لماذا وإلى أين ؟

في رثاء فاتح ماي

د. خالد فتحي
منذ سنوات، وأنا أقطن بمحاذاة الشوارع التي تحتضن كل عام تجمعات فاتح ماي. ولذلك ، اعتدت أن أخرج في هذا اليوم لأراقب مشهدًا طالما تكرّر: حشودٌ هادرة، شعارات صاخبة، أهازيج متقدة، وحماس جماعي كان يمنح لهذا العيد رمزية صلبة وحيوية نادرة. لكن هذا العام، بدا لي كل شيء باهتًا، كأنني لا أشهد عيد الشغل، بل أحضر طقسًا تمثيليًا يحاكيه من دون روح. شعرت شعور من يعاين هزيمة جماعية ماحقة للنقابات.

المسيرات التي كانت فيما مضى تجسيدًا لقوة الشغيلة، تحوّلت إلى تجمعات شاحبة. كمشات قليلة من الناس تتفرق بين عمال حقيقيين ومتفرجين عابرين. رأيت فيما رأيت سياسيين فقدوا الصلة بالجماهير، يتقدمون الصفوف على استحياء،كأنهم جذوع ايديلوجيات خاوية لفظها الواقع. بدا لي بعض قادة النقابات ممن راكموا امتيازات ريعية داخل التنظيمات ،وهم يخطبون بكلمات خشبية، مألوفة، مستهلكة، خالية من الحماسة والإقناع.
كانت الشعارات خافتة، والأصوات واهنة، كأنها تهمس بدل أن تهتف، كما لو أن المشاركين أنفسهم يتمنون في أعماقهم أن يطوى هذا الطقس سريعا، ليعودوا إلى صمتهم وإلى منازلهم .
وهنا ينطرح سؤال وجيه : ماذا جرى للعمل النقابي حتى غدا هكذا منهكًا، هشًّا، ومفتقِدًا لما كان له من عنفوان؟
هل أصابته الشيخوخة، فشاخ معه فاتح ماي ، بعدما خلّد بعض القياديين في مواقعهم لعقود مغلقين الباب أمام تجديد النخب وضخ دماء شابة قادرة على مواكبة التحولات؟… قادة عمروا طويلا حتى أضاعوا كاريزميتهم ،وحتى مسخوا الفعل النقابي من عقيدة ونضال إلى مهنة واحتراف وصنعة.
أم أن النقابات حين غابت مواقفها في المحطات المفصلية، فقدت ما تبقّى من شرعيتها الرمزية والأخلاقية؟
لامراء أن هذه العوامل الداخلية مسؤولة عن هذا الانهيار ، لكنها ,و على اهميتها , لا تكفي كي تفسر هذا الأفول. فثمة بالتأكيد سياقات أعمق وأعقد تعيد تشكيل العمل والتمثيل النقابي في العالم، وضمنه المغرب.

العولمة، وقد تحوّلت إلى منظومة اقتصادية عابرة للحدود، أفرزت فاعلين جددًا: شركات كبرى تتنقل من بلد إلى آخر في لمح البصر، تبحث عن أرخص الأيدي العاملة و عن أضعف التشريعات الاجتماعية. هذه الشركات لا تتحمّس للنقابات، بل تتهرّب منها، وتختار دولًا تتعسر فيها ممارسة الإضراب، ويسهل فيها تفكيك الاحتجاجات. والدول تعرف في دواخلها هذا، فتتكيف مع هذه الديناصورات الاقتصادية، والنتيجة ان يتم تجريف الأرضية التي كانت النقابات تقف عليها وتبني بها قدرتها على التفاوض والتأثير والضغط .

فوق ذلك، لقد تغيّر وجه سوق الشغل نفسه. لم يعد العمال كتلة صلبة يمكن تأطيرها في المعمل أو المؤسسة. نحن اليوم أمام “سيولة للعمل ” غير مسبوقة: عمل عن بُعد، عمل جزئي، عقود محدودة، شغل هش، وتناوب دائم على المهن،بل وانقراض لكثير من المهن بسسب الذكاء الاصطناعي. هذا التفتت البنيوي جعل من التنظيم النقابي مهمة صعبة جدا . كيف يمكن لنقابة أن تُعبّئ من لا يجمعه إطار مهني ثابت أو مكان عمل مشترك او انظمة عمل موحدة ؟.
في مواجهة هذا الفراغ التمثيلي، ونظرا للاختلالات التي تعيشها النقابات ،بدأت تظهر “التنسيقيات” كبدائل مؤقتة، مشكّلة من فئات مهنية محددة، وغالبًا ما تنشأ خارج الهياكل التقليدية.

هي و لاشك ،محاولة بقدر ما تعبّر عن حيوية اجتماعية، فإنها تفضح في الآن ذاته أزمةً عميقة في مشروعية النقابات، التي لم تعد تُقنع جمهورها التاريخي، ولا تستطيع ابتكار لغة جديدة للتعبئة.
ولأن الطبيعة لا تحتمل الفراغ، وجد العمال أيضا فضاءً آخر يعوّض الشارع: الفضاء الرقمي.

في عصر الشبكات، بات العامل قادرًا على التعبير عن مظلمته وإبلاغ صوته عبر المنصات الاجتماعية، دون وساطة تنظيمية، ودون حاجة إلى الاصطدام مع الحواجز الأمنية أو القيود البيروقراطية. لم تعد المسيرة في الشارع شرطًا لرفع المطالب، فأفضل منها بكثير “هاشتاغ” ناجح أو حملة إلكترونية محكمة التنظيم.

وربما، في العمق، لم يعد المجتمع المغربي – كما غيره من المجتمعات – صراعيًا بنفس الدرجة التي كان عليها في القرن الماضي . تحسن وضع الناس،و تراجعت الحساسيات الطبقية، وتبدّلت أولويات الأفراد، وانتقلت أدوات النضال من الشارع إلى العالم الرقمي، ومن الجماعة إلى الفرد، ومن الشعارات العامة إلى المطالب الخاصة. لم يعُد الناس ينتظرون الفرج من النقابات، بل صاروا يبحثون عن حلول مرنة، مبتكرة، خارج الأطر التقليدية التي فقدت بريقها.

قد انتهى فاتح ماي إذن بشكله المعهود ، وقد لا يعود أبدا كما عرفناه، يومًا جارفًا بالحشود والهتافات والأعلام. لكنه قد يعود في صورة أخرى، أكثر تواضعًا، وأكثر واقعية، يحتفي فيها الناس بكرامتهم وهم يبتكرون أشكالًا جديدة من النضال.
ربما لن نراه مجددًا في المسيرات المنظمة، ولكن قد نلمحه في مبادرات مدنية رقمية، أو تنسيقيات مرنة، أو في تحوّل هادئ في وعي المجتمع بحقوقه ووسائل الدفاع عنها.

فالتاريخ لا يُعيد نفسه، لكنه لا يُنكر جذوره. والنضال الاجتماعي، وإن غيّر شكله، لا يموت. بل يتجدّد، وينبعث من رماده، كلما ظنّ الناس أنه انتهى.

إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبر بالضرورة عن رأي آشكاين وإنما عن رأي صاحبها.

احصل على تحديثات فورية مباشرة على جهازك ، اشترك الآن

من شروط النشر : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments

يستخدم موقع الويب هذا ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

0
أضف تعليقكx
()
x