هل نجح الإسلام السياسي في المغرب؟
احتل “الإسلام السياسي” مكانة بارزة في المشهد السياسي المغربي منذ بزوغ فجر استقلال المملكة عن الاستعمار الفرنسي، حيث اختلفت تمظهراته وطرق انتشاره وأساليب ممارسته، مما أفرز العديد من الأقطاب، أولها حضور “الإسلام السياسي” في النظام الملكي المغربي، ثم بروز حركات وجماعات اسلامية (جماعة العدل والإحسان، حركات سلفية…)، ووصولا إلى أحزاب سياسية ذات مرجعية اسلامية، لعل أهمها في الوقت الراهن حزب “العدالة والتنمية” الذي يتصدر المشهد السياسي المغربي.
ظهور الإسلام السياسي في المغرب، أثّر – بما لا يدع مجالا للشك- في الحياة السياسية على مدى عقود من الزمن، سواء في ما يخص العلاقة التي جمعت بين أقطابه المذكورة سلفا، أو في علاقته مع المجتمع المغربي، على اختلاف روافده ومكوناته، مما أفضى إلى نتائج انعكست على المستوى التنظيمي لتلك الحركات والجماعات والأحزاب…
هذا الموضوع، يطرح العديد من التساؤلات حول ما إذا كان النظام المغربي قد استطاع احتواء نشاط العديد من التنظيمات الإسلامية وانفراده بتسيير الحقل الديني، تحت مظلة إمارة المؤمنين. كما يمكن التساؤل حول ما إذا كانت تجربة الإسلام السياسي قد عرفت نجاحا في المغرب، ومدى تجاوب المجتمع المغربي وتأثره بها.
الملكية أقوى تمثيلية للإسلام السياسي في المغرب
ففي هذا السياق، يعتبر المؤرخ المغربي المعطي منجيب، أن “أول قوة تمثل الإسلام السياسي في المغرب هي الملكية ويتمظهر ذلك عبر مؤسسة إمارة المؤمنين، والخطاب السياسي الرسمي المبني عن الدين، وإقصاء المعارضين ضمنا أو صراحة باسم الدين، واستعمال المساجد لإذاعة ونشر قرارات الملكية السياسية كدعوة المواطنين للتصويت بنعم على دستور 2011 في خطبة الجمعة بالمساجد”، ثم يضيف منجيب “نرى استعمال الإسلام كذلك من طرف الملكية في السياسة الدينية والتربوية وفي الديبلوماسية”، أما القوى الأخرى التي تستعمل الإسلام السياسي، فيرى نفس المتحدث، أنها “تتمثل في الاحزاب وخصوصا الإسلاميةً منها لكنها تستعمله الآن، أي منذ السنوات الأخيرة، بحدة أقل من الملكية بل إن بعض مسؤولي العدل والإحسان والبيجيدي أصبحوا يدعون إلى فصل الدين عن السياسة وتحديد الدولة المدنية كهدف استراتيجي بينما يستمر النظام إلى جانب الاتجاه السلفي في اعتبار الدين مرجعية ايديولوجية أساسية لا يمكن التخلي عنها بأي حال من الأحوال”.
هل نجحت تجربة الإسلاميين في نشر الفكر الإسلامي بالمغرب؟ سؤال نقله الموقع الإلكتروني “آشكاين” للمعطي منجب، فرد:” نعم نجحت الملكية منذ أواخر الستينيات و الحركات الإسلامية منذ السبعينيات في نشر الخطاب السياسي الاسلامي بين صفوف المجتمع وذلك على نطاق واسع”، كما يرى المؤرخ المغربي، أن “الحركات الإسلامية بدأت تتراجع على المستويين التنظيمي والممارساتي، ولكنها مازالت قوية إذا ما قارناها بالاتجاهات الإيديولوجية المنافسة”.
الثلاثون سنة الاخيرة، يوضح منجيب “أظهرت أن المغاربة تجاوبوا بإيجابية كبيرة مع القوى التي دعت وعملت عبر التربية والإعلام والتنظيم- إلى إعادة أسلمة المجتمع المغربي وكأنه لم يكن مسلما قبل ذلك وعلى رأس هذه القوى، الشبيبة الإسلامية والفصائل التي خرجت من رحمها كالبيجيدي، والعدل والإحسان، والملكية-إمارة المؤمنين”..
التأثير الخارجي على التجربة المغربية
وفي تقييمه لتجربة الإسلام السياسي في المغرب، يقول المفكر والكاتب سعيد ناشيد، “إنه جزء لا يتجزأ من تجربة الإسلام السياسي في سائر أنحاء العالم، فقد نجح في الاستفادة من المعارك التي خاضها الآخرون غير أنه لم يغنم غير الإفلاس في الحساب الأخير، واستفاد من أجواء الحرب الباردة إبان النصف الثاني من القرن العشرين، حيث كان الجهاد الأفغاني المنحاز إلى أمريكا هو بداية العد العكسي لانهيار الاتحاد السوفياتي. ثم قدم نفسه بعد ذلك كأداة فعالة للتخلص من الأنظمة البعثية والناصرية ( مصر، سورية، العراق ). وبالمصادفة قامت أطروحة المحافظين الجدد على أساس أن الإسلام السياسي إذا ما تم ترويضه فقد يكون أكثر فائدة للديمقراطية من “خصومهم” اليساريين والبعثيين والناصريين والشيوعيين والأتاتوركيين وغيرهم…”
وبعد ذلك، يضيف ناشيد في حديث مع “آشكاين”، “نجح الإسلام السياسي في تسويق نفسه كبديل ممكن عن الإسلام الجهادي الذي تغول وأصبح خطرا عالميا. وهنا بالذات لعب يوسف القرضاوي، وطارق رمضان، وعمرو خالد، وغيرهم، أدوارا طلائعية في تسويق صورة جديدة للإسلام السياسي. ثم استفاد عديد من رموز الإسلام السياسي من دورات تكوينية في بعض عواصم الغرب، مع الحصول على منح وتمويلات سخية، وذلك بعد أن نجحوا في تسويق أنفسهم كبديل ممكن عن الإرهاب العالمي”.
“لقد سوّق الإسلام السياسي نفسه لدول الخليج كأداة “سنية” في مواجهة “الخطر الإيراني”. وخلال ما كان يسمى بالربيع العربي وقع الرهان محليا ودوليا على الإسلام السياسي لغاية استعادة الأمن والاستقرار مع حفظ مصالح المؤسسات المالية الدولية”. غير أن المآل، يستدرك ناشيد “جاء مخيبا في الأخير، حيث بدأ الإرهاب العالمي يضرب دول الشمال بعد أن دمرت الفتنة العديد من دول الجنوب، ومجمل القول أن ثمة إفلاس للرهان على الإسلام السياسي والذي تحول إلى جزء من المشكلة بدل أن يكون جزء من الحل”.
ويشدد المفكر سعيد ناشيد على “أن الإسلام السياسي نجح إلى حد بعيد في التسرب إلى دواليب الإدارة الرسمية، ومجالس الجامعات، وداخل الأروقة الحيوية لوزارة الثقافة، دون أن ننسى وزارة التربية الوطنية والتي تعدّ الهم الأكبر للإسلام السياسي لما توفره من إمكانات دعوية واستقطابية لا توفرها سائر الوزارات الأخرى”.
إسلام مهووس بالسلطة
وهنا يسوق متحدث “آشكاين” مثالا، بقوله: “إن الإطلاع على مقررات التربية الإسلامية يبين إلى أي حد تمكنت الإيديولوجية القطبية والقرضاوية من اختراق مقررات التعليم في عهد حكومة العدالة والتنمية بالمغرب، ثم أنّ الإسلام الإيديولوجي المهووس بالسلطة قد نجح إلى حد بعيد في مزاحمة الإسلام الشعبي، الذي يتشكك في مشروعية الاحتفال بأعياد المولد، أو جواز تهنئة النصارى في أعيادهم، أو مشاركتهم طعامهم ( باستثناء لحم الخنزير وهو الاستثناء الوحيد)، أما الآن، مع تغول الإسلام الإيديولوجي، فقد أصبح الاستثناء هو القاعدة”.
وبخلاف ما ذهب إليه المعطي منجب، فسعيد ناشيد يرى ” أنه لن تتجاوب مع الإسلام السياسي إلا أقلية قليلة، من المجتمع المغربي لكن المشكلة أن الأمر يتعلق بأقلية منظمة كالبنيان المرصوص، وقائمة على منطق الولاء والبراء، فقد يظهر لنا أنصار الإسلام السياسي في ظاهر الأمر كأن قلوبهم شتى، وفرقهم شتات، لكنهم ساعة العزم والحسم يقفون وقفة رجل واحد بكل أطيافهم، من السلفيين إلى الجهاديين إلى الإخوانيين. وبهذا الشكل يحسمون نتائج الانتخابات، ويحسمون أهم المعارك لصالحهم، وعموما، كل ما نجح فيه الإسلام السياسي في بلدنا المغرب هو تقسيم المجتمع على أساس إيديولوجي بين إسلاميين ومسلمين. وهذا ليس وضعا سويا في آخر المطاف؛ فقد تكون له نتائج وخيمة آجلا أو عاجلا”.
الدولة استنبتت التنظيمات الإسلامية!
الكاتب والباحث في شؤون الإسلام السياسي والإرهاب، سعيد لكحل، “يرى أن الدولة عملت منذ سبعينيات القرن العشرين على استنبات التنظيمات الإسلامية ودعمها في المغرب ، كما وفرت لها المساجد ومكّنتها من الكليات والجامعات حتى تجفف منابع الحركة اليسارية لتتحول الجامعات إلى فضاءات لنشر إيديولوجيا الإسلام السياسي وكذا تخريج أطر حمالة هذه الإيديولوجيا لإعادة نشرها في مؤسسات الدولة والمجتمع، وهذه الإستراتيجية التي نهجتها الدولة خدمت بشكل أساسي إستراتيجية أسلمة المجتمع التي نهجتها وتنهجها فصائل الإسلام السياسي، ونحن اليوم نلمس هذه الأسلمة على نطاق واسع في المجتمع وفي مؤسسات الدولة؛ فلم يعد الإسلامي ذاك المنخرط في تنظيمات إسلامية ، بل أيضا الذي يحمل ثقافة وإيديولوجيا هذه التنظيمات، وعلى هذا المستوى نجحت تجربة الإسلام السياسي في اختراق الدولة والمجتمع والمؤسسات والإعلام والمساجد والأحزاب والجمعيات المدنية”.
وعن مدى نجاح الإسلاميين في نشر هذا الفكر، يقول لكحل في تصريحه لـ”آشكاين”، إنه “لم يكن هدف الإسلاميين نشر الفكر الإسلامي بقدر ما كان هدفهم نشر إيديولوجيا الإسلام السياسي، وإعادة تشكيل ذهنية المجتمع بحيث يعتمد على نفس الأحكام ويتبنى نفس القيم ويتخذ نفس المعايير التي يستعملها الإسلاميون في الحكم على الأشياء أو تحدد زاوية نظرهم للأمور”، وفي هذا الصدد يسوق الكحل مثالا، إذ يؤكد “أنه لم يكن خطباء الجمعة ولا المجتمع ينشغلون بالاختلاط في الأماكن العامة وفي الشواطئ قبل منتصف السبعينيات من القرن العشرين، واليوم لا تخلو خطبة جمعة أو موعظة خصوصا عند اقتراب فصل الصيف من فتاوى التحريم والتنفير والتبغيض، كما لم يعهد مجتمعنا خطاب تحريم الفنون والموسيقى مثلما يحدث الآن، ونفس الشيء فيما يتعلق بلباس النساء والإناث”.
الإسلاميون يروضون الدولة!
وعلى النقيض تماما مما أشار إليه المتدخلان منجيب وناشيد، يقول الكحل:” شخصيا أرى أن الإسلاميين هم من يروّضون الدولة ونجحوا إلى حد كبير في هذا؛ فحتى البرلمان يرفع جلساته العلنية وقت الصلاة، كما لو أن الانكباب على مصالح المواطنين ليس عبادة، وكذلك الإعلام الرسمي يوقف برامجه لإذاعة الأذان وصلاة الجمعة، فضلا عن قوانين وتشريعات وبرامج إعلامية وتعليمية ودينية مررها الإسلاميون”.
ويخلص نفس المتحدث إلى أن “خطة الإسلاميين هي أسلمة الدولة والمجتمع، ومهما كانت الأمور التي حققوها على مستوى التشريع تبدو بسيطة فهي مهمة للغاية ما دامت استراتيجيتهم تعتمد مبدأ التدرج، وسيكون من الصعب على الدولة تحجيم الإسلاميين أو التخلص منهم بعد أن أضعفت الأحزاب الديمقراطية وأفسدت نخبها”، ثم يختم الكحل بالقول:” لقد أسْلموا فئات واسعة من المواطنين حتى وإن لم تنضم إليهم وتنخرط في هيئاتهم، فالتجربة الحزبية والسياسية لم تقدم البديل الذي ينافس الإسلاميين في القرب من المواطنين والتفاعل معهم ويسمح لهم باختيار الأفضل على مستوى الخطاب والممارسة”.
ويمكن القول، أن تجربة الإسلام السياسي في المغرب قد نزلت بكل ثقلها على مكونات المجتمع كما تسللت إلى دواليب الدولة، التي استطاعت إلى حد بعيد احتواء نشاط العديد من هذه التنظيمات الإسلامية سواء عن طريق حصر مجال اشتغالها أو عبر تهميشها وتجاهلها؛ وهنا يمكن ذِكر مسلسل شد الحبل بين جماعة العدل والإحسان والسلطة، وبالمقابل لا يمكن إغفال التقارب الحاصل بين هذه الأخيرة وحزب “البيجيدي” الذي كان أغلب قادته منتمين للحركة الإسلامية قبل عقدين من الزمن، والتي عُرفت بمواقفها التي لا تروق النظام المغربي.