لماذا وإلى أين ؟

الاستشراق في زمن الاتصال والتواصل

✱مينة الخصومي

تقديم:

إذا طرحنا السؤال عن إشكالية الاتصال والتواصل من زاوية فلسفية، فإنه يمكن القول بأن الاتصال، يتحددخارج التقليص التكنولوجي المتجلي في الهواتف والحواسيب وغيرهما، فالاتصال بصفة عامة يحدث بين طرفين هما المرسل والمرسل إليه أو الأنا والآخر، وهي ثنائية تأسست تمت بلورتها مع الفكر الديكارتي الذي جاء بفكرة الفصل بين الذات والموضوع، حيث أن الذات قد تحيل على معان متعددة من قبيل؛ المعنى المنطقي أو المعنى السيكولوجي أو المعنى القانوني أو المعنى السياسي.وسنعمل في هذا البحث على بسط القول في المعنى السياسي لثنائية الذات والموضوع في علاقتهما بالاستشراق.

قد يحيل المعنى السياسي لثنائية الذات والموضوع إلى “الأنا الأوروبية”كذات، والموضوع هو الآخر ناتج عنها لكن بدرجة أقل. والسؤال الذي يهمنا كمجتمعات خارجة عن المجال الجغرافي لأوروبا هو: كيف تشكلت هذه الذات الأوروبية؟ وهل هي ذات واسعة تخلق لنا مكانا معها وتعتبرنا “نحن الإنسانية”جزءا منها أم هي أنها ذات ضيقة لا تشملنا ونحن نشكل فقط موضوعا من موضوعاتها؟ وإذا كانت لا تشملنا فهل هناك سبيل للانعتاق من قبضتها؟

الإرهاصات الأولى لتشكل الذات الأوروبية

ظهرت البدايات الأولى لتشكلالذات الأوروبية مع الكوجيتو الديكارتي خلال القرن السابع عشرة: “أنا أفكر، إذن أنا موجود”
«je pense donc je suis dans la forteresse de mon esprit »، أو مع ما يسمى بالحداثة الغربية حيث أصبح العقل البشري متحررا من سلطة الدين، وأكثر انفتاحا على المعرفة والعلوم، ويمكن أن نلمس هذه الذات مع بداية تشكل الدولة الحديثة، حيث أنها في باديء الأمر ستبني ذاتها، وستهتم بكل ما من شأنه أن يضمن لها بسط سيطرتها على مواطنيها من خلال الحفاظ على النظام وتنظيم الحريات وإحقاق السلم الاجتماعي والعدل…،مما ينعكس إيجابيا على قوتها كدولة أساسها المؤسسات، لتنطلق فيما بعد إلى تمويل الرحلات والمغامرات الاستكشافية، لتوسيع مجال هيمنتها ونفوذها ليشمل مجتمعات وحضارات أخرى، وهذا ما كان سببا مباشرا في تشريع الدول الأوروبية لاستعمار العديد من الدول معتبرة إياها دولا توجد في درجة أدنى منها فكريا وسياسيا وثقافيا وعسكريا.

ولقد رأينا في مقولات تاريخ المعرفة كيف كان الفلاسفة يتحدثون عن الإنسان البربري الهمجي الآكل للحوم البشر، وعن تلك المجتمعات التي كانت تعيش في شكل قبائل وعشائرينعدم فيها نظام الدولة وليست لها كتابة خاصة. وعلى هذا الأساس، فإن “الذات الأوروبية” نصبت نفسها راعية للمجتمعات الأخرى، معتبرة أنها سبيلها نحو التقدم والحداثة.
والشاهد على ما نعيشه اليوم في مجتمعاتنا العربية، قد يرى أننا مجتمعات قاصرة لا تجرأ على التفكير، وحتى وإن فكرنا فإننا نفكر داخل قوالب صنعتها الذات الأوروبية.

الاستشراق ومبدأ الهيمنة

ظهر مفهوم “الاستشراق” بصورة أكاديمية مع كتاب إدوارد سعيد “الاستشراق”،حيث لقي صدى كبير لدى الغرب وفي العالم العربي، فالكثير من المؤرخين يرون أن فترة “الاستشراق” بدأت مع الحروب الصليبية ودخول نابوليون إلى مصر، وحيث أن أوروبا كانت ترى نفسها كذات قوية بقدراتها الصناعية والعقلانية لديها نفوذ قوي تعمل من خلالهعلى دراسة تراث وحضارة الآخر الغير الأوروبي والمتخلف صناعيا و عقلانيا باستعلاء كما تنظر إليه كشيء دوني لا يرقى إلى مستواها، وهدفهم من كل هذا هو تبرير وجودهم كمستعمرين لترسيخ هيمنتهم على هذه الدول.إلا أن حركات التحرر والتي ظهرت منذ خمسينيات القرن الماضي كان لها رواد ومفكرين قاوموا ببسالة مسألتي الاستعمار والاستشراق، مما أفضى بعد مقاومة طويلة وتضحيات جسيمة إلى طرد الاستعمار من هذه الدول، لكن الإستشراق بقي مستمرا،ويجدد من وسائله وآلياته ويغير من أسماءه بل حتى أنه انتقل الى مراكز أخرى كمكاتب دراسة الشرق المتواجدة في الولايات المتحدة الأمريكية، ليأخذ بعد أحداث 11 شتنبر تسمية”الاستشراق الجديد”.
الاستشراق في علاقته بالاتصال والتواصل

“إن اهتمام المستشرقين بثراتنا كان ولم يزل وسوف يبقى منهجية لفهم عدوهم. هذا التراث خريطة، صورة لذهننا وعواطفنا واهتمامنا وميولنا وما نحب وما نكره. إنهم يستخدمون تراثنا كمفتاح لفهمنا ثم يخططون لتدميرنا ثقافيا واجتماعيا وفكريا وعلميا، بعد أن هزمونا عسكريا وسياسيا”: عبد العظيم الديب، التاريخ الإسلامي 1992.

وهنا يتحدث عبد العظيم الديب عن التراث وعن الماضي، إلا أنأدوات الاتصال والتواصل التي توفرت لدينا اليوم ربما ستساعدهم على أن يسحبوا منا الحاضر والمستقبل، لأننا نتقاسم صورنا ومعلوماتنا وانتاجاتنا عبر هذه الوسائل معهم، فالتطبيقات متوفرة في كل مكان من حولنا وفي أي زمان، في منازلنا ومدارسنا ومكاتبنا ودور السينما والمعارض الفنية…،ولأن التقنيات المتطورة (كالداتا والنانو…) ربما جعلتهم يفهموننا ويرصدون تحركاتنا ويدرسون سلوكاتنا افضل مما نفهم أنفسنا، بل إن أجهزة التصنت داخل هواتفنا قد تتيح لهم مراقبة مفكرينا وعلمائنا وكل ما من شأنه أن يبرز كذات تنير دروبنا نحو التحرر والانعتاق. فنحن ننتج معلومات نصنعها، نفكر من خلال هذه الوسائل نتصورالاشياء وننجز الاعمال، ونتحاور عبر الالة بشكل افتراضي اكثر مما نتحاور بشكل مباشر في الواقع، نكتب نترجم ونشرحوهم من يمتلكون الوسائل والمعدات لبيعها كالداتا “data” أو التقنيات الرقمية والذكية.

إن ما نعيشه اليوم هو استيلاب بالمعنى الماركسي للكلمة، كما أن هناك استيلاب آخر وهو الذي نلمسه في كتابات بعض مفكرينا الذين اختاروا لعب دور الضحية التي تقع في غرام جلادها، أولئك الذين يفكرون في اتجاه أن تستمر الهيمنة ويطول الاستسلام، وكأننا عبر كتاباتهم نسمع صياح العبد الذي ذكره افلاطون في محاوراته “لا تكسرها يا سيدي، لا تكسرها ياسيدي!” حتى إذا كسر السيد يده، قال له العبد “أرأيت يا سيدي لقد كسرتها”، لأن العبد كان يعتبر يده ملكا لسيده.

إننا نتفاعل ونكشف عن أدق تفاصيل حياتنا بدءا من صورنا ومكالماتنا وتفاصيل حياتنا الخاصة وصولا إلى حسابنا البنكي، وهو تفاعل قد نرى فيه استفادة وربح،ولكنه في الحقيقة قد يكون ضد مصلحتنا، فهم يعرفون ما نفكر فيه من خلال الصور التي نهتم بها أكثر والنصوص التي نطيل في قراءتها والمواضيع التي تثير فضولنا وتشد أنظارنا، ومن هنا ربما القضاء على أي ذات عربية محتملة وهنا تكمن عبقرية الذات المهيمنة، لأن هذا التقاسم لخصوصيتنا هو ما يضمن استمرار سيطرتها علينا. ولعل السؤال الذي يمكننا طرحه ارتباطا بما سبق هو: هل فات الأوان،حتى أصبحنا اليوم دون وعي منا عراة داخل قفص لا سبيل لأن نبرحه يوما ما، أم لازال في جعبتنا قليل من الخصوصية قد تخول لنا، في يوم ما، أن نبرز كذوات؟ وهل في مقدورنا إغلاق الأبواب أم يجب أن نستسلم ونواكب هذا التطور الذي تشهده البشرية اليوم مهما كان الثمن؟

نعرف أن هناك قوانين يجب الموافقة عليها، لكن القائمة طويلة والكتابة دقيقة والقليل من الناس من يقرأها قبل الموافقة عليها، ونعرف كذلك أن منظمة”اليونيسكو” قدوضعت وثيقة المشروع الأولي لأخلاقيات الذكاء الاصطناعي لضمان حقوق الانسان داخل الفضاء الرقمي، لكننا نرجع للسؤال الأول وهو هل هي ذات تسعنا جميعا وتشملنا أم هي ذات ضيقة تخرجنا وتضعنا في عداد الموضوع؟
وهو السؤال الذي يبقى مفتوحا على نقاشات فكرية تأخذ أبعاد متشعبة ومختلفة.

✱ماستر في فلسفة المجتمع

إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبر بالضرورة عن رأي آشكاين و إنما تعبر عن رأي صاحبها.

احصل على تحديثات فورية مباشرة على جهازك ، اشترك الآن

0 0 أصوات
تقيم المقال
من شروط النشر : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

1 تعليق
الأكثر تصويتا
أحدث أقدم
Inline Feedbacks
View all comments
حمو
المعلق(ة)
26 مارس 2023 00:51

على فرض ان كل المعلومات المذكورة صحيحة فإنك لم تعطي البديل للتحرر من الهيمنة الاوروبية وكأنك تطالبين بالانغلاق وكأنه سلاح
ثم ماذا عن الهيمنة الاميركية والصينية ام انها لم توجد في عهد ديكارت

يستخدم موقع الويب هذا ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

1
0
أضف تعليقكx
()
x