لماذا وإلى أين ؟

لا تحولوا القضية الفلسطينية في المغرب إلى اختبار زائف للوطنية والانتماء …

قاسم البسطي

رغم التحول الكبير الذي عرفته القضية الفلسطينية وانتقالها إلى قضية إنسانية وأممية، لا تزال النقاشات المرتبطة بها في السياق المغربي محاطة بجملة من المفارقات المعقدة، التي تكشف عن توتر متزايد في فهمنا الجماعي لهذه القضية وفي تمثلنا لأبعادها الأخلاقية والسياسية.

لقد أدت مشاهد الحرب والإبادة الجماعية في قطاع غزة إلى تعبئة عالمية واسعة عبر من خلالها ملايين البشر عبر العالم، من مختلف الديانات والهويات، عن رفضهم للانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان وعلى رأسها الحق في الحياة، وتجلى ذلك في المسيرات الحاشدة عمت عواصم العالم، حيث رفع العلم الفلسطيني من قبل مناصري العدالة ورافضي الحروب، دون أن تكون مشاركتهم مشروطة بالانتماء العربي أو الإسلامي.

ورغم هذا الطابع الكوني الذي بدأت تكتسبه القضية، يلاحظ في المغرب ميل مقلق لإعادة حصرها داخل ثنائيات ضيقة: عروبة مقابل أمازيغية، إسلامية مقابل علمانية، أو حماس مقابل صهيونية. إن هذه الثنائيات لا تتناسب مع حقيقة تعددية الهوية المغربية، بل تهدد بإنتاج تقاطبات داخلية تحول دون بناء وعي وطني متماسك قادر على التعاطي مع القضايا الدولية من منظور أخلاقي وإنساني شامل.

لقد كانت القضية الفلسطينية في الذاكرة الجماعية المغربية، ولفترة طويلة، قضية وطنية، رمزا للوحدة القيمية والسياسية بين مختلف مكونات الشعب المغربي. لكن التحولات الجيوسياسية، وتزايد الاستقطاب الإيديولوجي، وتداخل المصالح الإقليمية والدولية، ساهمت في تشظي هذا الإجماع، مما يطرح سؤالا جوهريا: كيف تحولت قضية يفترض أن تكون موحدة إلى مصدر استقطاب داخلي قد تكون له آثارا سلبية هنا؟

يجب التأكيد على أن للمغاربة هويتهم المركبة والمتعددة، فهم أمازيغ وعرب ، وينتمون إلى مجتمع تشكل عبر قرون من التعايش بين الأديان والثقافات. من هنا، فإن التعامل مع القضايا الدولية، وعلى رأسها القضية الفلسطينية، يجب أن يتم ضمن إطار يحترم هذه التعددية ويحميها، لا أن يوظفها لخلق خطوط تماس داخلية تعيد إنتاج منطق “نحن” ضد “هم”.
كما أن التحليل الموضوعي يتطلب منا أن نرفض بشكل مبدئي كل أشكال القتل والإبادة، ليس فقط في فلسطين، بل في كل بقاع العالم. لكن رفضنا للقتل لا يعني أن ننخرط بشكل عاطفي غير نقدي في صراعات تتداخل فيها أجندات إقليمية ودولية، ويصعب أحيانا التمييز فيها بين من يقاوم ومن يزايد، بين من يضحي ومن يستثمر في الألم.
إن اختزال النقاش في المغرب إلى تأييد حركة بعينها أو الانخراط في خطاب صهيوني تطبيعي، هو تعبير عن تبسيط مخل لا يليق بحجم وتعقيد المأساة الفلسطينية، ولا يعكس النضج السياسي المفترض في سياقنا الوطني. نحن لسنا مضطرين للوقوع في فخ الثنائيات القاتلة؛ من حقنا أن نتضامن مع المدنيين الفلسطينيين، وندين الاحتلال، دون أن نصبح أدوات دعاية لهذا الطرف أو ذاك.

في النهاية، تبقى القضية الفلسطينية قضية إنسانية بامتياز، تتجاوز الجغرافيا والدين، ويجب أن تناقش داخل المغرب بروح النقد المسؤول، وباستحضار مصلحة الوطن، ووحدة نسيجه، واستقلالية مواقفه. فلا يجوز أن تصبح هذه القضية، برمزيتها التاريخية، أداة لإعادة إنتاج انقساماتنا الداخلية أو اختبارا زائفا للوطنية والانتماء.

إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبر بالضرورة عن رأي آشكاين وإنما عن رأي صاحبها

احصل على تحديثات فورية مباشرة على جهازك ، اشترك الآن

من شروط النشر : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

3 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments
محمد
المعلق(ة)
5 مايو 2025 11:29

الأمر فعلا بسيط ولا يجب النظر الى ان التعقيد فيه دكاء وغزارة في العلم …وحتى ان فعلا تعقدت الامور وجب الرجوع إلى الابجديات والأصل هو ان الوطن اولا والسب والشتم لا يجدي نفعا وليس حوارا

احمد
المعلق(ة)
4 مايو 2025 20:05

خطاب متميز لا يفهمه إلا الراسخون في النضج السياسي والثقافي، وكلمة حق ليس عليها جواب.

ابو زيد
المعلق(ة)
4 مايو 2025 15:51

كم جميل أن تخرج التحاليل عن مستنقع التموقع…مقال موفق.

يستخدم موقع الويب هذا ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

3
0
أضف تعليقكx
()
x