لماذا وإلى أين ؟

هل تعيق العربية عملية التواصل بين الطبيب والمريض؟ .. بروفيسرور يجيب

أحيانا، يواجه بعض المرضى في علاقتهم مع الطبيب إشكالية تواصلية تتعلق بالوعاء اللغوي للمفاهيم الطبية المرتبطة بحالتهم الصحية، تتعمق كلما تدنى المستوى التعليمي لدى المريض مما يؤثر على نجاعة العلاج.

في حوار أجرته معه وكالة المغرب العربي للأنباء، يسلط أخصائي الطب التنفسي ومدير مركز طب النوم الجامعي بفاس، البروفيسور محمد البياز، مؤلف كتاب “المعجم الطبي المفهومي، أصالة وتجديد (فرنسي-عربي)”، الضوء على إشكالية التواصل بين الطبيب والمريض، وجذورها، وسبل معالجتها بما يعزز جودة العلاج.

1- بحكم خبرتكم في مجال الطب، ممارسة وتدريسا، كيف تقاربون إشكالية التواصل بين الطبيب والمريض بالمغرب في علاقتها باللغة المستعملة؟

إن تدبير الحالة الصحية للمريض يتطلب عملية تواصلية سليمة، لا يمكن أن تنجح دون لغة مفهومة من طرف الطبيب والمريض على حد سواء. فرغم كون الطبيب والمريض مغربيين فإن لغة التدريس في كلية الطب، وهي اللغة الفرنسية تصعب العملية التواصلية، فيضطر الطبيب إلى أن يقوم بدور المترجم دون أن يكون مكونا لذلك.

فالطبيب يجد نفسه مضطرا إلى ترجمة كلام المريض إلى اللغة الفرنسية بما يحتويه من معاناة وأعراض، لينتقل إلى ترجمة ثانية للمعلومات الطبية من الفرنسية إلى العامية المغربية. وهذه الترجمة والترجمة العكسية تتكرر خلال كل عملية تواصلية مما قد ينتج عنه أخطاء في فهم حديث المريض وفي تشخيص المرض، وبالتالي القرارات التي يتخذها الطبيب.

وقد يواجه الطبيب صعوبات في إيجاد المصطلحات المناسبة للتواصل والتحدث بلغة تمزج بين الفرنسية والعامية المغربية، ما يعطي الانطباع، أحيانا، لدى المريض أن الطبيب لم يفهم معاناته، ويضعف بذلك ثقته في مؤهلاته. وتتجلى مخاطر اختلال العملية التواصلية في كونها تؤثر في كل مراحل تدبير المرض؛ بدءا من التشخيص الذي يتطلب فهما سريريا واضحا واختبارات تكميلية ملائمة، وانتهاء بالعلاج وتقييم نتائجه.

2- صدر لكم مؤخرا مؤلف بعنوان: “المعجم الطبي المفهومي، أصالة وتجديد (عربي-فرنسي)” ، ما الهدف من هذا الإصدار؟ وإلى أي حد يمكن أن يسهم في تجويد العلاقة التواصلية بين المريض والطبيب؟

إن إشكالية العملية التواصلية في المجال الطبي تبدأ في مرحلة التدريس قبل مرحلة التواصل مع المريض. فرغم كون الأستاذ مغربيا والطالب مغربيا، فلغة التواصل بينهما هي اللغة الفرنسية. وتثبت التجارب في الدول المتقدمة أهمية التدريس باللغة الأم. فالتدريس وإيصال المعلومة يحمل جانبا معرفيا وجانبا وجدانيا ضروريا لتلقين المعارف والمهارات لدى الطالب الطبيب. والتلقين باللغة العربية من شأنه أن يجنب الطبيب والمريض المغربيين صعوبة العملية التواصلية عند التدريس بغيرها.

فتدريس الطب باللغة العربية لا يتعلق فقط بترجمة المصطلحات العلمية الأجنبية، ولكن بترجمة المفاهيم التي تحملها، وتداولها في النص الطبي التلقيني للطالب والنص التربوي والتحسيسي للمريض، حتى لا تتحول الترجمة العربية لمصطلحات العلوم الكونية، ومن بينها العلوم الصحية، إلى مجرد ترف فكري ومجال لنقاش عقيم لا يفضي إلا إلى فوضى مصطلحية.

في اعتقادي أصبح من الضروري وضع منهجية واضحة لتوليد المصطلحات العلمية العربية قابلة للتعميم على مختلف العلوم الكونية، وقادرة على مسايرة ما يستجد فيها. من هنا انبثقت فكرة تأليف المعجم المفهومي للعلوم الطبية الذي على أساسه بدأت بإشرافي على سلسلة من الأطروحات العربية في الطب وتوجت بإصداري لكتاب “المعجم الطبي المفهومي، أصالة و تجديد”.

3 – هل يعود اعتماد اللغة الفرنسية في تدريس الطب إلى عجز بنية اللغة العربية على مسايرة مستجدات العلوم الحديثة ؟

أغلب الدول المتقدمة تدرس العلوم باللغة الأم، وكثير منها لها لغات لا يتكلمها إلا عدد قليل من السكان مثل الدول الاسكندنافية، ومع ذلك فهي لا تعتبر هذا الأمر حاجزا أمام اعتماد اللغات الأم كلغات للتدريس، مع استعمال الإنجليزية في البحث العلمي والتواصل مع باقي العالم في هذا المجال، فكيف نتهم اللغة العربية بالعجز!؟ وهي التي يفوق مخزونها اللغوي والمصطلحي أغلب لغات العالم، ومن بينها اللغتان الإنجليزية والفرنسية، ويرجع ذلك لعدة مزايا، منها الرصيد المتراكم تاريخيا في المعاجم والكتب اللغوية والعلمية التراثية إبان أوج الحضارة الإسلامية، وقدرة البنية الاشتقاقية للعربية، من خلال الأوزان الصرفية ودلالاتها، على توليد مختلف المصطلحات انطلاقا من المفاهيم العلمية الحديثة ومسايرة ما استجد منها، فضلا عن الإمكانيات التي تتيحها آليات أخرى كالنحت والاستعارة والتعريب والتبسيط.

4 – ما هي المنهجية التي اعتمدتموها في تأليفكم للمعجم الطبي المفهومي؟

من خلال مؤلف المعجم الطبي المفهومي حاولت توظيف كل الميزات، الآنفة الذكر، التي تنفرد بها اللغة العربية لوضع منهجية سميتها منهجية الترجمة المفهومية التي تستنبط المصطلح العلمي انطلاقا من المفاهيم العلمية المتواجدة في التعريف العلمي للمصطلح الأعجمي. فيتم استعمال تلك المفاهيم لإيجاد مصطلح عربي مفهومي يتميز بالدلالة العلمية الواضحة والاختصار وسهولة التداول والمرونة الصرفية؛ ذلك أن أغلب الترجمات الحديثة تعتمد على الترجمة الحرفية للمصطلح الأعجمي دون النظر في مفهومه فينتج عن ذلك عدة مساوئ من بينها، عدم الأخذ بعين الاعتبار المفاهيم العلمية للمصطلح، والحشو بترجمات صعبة التداول دون استنفاد آليات اللغة العربية، ثم عدم تلبية حاجة المستعمل عند عدم إلمام المترجم بالدلالة العلمية المتداولة للمصطلح وتطبيقاته.

تحتاج الترجمة المفهومية إلى عدة مراجع يسهل الآن استعمالها بفضل التقنيات الحديثة، وأهمها المراجع العلمية الطبية الأعجمية، وكتب التراث العلمي العربي، مثل القانون في الطب وأمهات معاجم اللغة العربية التراثية، ومخزون القرآن والسنة، ومخزون العاميات خاصة الدارجة المغربية الأصيلة. كما لم نبخس حق الترجمات السابقة مثل المعجم الطبي الموحد لمنظمة الصحة العالمية من خلال تنقيح بعض مصطلحاته.

تمكن منهجية المصطلح المفهومي في إيجاد معجم مفهومي لكافة التخصصات العلمية الكونية بشكل موحد وممنهج وقادر على مسايرة التطورات العلمية. هذه المصطلحات تتميز بمعايير الدلالة العلمية والاختصار وسهولة التداول والمرونة الصرفية.

إن نجاعة تدبير الحالات الصحية كما رأينا رهين بالعملية التواصلية بين المريض والطبيب، كما أن تكوين الطبيب المغربي الملم بالمعلومات الطبية والمتقن للمهارات التدبيرية الصحية رهين بنجاح العملية التواصلية بين الأستاذ والطالب في الطب. ولا يمكن تحقيق الهدفين التواصليين إلا بإعطاء اللغة العربية وهي اللغة الأم والرسمية في بلادنا مكانتها الرسمية اللائقة بها في التعليم في مختلف مراحله.

فلا بد من إغناء المخزون اللغوي للطلبة في مختلف مراحل التعليم من الأولي إلى المستوى الجامعي حتى يسهل استعمال اللغة العربية كلغة لتدريس العلوم الكونية. هذا لا يعني عدم الاهتمام باللغات الأخرى خاصة اللغة الإنجليزية كلغة في البحث العلمي. فالمصطلحات الطبية لا تمثل في أقصى حد سوى 10 في المئة من محتوى النصوص العلمية كتابة أو نطقا والتي يمكن ترجمتها وتوفيرها للتداول و التواصل.

5 – كيف السبيل إلى معجم طبي موحد على الصعيد العربي؟

لقد قامت مجمعات اللغة العربية في الوطن العربي بمجهودات رائدة في ترجمة المصطلحات الطبية من خلال عدة معاجم شملت عدة تخصصات علمية منذ القرن الماضي، ومن أهم المعاجم “المعجم الطبي الموحد” الذي تصدره منظمة الصحة العالمية فرع الشرق الاوسط والذي مر عبر عدة مراحل من نسخة ورقية إلى نسخة إلكترونية، ويشرف عليه عدة متخصصين سواء في المجال الطبي أو المجال المصطلحي.

ويأتي المعجم الطبي المفهومي لمعالجة مشكل تعدد المنهجيات في توليد المصطلح باقتراح منهجية موحدة تمزج بين الأصالة والتجديد مع استثمار كل آليات اللغة العربية، والذي آمل في أن يكون نقطة انطلاق نحو معاجم أخرى علمية متخصصة وإصدار نماذج تطبيقية تلتزم بهذه المنهجية من خلال تحيين مقررات الطب التي سبق أن أشرفت على ترجمتها، واستكمال ترجمة مقررات أخرى في مجال تدريس الطب.

إن المشكلة لا تكمن في توحيد المصطلحات، وإن كان ذلك ضروريا، ولكن في عدم تداولها مما يجعلها لا تتركز في الأذهان، لتصبح عرضة للتغيير وتعدد الترجمات باستعمال فوضوي سواء في وسائل الإعلام أو برامج التكوين المحدود، ويبقى من الضروري وجود مشروع عربي موحد لتدريس العلوم الكونية باللغة العربية، يضمن تداول المصطلحات وتركيزها وتعميمها بما يعيد للغة العربية مكانتها في المشاريع التنموية.

احصل على تحديثات فورية مباشرة على جهازك ، اشترك الآن

0 0 أصوات
تقيم المقال
من شروط النشر : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

1 تعليق
الأكثر تصويتا
أحدث أقدم
Inline Feedbacks
View all comments
Salim
المعلق(ة)
21 نوفمبر 2023 09:13

و حتى يكون المريض يعرف العربية بعدا !

يستخدم موقع الويب هذا ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

1
0
أضف تعليقكx
()
x