الأغلبية الحكومية، أو الذين يتموقعون في المعارضة البرلمانية أو المعارضة خارج المؤسسات، ناهيك على وجهة النظر الأكاديمية، ومسعى ذلك إغناء النقاش والمساهمة في الحد من الريع السياسي، وتجويد الممارسة السياسية ببلادنا من موقع السلطة الرابعة.

قال عبد الرحيم العلام أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاضي عياض بمراكش، إن الريع السياسي “مسألة بنيوية وقديمة وأعمق من النقاش المطروح حاليا”، معبرا عن شكه بأن هذا الريع “مقصود”، بحيث هناك “نخبة سياسية فائضة عن اللزوم، تجازى عن خدمة اجندتها أو تتملق إلى السلطة”، ما يدفع إلى صنع مؤسسات وقطاعات توظف فيها”.

ويرى العلام أن الريع السياسي، مرتبط أصلا بالمؤسسة البرلمانية بحد ذاتها وبالثنائية المجلسية”، بحيث أن وجود برلمان بغرفتين بصلاحيات متشابهة وغير المتشابه منها لا قيمة له”، مشيرا إلى أن “الدستور حدد أعضاء مجلس المستشارين في 90 مستشارا، وبعد حين ذهبت مجموعة منهم إلى الملك يطالبون بإضافة حصة أخرى فأضافوا 30 شخصا”.

الريع السياسي ومؤسسات فوق الحاجة

وذكر المتحدث في ذات الصدد، بصياغة عدد من المستشارين عريضة طالبوا فيها بـ “تأجيل الانتخابات لان لديهم قروضا والتزامات ويجب أن تترك لهم فرصة لأدائها”، واصفا ذلك بـ” الأمر الخطير لأن الانتداب الانتخابي لا يجب أن يكون مصدرا للعيش”.

وأكد المحلل السياسي، أن الريع السياسي موجود في الحكومة، و”لا يشمل فقط الأجر والتعويضات”، بل يجب “العلم أن كل وزير أو كاتب دولة ينبغي توفير مقره الوزاري، وتخصيص ميزانية لمصاريف الماء والكهرباء وطاقم الديوان، ومجموعة من المصاريف التي تضاعف أجر الوزير 10 مرات تقريبا”.

وتساءل العلام مستنكرا ” ما الحاجة إلى وجود 39 وزيرا ومنتدبا وكاتب دولة، وأحيانا يترأسون نفس القطاع” فـ”المفروض أن حكومتنا لا تتجاوز عدد 20 وزيرا وباقي القطاعات يمكن أن تكون عبارة عن مديريات”، يقول العلام.

ويعتقد المصدر، أن الريع السياسي، أدى إلى “كثرة المؤسسات في المغرب كالمجالس الاستشارية”، موضحا أنه “لدينا مؤسسات فوق الحاجة تضاعف عدد المؤسسات الموجود في الدول الديمقراطية”. والأمر نفسه، بالنسبة للجماعات المحلية البالغ عددها 2280 جماعة، والتي يتساءل المرء حول حاجتها”، وتساءل حول الوظيفة التي تقوم بها المجالس الإقليمية في ظل وجود مجلس جماعي ومجلس الجهة إلا استنزاف أموال دافعي الضرائب” على حد تعبيره.

كما يتمثل الريع السياسي، بحسب العلام، في أسطول “سيارات الخدمة”، والذي يحتل المغرب فيها الموقع القياسي ربما عالميا من حيث عددها”، داعيا إلى “إعادة النظر في هذه الأمور”.

الريع وسيلة للتدجين السياسي

اعتبر مصطفى البراهمة الكاتب الأول لحزب النهج الديمقراطي، أن الريع السياسي يعد من “أساليب التدجين السياسي للأحزاب والنخب” التي يستخدمها، بحسب وصفه، “النظام المخزني”، مبرزا أن ” هناك عدد من المؤسسات المنصوص عليها في الدستور وهي في الحقيقة شكلية وجدت لشراء النخب مقابل رواتب عالية”.

وقال البراهمة، إنه بسبب الريع السياسي، فـ”الأحزاب سواء التي خلقها المخزن أو التي دجنها لم تعد تؤدي الوظائف المأمول منها من طرفه كوسائط له، لذلك كان غضب الملك عليها قوي”، وأردف أن “السياسة في المغرب بفعل التدخل فيها منذ عقود أوصلها في أخير المطاف إلى الحضيض”.

ويرى رئيس الحزب الماركسي اللينيني المعارض، أن تجليات الريع السياسي لا تشمل فقط التعويضات المرتفعة عن المسؤوليات العمومية، بل تكمن كذلك في اختيار أعضاء الدواوين الوزارية ومديري المصالح والمؤسسات العمومية وغيرها”، مشيرا في ذات الصدد إلى أن “كل حزب يصل إلى الحكومة يسعى إلى إيجاد موطئ قدم لأشخاص محسوبين عليه، دون اعتبار لمبدأ الاستحقاق”، يضيف المصدر.

وأكد المتحدث أن مستوى الريع السياسي بالمغرب، “غير متواجد في دول أخرى ناهيك عن الدول الديمقراطية”، معتبرا أن بروز التجمعات العائلية في البرلمان هو “تحصيل حاصل”، وزاد موضحا، أنه إذا كانت “الحياة السياسية قائمة على الأجر ومبنية على محترفي الاسترزاق السياسي، فعادي أن تجد البرلمان يضم الزوجة والأبناء، وإذا لم يكونوا في البرلمان ستجدهم في الدواوين أو في المديريات، وهي مسألة جلية للعيان ومحط انتقاد المواطنين الذين يدركونها”.

وحذر البراهمة، “الذين يتصورن أن المغاربة لم يفهموا أو أنهم سوف يسامحون أو سيصمتون”، واصفا “الانفجارات الاجتماعية التي يشهدها المجتمع؛ بردة فعل وجواب على الوضعية القائمة”، وتنبأ “بالمزيد من الانفجارات المسترسلة منذ 20 فبراير والتي ستكون لها حمولة وتداعيات سياسية وحمولات جهوية”. بحسب تعبيره.

وفي سياق متصل، يعتقد المصدر أن الحد من الريع السياسي يتطلب “حلا بسيطا والذي يحتاج إلى الإرادة السياسية والاستعداد”، ويكمن ذلك في “الديمقراطية الحقيقية التي تجعل الشعب فعلا صاحب السيادة ومصدرا للسلط، وكذا وجود مؤسسات دستورية حقيقية تنتج القرار، و تدرك الواقع فعليا لمحاولة تجاوزه”. و”عندها يمكن أن تكون النخب نخبا حقيقية تعبر عن إرادة المجتمع، ويكون لها طموح سياسي وليس طمع الاسترزاق من السياسة”. يقول البراهمة.

حدد راتبك بجرأة وشفافية

ومن جهته، يرى عبد العزيز افتاتي القيادي في حزب العدالة والتنمية، أن “مسألة الطموح السياسي فيها مشكل من الناحية الأخلاقية”، موضحا أن الطموح يكون لخدمة المصلحة العامة، وليس القول بأن لي طموح معناه السباق حول المواقع والمناصب”. مضيفا أنه “لا يجب أن نتواطأ على الغلط، فهناك شيء اسمه المصلحة العامة ونحن نجتمع على خدمة المصلحة العامة”.

وأشار افتاتي إلى أن الريع السياسي يأخذ تجليا أخرا يتمثل في “غض الطرف عن الاختلالات في تدبير الدولة والجماعات الترابية وكذا المنشآت العمومية”، بالإضافة إلى التعويضات والمعاشات المرتفعة، بحيث أن “تلقي مقابل معقول من أجل خدمة المصلحة العامة ليس مشكلا، لكن أن تكون خلفية المقابل، هي غض الطرف على أمور أخرى، فهذا ليس معقولا”، يقول المصدر.

وفيما يخص ريع التعويضات، يعتقد البرلماني السابق، أن الحد منه ينطلق من تخويل المسؤولين أنفسهم صلاحية تحديد حجم تعويضاتهم على خدمة المصلحة العامة”، معبرا، في ذات الوقت، عن رفضه “تدخل الجهاز التنفيذي في ذلك الأمر”، واصفا وضع الجهاز التنفيذي لمرسوم تعويضات رؤساء الجهات وأعضاء المكاتب بأنه “غير معقول” و”غير بريء”.

وتابع أفتاتي حديثه، قائلا:” من يتحمل مسؤولية عمومية سواء كانت انتدابية أو تدبيرية، يجب أن يتحمل المسؤولية حتى في تحديد التعويضات بكل شفافية”، خاصة “البرلمانيين يجب أن تكون لهم الجرأة لتحديد تعويضاتهم بأنفسهم”، واستدرك أنه بكل “تأكيد يجب أن يتم تحت مراقبة الشعب الذي يحاسبهم”، لأن أجور السياسيين وعدد من المسؤولين في الإدارة، ليست لها علاقة بالمصلحة العامة”.

ودعا المصدر، في معرض تصريحه، إلى فتح النقاش حول تعدد التعويضات، نحو”الاتجاه الى الاكتفاء بمسؤولية واحدة، تنجز بتميز وتفاني وإتقان”، مرجعا ذلك إلى صعوبة “الجمع بين عدد من المسؤوليات”، وأضاف أنه كنائب برلماني سابق، يقر “بصعوبة الجمع بين مهمة برلماني ومسؤولية أخرى”، نظرا لما يتطلب ذلك من تهيئ وقراءات وزيارات ونقاشات”، وأردف “أما أن يكون الإنسان برلماني بدون علم فهذا شيء أخر”.

وأكد افتاتي، أن “تعدد المسؤوليات أصبح يطرح مشكلا ليس فقط من مقادير التعويضات بل من جهة القيام بالمسؤوليات كذلك”، ويتصور أن “المجتمع والأحزاب المعقولة وصلت إلى تراكم لا بأس به” يمكن من الاتجاه نحو “الحد من تعدد المسؤوليات، ووضع سقف للتعويضات، مع إعادة النظر في تعويضات الوزراء ومدراء المؤسسات العمومية ورؤساء الجهات، لأن تعويضاتهم مرتفعة مقارنة بالدخل الفردي بالمغرب”.

وختم المتحدث كلامه، متسائلا:” كيف يمكن للإنسان أن يقوم بالمسؤوليات مجتمعة؟ وكيف له أن يكون برلمانيا- مع ما يتطلب ذلك-، ويكون رئيس جماعة ترابية في نفس الوقت؟”.

النساء والشباب رقم انتخابي

يرى خالد أدنون، الناطق الرسمي باسم حزب الأصالة والمعاصرة، أن مفهوم الريع “انتقل من الجانب الاقتصادي إلى الجانبين الاجتماعي والسياسي”، موضحا أن”هناك فئات بسبب ولاءات معينة أو انتماءات قبلية أو عرقية أو حتى سياسية، لا تحترم الشفافية والكفاءة، حيث تستفيد من مناصب أو من دخل معين دون القيام بأي مجهود يذكر، فكريا كان أو جسديا”.

وأضاف القيادي “البامي”، أن الخطب الملكية أشارت إلى “هذا الأمر وألحت على ضرورة القطع مع الريع وتجفيف منابعه”، وزاد أن”الأحزاب السياسية بدورها تطالب بذلك لكن يبقى عليها أن تفعل الإجراءات من خلال إيلاء الأولوية للكفاءة في التعيينات حتى السياسية منها، بكل شفافية وأن تقرن ذلك كما قلت في البداية بالمردودية وتفعل المحاسبة”.

ويعتقد البرلماني، أن “الريع يجب تحليله ومحاربته ضمن نسق بنيوي، وهو النموذج التنموي المغربي الذي استنفذ كل مقومات استمراره، فعلينا أولا إيجاد وإبداع نموذج تنموي من خلال نموذج اقتصادي يقوم على التصنيع، واجتماعي يقوم على العدالة في كل أبعادها، ومنها العدالة المجالية واقتسام الثروة، والقطع مع الريع من خلال تغليب مبادئ الاستحقاق والكفاءة والشفافية معوربط المسؤولية بالمحاسبة كمقومات للقطع مع الريع السياسي”.

وفيما يخص اعتبار اللائحة الوطنية للنساء والشباب، كونها ريعا سياسيا، قال أدنون إن هذه اللوائح الوطنية “فكرة جيدة ومتقدمة لكن الأحزاب السياسية لم تحسن تدبيرها، أو لم تستوعب أهميتها ولم تقم بمتابعة أجرأتها بالشكل المطلوب”. وعبر عن أسفه من “التعامل مع النساء وخاصة الشباب كرقم انتخابي”.

كما دعا المتحدث، إلى القيام “بتقييم وتقويم موضوعي للائحة واقتراح حلول مبدعة تقرب الشباب من السياسة وتدبير الشأن العام لا أن تنفرهم”، وحذر من “إعادة إنتاج نفس الوضع السابق على دستور 2011 بطرق ووسائل مغايرة”.

الدنيا غرائب، ومن غرائبها أن تجد الكل يتفق على توصيف الريع الذي ينخر المشهد السياسي المغربي بالسرطان، لكن عاجزون على الحد منه، وكأن المنطق السائد هو اتهام الآخر وتبرئة الذات، الأمر الذي يتطلب من الفاعلين السياسيين تحمل مسؤولياتهم تُجاه الوضع الذي تكرسه ممارساتهم بوضوح وجرأة، لعل ذلك يسمح بتدفق نور الأمل إلى كل فئات المجتمع المغربي المحبطة، ومعه تعود للسياسة قيمتها كوسيلة لخدمة المصلحة العامة، وصناعة نهضة وطن عريق وشعب مستحق.

احصل على تحديثات فورية مباشرة على جهازك ، اشترك الآن

0 0 أصوات
تقيم المقال
من شروط النشر : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments

يستخدم موقع الويب هذا ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

0
أضف تعليقكx
()
x