لماذا وإلى أين ؟

لماذا تسوء أخلاق الناس مع التديّن المتشدد؟

من الظواهر الملفتة للانتباه تزايد التدهور القيمي والأخلاقي في المجتمعات التي عرفت ارتفاعا ملحوظا لمنسوب التدين المتشدّد، الذي يركز على مظاهر اللباس والأشكال الخارجية وغيرها من السلوكات التي تدخل في إطار المحافظة، والتي ترتبط أيضا بتزايد العنف ـ الرمزي والمادي ـ تجاه الآخر المختلف.

إن أول ما نلاحظه في تحليل هذه الظاهرة هو الخلط الكبير الموجود لدى الناس ـ بمن فيهم بعض أعضاء النخبة ـ بين الدين والأخلاق، حيث ثبت في أذهان الكثيرين بأن الأخلاق إنما يعكسها دين معين، وأنه كلما كان الإنسان متدينا أكثر كان أكثر صلاحا وتحقيقا للفضيلة المثلى، بينما الحقيقة أن الأخلاق أعم من الدين ، ولا تقاس به، ولهذا فجميع المؤلفات الكبرى في الأخلاق، التي عرفها تاريخ الفكر الإنساني منذ الحضارة اليونانية، إنما ألفها فلاسفة وليس رجال دين، فمن كتاب “الأخلاق إلى نيكوماخوس” كتاب “أرسطو” الشهير، عبر كتاب “آراء أهل المدينة الفاضلة” لـ”الفارابي”، و”تهذيب الأخلاق” لـ”ابن مسكويه”، إلى “نقد العقل العملي” لـ”كانط”، و”ما وراء الخير والشر” لـ”نيتشه”، وانتهاء إلى “نقد العقل الأخلاقي” لـ”الجابري”، كلها مؤلفات تعكس بأن الأخلاق لم تكن قط إشكالية دينية، بل كانت إشكالية عقلانية تربط السلوك البشري بمبادئ وقيم يتم إدراكها بالعقل، ولهذا ميز الفلاسفة في القيم العليا بن قيم الحق والخير والجمال  واعتبروا أن قيم الحق تخص العدالة، وقيم الجمال تخص الإبداع الفني وملكة الذوق والمتعة، بينما أكدوا على أن قيمة “الخير”، إنما تتمثل في السعي إلى بلوغ الفضائل عبر فعل الخير لذاته.

ولا يعني ما ذكرناه أن الأديان لا تتحدث عن الاخلاق او تشير إليها أو تحث عليها وفق منظورها، لكن قصدنا في تفسير الظاهرة التي أمامنا هو أن الاخلاق داخل منظومة دينية تكتسي طابعا خصوصيا يختلف تماما عن الطابع الكوني الذي تتصف به الاخلاق بمفهومها الفلسفي، ونظرا لأن الأديان ظهرت في سياقات تاريخية مختلفة ومتباعدة، فلا شك أن منظورها للأخلاق قد عكس الكثير من تفاصيل تلك السياقات وقيمها، كما أن الطابع النسبي للأخلاق والقيم، يجعلها تتغير بل قد تنقلب من زمن إلى آخر، بينما تظل التعليم الدينية على حالها، مما أدى في كثير من الأحيان كما هو الحال في الظاهرة التي امامنا، إلى تعارض واضح بين الاخلاق كما هي متعارف عليها إنسانيا ومبادئ دينية خصوصية، وهذا ما يفسر أن بعض السلوكات الناتجة عن التدين تصبح مصادمة للوجدان الأخلاقي الإنساني، كمثل شرعنة العنف ضدّ النساء باعتباره “تأديبا” للمرأة كما قال الفقهاء، وكمثل سوء معاملة غير المسلمين وفق عقيدة الولاء البراء، وكمثل الغش في الأموال وشؤون الأسرة الذي يمارسه أعضاء الجالية المسلمة في البلدان الغربية باعتبار أموال الكفار حلالا على المسلمين، وكمثل اعتبار قيم الجمهورية في أوروبا مثل الحريات والمساواة بين الجنسين متعارضة مع الدين والعقيدة الإسلامية مما ينتج عنه تصادم كبير بن مسلمي  المهجر والمجتمع المضيف، حيث تبين أن بعض الاخبار الواردة في كتب الحديث لها تأثير سلبي جدا على أخلاق المسلمين في عصرنا، كمثل الحديث القائل:” لا تبدأوا اليهود والنصارى بالسلام، وإن جاء أحدهم في طريق فاضطروه إلى أضيقه” (صحيح مسلم)، وهو سوء معاملة واضح منافي للأخلاق وللسلوك الفاضل كما هو متعارف عليه، لكنه يكتسي هنا طابعا مقدسا لا ينظر فيه المسلم إلى نتائجه وطبيعته بل إلى مصدره فقط، حيث تصبح قاعدة أولوية الدين على الإنسان، إحدى أكثر القواعد سلبية التي رسخها الفقهاء والدعاة في أذهان الناس.

ويصبح الأمر أكثر فداحة عندما تترسخ مجموعة من السلوكات بوصفها نموذجا أخلاقيا عبر “تقاليد المجتمع” التي هي مزيج من التمثلات و ترسبات الوعي والسلوك وتراكم التجارب التي تكرس مجموعة من الاختيارات الجماعية بحكم الزمن فتصبح ذات سلطة إكراهية على الأفراد، وهي تقاليد يتداخل فيها الديني والاجتماعي بالمعتقد الخرافي ونظام المصالح الشخصية والفئوية، ويتم تبرير تلك التقاليد اللاإنسانية جميعها تبريرا دينيا حتى تكتسب الشرعية المطلوبة رغم طابعها السلبي، كما يحدث في ختان البنات و تزويج الطفلات القاصرات وضرب النساء والهروب من العمل بذريعة الصلاة ومقاومة المعارف العلمية وإنكارها وعدم احترام الفضاء العام والتدخل في حريات الآخرين بنوع من الوصاية، ورفض الاختلاط واعتبار المرأة “عورة” صورة وجسدا وصوتا مما يجعل السلام عليها أمرا مذموما، و كراهية غير المسلمين والسعي إلى فرض نمط حياة معينة على الجميع سواء عبر الوعظ الشرس والعنيف أو من خلال الضغط على الأفراد وإرهابهم و تهديدهم لكي يؤدّوا شعائر معينة أو مقاطعتهم وحرمانهم من مكاسبهم داخل المجموعة بسبب اختلافهم، أو نشر الإشاعات الكاذبة ضد الأشخاص او التنظيمات بذريعة حماية الدين والذود عنه، إلى غير ذلك مما يبدو أمرا مستحسنا لدى المتدينين المتشدّدين، لكنه في الحقيقة يعتبر من مساوئ الأخلاق في عصرنا.

هكذا يبدو أننا بحاجة إلى إعادة النظر في مفهوم الأخلاق عبر التذكير بنسبيتها، وبأن القاعدة الأخلاقية ليست نصا ثابتا خارج الزمان والمكان، وبأن الغاية من الفضائل هو الترقي بالوجود الإنساني نحو الأفضل، مما يستدعي نوعا من “أنسنة” الأخلاق برد الاعتبار للحس السليم ولمبدأ “الواجب”، وللإنسان باعتباره كرامة قبل كل شيء.ذ

إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبر بالضرورة عن رأي آشكاين و إنما تعبر عن رأي صاحبها.

احصل على تحديثات فورية مباشرة على جهازك ، اشترك الآن

من شروط النشر : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

4 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments
مريمرين
المعلق(ة)
16 مايو 2025 17:36

يقول رسول الرحمة ﷺ “أدَّبني ربي فأحسن تأديبي” . سيظل الإسلام شامخا رغم كيد الكائدين و الذين يختبئون وراء “الحريات الفردية” و وراء إنكار السنة النبوية و وراء
ما يُسَمونه “الديانة الإبراهيمية”

Chopin
المعلق(ة)
16 مايو 2025 16:28

الياكوشية مذهب عميل مسترزق يختبأ وراء الحركة الحقوقية لتخريب الملةو العباد والبلاد…والمشكل انه يلقى دعما خارجيا وداخليا حيث لا يمر يوم دون أن يطل علينا زعيمهم هذا بابتسامته البلهاء وشعره الاشعث يمارس عهرا عقائديا طال أمده باستفزاز المشاعر و تشويه التاريخ الإسلامي في سيرورة من اللقاءات البلهاء. يزعم دائما أن عبدة الإله ياكوش من ديانته هم من علموا اسياده الأوروبيين الرياضيات و الهندسة والطب والفلسفةوالموسيقى…كما زعم انهم علموا سكان المغرب من غير الياكوشيين اللباس والنسيج والتطريز والنقش على الخشب والجبص و الزليج الفسيفساء و فن العمارة و البناء و التشييد ،و فن الطبخ ..أما العرب الدخلاء فقد دخلوا بلاد الغرب الإسلامي فاتحين كالتاتار جاءوا بدين منغلق بئيس مثل ضحكتك البلهاء . لقد عمل هذا “المفكر”على تلفيق التخلف وما جاوره من سيادة التفاهة وانحطاط التعليم و رداءة الحياة السياسية و العمل الحزبي،الحزبي، وتفشي البطالة والمحسوبية و الرشوة، وانتشار أنماط الدعارة واللواط..لما جاد به صحيح البخاري والسجع القرآني و تراهات السنة النبوية و فتاوى العلماء على حد زعمه.يا له من بؤس يعيشه اللقيط عقائديا

ابو زيد
المعلق(ة)
16 مايو 2025 01:06

مع كل الاحترام لشخص هذا الرجل…
لكنه لا يستطيع النبش بكلمة دون ان يغلفها بحقده على الدين و المتدين..!!
لكنه لم يقدم لنا يوما اي نقد للضفة التي يقف فيها…!!
على اي لا يهم توجهه او اساءته لشخص المتدين يبقى انه لا يقدم اي خدمة للمجتمع لانه يتحاشى التطرق لما يهم الشعب!!
لان مهمته محددة و لا يمتلك شجاعة المثقف الغيور على ابناء وطنه!!

Dghoghi
المعلق(ة)
16 مايو 2025 00:39

هؤلاء الظلاميين المتشددين يعيشون عقدة التفوق اي وهم التفوق الأخلاقي على الآخر بأسم الدين، ليس لهم بعد فكري بل لهم بعد تاريخي.. وان الأخلاق منظومة في كل المجتمعات لها علاقة بالفكر والنضج وبالعلوم ولا علاقة لها بالدين..

يستخدم موقع الويب هذا ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

4
0
أضف تعليقكx
()
x