مونديال الربط القارّي
عبد الحميد اجماهيري
تقدّم المغرب وإسبانيا والبرتغال بطلب تاريخي لتحقيق حلم تنظيم كأس العالم باسْم القارتين أفريقيا وأوروبا. وتتحرّك الأحلام المعرَب عنها من القادة السياسيين في الدول المعنية على خريطة الكون الكروي، بعد أن تخطّت العلاقات بين المترشّحين مطبات السياسة التي تعترض عادة مثل هذه المبادرات. والملاحَظ أن التعبير عن هذه الإرادة، والإعلان عنها، جاءا من العاهل المغربي محمد السادس، في وقت كانت الأخبار عن الربط القارّي الكروي في حكم “الإشاعات شبه المؤكّدة”. ففي رسالة مؤرّخة في 15 مارس الماضي، بمناسبة تنظيم جائزة التميّز الأفريقية في العاصمة الرواندية كيغالي، أعلن ملك المغرب عن ترشّح بلاده بشكل مشترك مع إسبانيا والبرتغال لتنظيم كأس العالم 2030. وقد كان العاهل المغربي يدرك أن هذه المبادرة “سابقة في تاريخ كرة القدم”، منذورة لكي “تحمل عنوان الربط بين أفريقيا وأوروبا، وبين شمال البحر الأبيض المتوسط وجنوبه، وبين القارّة الأفريقية والعالم العربي والفضاء الأورومتوسطي”.
وعلى التثمين السياسي نفسه، جاءت تصريحات القادة البرتغاليين والإسبان، حيث أعرب كل من رئيسي حكومتي إسبانيا بيدرو سانشيز والبرتغال أنطونيو كوستا، في التوقيت نفسه، عن دعمهما الفكرة ومساندتهما “دمج المملكة في هذه الخطة”. وأوضح سانشيز، في المؤتمر الصحافي الذي أعقب القمة الإسبانية البرتغالية، أن القرار “يضع الترشّح المشترك في ظروف أمثل للتمكّن من الفوز بهذا السباق”. واعتبر أنطونيو كوستا أن “لهذا الترشّح من شبه الجزيرة الإيبيرية والمغرب شحنة إيجابية جدا، وهو يبعث رسالة إلى العالم.
لسنا قارّتين بعيدتين، ولا نريد الانفصال، بل على العكس نريد الاحتفال بالممارسة المشتركة للرياضة”. ويتضح أن الحلم الكروي المستدير يشمل أربع دوائر جغرافية وسياسية، منها المتوسّط والعالم العربي، إضافة إلى القارّتين، وهو ما يعطيه بالفعل الطابع الاستثنائي، لكنه، في الوقت ذاته، يكشف حدود الدوائر الجيوستراتيجية الأخرى وحظوظها في مداعبة حلمٍ كهذا.
والواقع أن المغرب، الذي سبق له أن تقدّم، بشكل منفرد، بترشيح نفسه لتنظيم مونديال 2010 يتقدّم هذه المرّة بكثير من الأوراق بين يديه، وهو قد سعى، في اختراق عملي، إلى ترصيد ما حققته نخبته الوطنية في مونديال قطر، والذي سمح للكرة المغربية بالتَّماسِّ مع النجومية والانتقال إلى ترتيب عالمي يسمح بكل الطموحات. وهذا الأداء الذي ضم إليه، فَرَحًا، الدوائر الافريقية والعربية الإسلامية، قد مكّن المغرب من فرصة غير مسبوقة في “الماركتينغ الترابي”، كما يقال.
ولم يكن الاستشهاد أعلاه بما قاله قادة الدول المعنيّة من باب التسجيل الإعلامي فقط، بل هو في الواقع تسجيلٌ تاريخيٌّ للمستندات التي تستند عليها هذه الدول في مسعاها الرياضي. ونلاحظ التركيز على التمثيلية القارّية، وعلى العناوين التي تُرسل إليها الرسالة، كما تؤشّر على ما يرمي إليه القرار من ثلاثيةٍ تتجاوز الظرفي الرياضي إلى ما هو أعمق.
أولا، نحن أمام مبادرةٍ ذات طابع جيوستراتيجي، كما يستفاد من التصريحات المعتمدة، بحيث هناك رسائل عديدة في طيّاتها، منها التقارب الأفريقي الأوروبي، في زمنٍ توجد على طاولة التفاوض بينهما نقاطٌ مؤلمةٌ كثيرة، ليس أقلّها الهجرة غير الشرعية والعنف.
ثانيا، تريد العواصم أن تقدّم علاقة أخرى مغايرة نوعا ما، من صفاتها نوع من النّدِّية والمشترك الإنساني، بعيد عن أبوية أوروبية ظلت هي السائدة في علاقات الجنوب ـ شمال. ولعل المغرب، باعتباره شمال الجنوب، والبرتغال وإسبانيا باعتبارهما جنوب الشمال، يطمحان إلى تجسير الفجوة التي تكرّست بفعل سياساتٍ أوروبيةٍ كثيرة إزاء أفريقيا، سيما السياسة الفرنسية، والتي كانت بالمناسبة قد عملت على حرمان قطر من تنظيم مونديال العام الماضي، بشراسة لم تغب عن المتابعين.
بطبيعة الحال، يعدّ الطابع الشعبي لهذه المبادرة فرصة لتصريف علاقات تتجه نحو الاستقرار على قاعدة التعاون المشترك الجيوستراتيجي. وبلغة أخرى، فإن العمل الذي يتم على المستويات الاقتصادية والسياسية والأمن والتنمية والاستثمار، وقد تضاعف بشكل كبير في السنتين الأخيرتين، سيجد في المونديال التعبير الأكثر شعبية وشَساعة عما يتم بين الدول الثلاث.
فلم يكن من الوارد منطقيا المغامرة بهذا النوع من الترشيح المشترك، لولا ما حصل سياسياً بين مدريد والرباط أساسا، وهي علاقات عرفت لحظات توتّر قصوى وعالية الضغط، طالما دفعت العاصمتين إلى تقدير الموقف لجهة السلب. أما البرتغال فهي ظلت دوما على علاقاتٍ جيدة، لكنها الأضعف مع المغرب مفارقة مع الآخرين.
ومن البديهي هنا أن نشير إلى أن التتويج الرياضي سيكون صيغة تعبير عن خياراتٍ معينة بالنسبة للمغرب، فقد جرى التداول في لحظة من اللحظات عن ترشيح مغاربي مشترك، لكن الأوضاع الخاصة بكل دولة من دولِه، ثم طبيعة العلاقات المقطوعة بين الرباط والجزائر جعلت “التوجه الأفقي” على خريطة دول المغرب الكبير يترك مكانه لـ”توجه عمودي” يربط القارّتين الأوروبية والأفريقية عند طريق المغرب، وهي هوية استراتيجية مفكّر فيها في الرباط.
ومن الممرات في الترشيح الثلاثي تحقيق الربط القارّي، عبر الكرة، وهو الربط الذي يوجد على طاولة العلاقة بين إسبانيا والمغرب منذ عهد الحسن الثاني، ومرّت عليه قرابة أربعة عقود. ولم تنل منه حوليات السياسة المتقلّبة التي طبعت الجوار الإيبيري المغربي. وكان لافتا أن إسبانيا الاشتراكية سعت إلى إحياء الرابط القاري بين البلدين بعقد اللجنة الإسبانية المغربية المشتركة لمشروع الربط الثابت عبر مضيق جبل طارق، في إبريل/نيسان الماضي، في دورتها الـ43 برئاسة وزيري التجهيز والماء في البلدين.
وبحسب مخرجات اللقاء المذكور، تحدّد الهدف الرئيسي للدورة في “تحديد المبادئ والمحاور الرئيسية لمخطّط العمل المشترك 2023-2025 المتمحور حول رؤية لتقاسم التعبئة التآزرية للشبكات العلمية والتقنية، سواء على المستوى الوطني لكل بلد أو على الصعيد الدولي، من أجل الاستفادة من الإنجازات الكبرى السابقة، فضلا عن إجراء التغييرات الضرورية بفضل التطورات الحديثة في مجالات المشروع”، وهو ما يعني قطع شوط إضافي في تدقيق تحقيق المشروع.
ما هو في حكم المنطقي أن مشروع الربط القارّي الكروي الذي يرافق الربط القارّي الثابت، دليلٌ على توجّه مغربي عميق، نحو مزيد من “العمودية” في توجّهاته الاستراتيجية، نحو أوروبا ونحو القارّة السمراء، ودليل عملي على تغيّرات تهم المنطقة، سيما أن الفترة التي يتطلّبها إعداد ملفات الترشيح وتوزيع العمل بين أطرافه وما يستوجبه من ثقةٍ وندّية ونجاعة مشتركة، ستمنح الدول الثلاث سبع سنوات من العمل المشترك على قاعدة حلم حضاري كبير، يسمح بكثير من السلام والاستقرار والتعاون.
الربط القارّي في المونديال الثلاثي هو أيضا تعبير واضح عن جيوستراتيجية كأس العالم، والرياضة عموما في عالم اليوم، وفي صناعة النفوذين، المعنوي والمادي، وفي تدقيق التوزيع الدولي للعمل الإقليمي، وقد يتيح الفرصة للمغرب الكبير للتفكير في نفسه من زاوية ضرورة وجوده، خدمةً لشعوب المنطقة.
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبر بالضرورة عن رأي آشكاين وإنما عن رأي صاحبها