2024 © - أشكاين جميع الحقوق محفوظة - [email protected]
ذ . عبد المالك العسري
بين الحاضر والماضي قاسم مشترك هو صورة، تدون التاريخ، تحفظ الذكريات، تصبح مع مرور الأيام والسنين شاهدا على الأحداث، تتراكم لتغدو أرشيفا وتراثا…
لعل الذين يعشقون فن التصوير الفوتغرافي يستشعرون حجم الخسارة وهم يمرون بشارع سيدي احمد التلمساني ، إغلاق استوديو بنونة كيف نتنكر بكل سهولة لصاحبه المرحوم الحاج محمد بنونة وهو من خدم الثقافة القصرية عامة و فن التصوير خاصة.
عندما نتحدث عن المرحوم الحاج محمد بنونة فإننا نتحدث عن نموذج لفنان واسع الاطلاع على فن التصوير ، نتحدث عن عصامي حفر اسمه ، نتحدث عن عزيمة ثابتة لرجل صنع اسمه وكون نفسه وأصبح نموذجا يحتدى.
من مواليد القصرالكبير سنة 1932 بباب الواد من اسرة بنونة إحدى الآسر الفاسية التي استوطنت المدينة، تربى في منزل جده من أمه الحاج بنجلون، حفظ القران الكريم ولا تزال ذاكرته تذكره بطقوس الاحتفال بختمه للقران. التحق بالمدرسة الأهلية ونال الشهادة الابتدائية، إلا أن عالم التجارة كان يستهويه. مارس العديد من أنواع التجارة الصغيرة وتنقل بين العديد من أسواق المنطقة، يقتني أول آلة تصوير التي كان ينتقل بها ويلتقط صورا لأماكن ولأشخاص. بحي القشاشين يفتتح محلا لبيع الإطارات ولم يتخل عن شغفه بالصورة ، هذا الشغف استرعى انتباه مصور المدينة الاسباني “ريكالد “الذي شغله وفوت له محله بشارع محمدالخامس، فالصورة كانت بداية بالأبيض والأسود، وتبقى الصورة سواءً كانت بالأبيض والأسود أم الملون، شاهداً على الحنين والذكريات، فيما تتحول “الكاميرا” في يدي محترفها إلى ريشة، والمصور إلى فنان، والاستديو إلى محترف فني. فالتصوير ليس مجرد “لقطة” أو “إطار ”، إنما فن راق وإبداع ونافذة للعودة إلى الماضي بوصفها أرشيفاً فضلا عن كونها مهنة لكسب العيش الكريم.
للقصر الكبير حكاية مع مصور عايش محطات مهمة من ذكرياتها، دوّن لحظات من تاريخها بالصورة . أتقن التصوير مهنة وهواية، عشق لقطات صوره الكثيرون ، هاهو يرحل آخر آخر الرعيل الأول وأقدم مصوري المدينة، وما زال حتى اليوم يحتفظ بالاستديو القديم الكائن في شارع الزنايدية كما هو، بأبوابه وواجهاته الزجاجية وأرشيفه النادر، و”النيغاتيف الذي رتبه وفق السنين. أراد أن يبقى كل شيء على حاله، هنا كان يعيش الماضي وذكرياته ويشعر بالتراث والتاريخ.
كان استوديو بنونة ملاذا آمنا في مجتمع محافظ، يسمح لنا بأن نمارس خيالاتنا وأحلامنا أمام الكاميرا للوصول إلى صورة تعجبنا. في الأستوديو ننفصل عن محيطنا لنصبح أكثر انتماء لأنفسنا وأحلامنا.
من منا لا يذكر بالكثير من الحنين مدارسنا حينما كنا ننتظر المصور ليأخذ لنا صورا جماعية كان ذلك اليوم يوما احتفاليا ويوم عيد لنا.
في رأيه “أن التصوير فن راقٍ، تقول عنه ابنته الصديقة أمينة بنونة ” كان ينظر إلى الإنسان ووجهه ويعاين الجانب الأنسب لجهة التصوير قبل تصويره ، ويحاول دوماً إخفاء عيوب الوجه وهو أول من ادخل فن الفوتوشوب كان يضع صور الأشخاص ضمن صور أخرى للطبيعة أو الكتابة على الصورة قبل شيوع الحاسوب”، وثق بالصورة أحداثا عرفتها المدينة، ولعل أقوى الأحداث التي وثقها بحب زيارة المرحوم محمد الخامس للمدينة فجر الاستقلال ولحظة التعبئة للمسيرة الخضراء ، ولحظة عودة المتطوعين، وفيضانات نهر لكوس، تضيف ابنته السيدة أمينة بنونة ، كما اخذ صورا لسياسين ومثقفين خلال زياراتهم للمدينة، في أرشيفه صور لزعماء عبد الخالق الطريس، علال الفاسي وغيرهم.. صور لأبطال رياضيين وفنانين، صور وجهاء المدينة وبسطائها. تحتفظ صوره بملامح الزمان والمكان، وتفاصيل الأحداث الموثقة بصريا، بحيث استطاعت أن توثق أجمل اللحظات وأسوأها مع الاحتفاظ بجمالية من نوع آخر. تلك الصور التي نعود إليها ونستدعي فيها طفولتنا البعيدة ونستدعي وجوها غابت، ألفناها ونحن صغارا تثير بداخلنا مشاعر متداخلة هي اقرب إلى حب تلك الوجوه.
كل هذه الصور عكست جوانب عدة من حياة الناس بالمدينة، كما عكست جوانب من تاريخها وبعضها يقدم رؤية لواقع الناس وما يزخر به من تناقضات وظواهر. إنها صور اهتمت بالتفاصيل الحياتية وترجمت أحاسيس مبدعها ومشاعره، وهو يتفاعل مع ما يحيط به من أحداث ومعمار وأمكنة وأناس وغير ذلك.
بأسلوب فني جميل يظهر تمكن الحاج محمد بنونة من أدوات التعبير الفوتوغرافي ويعكس اطلاعه الواسع على ثقافة وهموم عصره.
وهو بلا شك واحد من الرواد الذين ساهموا في اشراقة وجه المدينة :رحم الله الحاج محمد بنونة.
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبر بالضرورة عن رأي آشكاين وإنما عن رأي صاحبه.