لماذا وإلى أين ؟

العجز التجاري الهيكلي في المغرب: تشريح اقتصادي لاختلال مزمن

د. إدريس الفينة*

بالنظر إلى الأرقام الأخيرة، يبدو أن المغرب ينزلق تدريجياً في دوامة من العجز التجاري المتفاقم، مما يثير تساؤلات جدية حول استدامة نموذجه الاقتصادي. فبين عامي 2020 و2024، تضاعف العجز التجاري تقريبًا، منتقلاً من 159.7 مليار درهم إلى 306.4 مليار درهم. وتؤكد معطيات مارس 2025 استمرار هذا المسار، حيث سجل العجز ارتفاعًا بنسبة 17% مقارنة بنفس الفترة من السنة الماضية. هذه الدينامية ليست ظرفية، بل هي بنيوية، وتعكس خللاً عميقاً يتطلب قراءة اقتصادية دقيقة، بعيدًا عن المسكنات التقنية والبلاغات التبريرية.

  1. فشل إنتاجي لبنية اقتصادية غير متماسكة

جوهر المشكلة يكمن في أن الاقتصاد الوطني لا ينتج ما يستهلك، ولا يصدر ما ينتج. فالنسيج المقاولاتي المغربي يهيمن عليه نمطان من الفاعلين: الأول مرتبط بالطلبيات العمومية، والثاني متمحور حول الاستيراد وإعادة البيع في السوق المحلية. باستثناء بعض القطاعات القليلة (كالسيارات والفوسفات والطيران)، تظل الغالبية الساحقة من النشاط الاقتصادي محصورة في منطق ريعي أو خدماتي غير تنافسي. إنه شكل من أشكال الرأسمالية المحلية المروّضة، التي تبحث عن الحد الأدنى من البقاء بدل المجازفة والغزو الخارجي.

في هذا السياق، تحوّلت اتفاقيات التبادل الحر – بدل أن تكون رافعة للقدرة التنافسية – إلى عامل تعميق للهشاشة التجارية. وغالبًا ما يُفهم العجز الناتج عنها على أنه نتيجة لسوء تصميمها. غير أنني أؤكد مرارًا أن الخلل لا يكمن في نصوص الاتفاقيات بل في طريقة تفعيلها. مثال اتفاقية التبادل الحر مع الولايات المتحدة يوضح ذلك: فرغم كون المغرب البلد الإفريقي الوحيد المستفيد منها، إلا أنه لم يتمكن من استغلالها استراتيجياً، بسبب ضعف بنيته الإنتاجية وغياب دبلوماسية تجارية هجومية.

  1. درهم مغالى فيه… مرآة مشوهة للطلب

العامل الثاني، والذي يتم تجاهله غالبًا في النقاش العمومي، يتعلق بسعر صرف الدرهم. فمن المفترض أن يؤدي العجز التجاري المزمن إلى ضغط هبوطي على قيمة العملة الوطنية. لكن الاستقرار المصطنع للدرهم، المدعوم باحتياطات العملة الصعبة (القادمة من تحويلات الجالية والاستثمارات الأجنبية)، يتيح للمغرب الاستمرار في الاستهلاك بما يتجاوز إمكاناته الفعلية. وهذا يعطي انطباعًا زائفًا بالثراء، ويكرّس تبعية للمنتجات المستوردة تشمل المعدات، والمنتجات المصنعة، والطاقة، والمواد الفلاحية.

في حالة السماح للدرهم بأن يعكس حقيقته السوقية، فإن ذلك سيجعل الواردات أكثر تكلفة، مما يشجع على التصنيع المحلي والتعويض الإنتاجي. غير أن ذلك يتطلب إصلاحًا هيكليًا لنظام الصرف، والذي لا يزال مضبوطًا ضمن نطاق ضيق للتقلب. دون هذا التعديل النقدي، سيظل العجز التجاري يستنزف ميزان المدفوعات بشكل غير مستدام.

  1. وهم استراتيجيات مستوردة الصنع

من الوهم الاعتقاد أن استراتيجيات قطاعية مصممة بشكل نمطي، وغالبًا بواسطة مكاتب خبرة أجنبية لا تدرك الواقع المغربي، يمكن أن تصلح هذا المسار. منذ عقدين، والمغرب يطلق الخطط: مخطط الإقلاع الصناعي، المغرب التصديري، مخطط التسريع الصناعي… دون أن يلامس ذلك الأعطاب الحقيقية: ضعف الاندماج المحلي، بطء الارتقاء التكنولوجي، هشاشة الطاقة، التبعية التقنية، وغياب تمويل استثماري طويل الأمد.

تبقى الصناعات المغربية هامشية، متركزة في مناطق حرة وتُشغل كمراكز فرعية لشركات متعددة الجنسيات تصدر بأسعار منخفضة دون إعادة استثمار حقيقي داخل البلاد. في المقابل، تظل القيمة المضافة الوطنية ضعيفة، وتتعثر سلاسل القيمة الداخلية. ولهذا، تسجل الصادرات نمواً طفيفًا (+1.5% حتى مارس 2025)، بينما تواصل الواردات ارتفاعها السريع (+6.9%).

نحو تصحيح استراتيجي شامل

الحل لا يكمن في الانغلاق الحمائي أو الهروب النقدي إلى الأمام. بل يتطلب الأمر إعادة تأسيس شاملة للسياسات التجارية والصناعية، ترتكز على ثلاث محاور:
1. إعادة التوجيه الإنتاجي: دعم المقاولات الوطنية المصدرة، وتشجيع الصناعات الوسيطة، وبناء منظومات صناعية متكاملة قادرة على التطور التكنولوجي.
2. إصلاح نظام الصرف: منح الدرهم هامش تقلب أوسع يعكس الواقع الاقتصادي، مع إرساء سياسات تعويض اجتماعي لحماية الفئات الهشة.
3. سيادة استراتيجية: إعادة بناء التخطيط الاقتصادي من الداخل، عبر إشراك الجامعات ومراكز التفكير والخبراء المحليين، عوض الارتهان لخبرات أجنبية معزولة عن الخصوصية المغربية.

العجز التجاري في المغرب ليس قَدَرًا حتميًا، بل هو مرآة لنموذج اقتصادي يفتقر إلى البوصلة. ولن يتحول هذا العجز إلى فرصة استراتيجية إلا إذا استعاد المغرب قراره الإنتاجي، وأعاد الاعتبار لمفهوم السيادة الاقتصادية بمضامين فعلية.

*أستاذ الاقتصاد بالمعهد الوطني للإحصاء والاقتصاد التطبيقي، ورئيس المركز المستقل للتحليلات الاستراتيجية

الآراء الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي “آشكاين” وإنما عن رأي صاحبها.

احصل على تحديثات فورية مباشرة على جهازك ، اشترك الآن

من شروط النشر : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

1 تعليق
Inline Feedbacks
View all comments
احمد
المعلق(ة)
25 مايو 2025 12:32

عنصر آخر ينخر الاقتصاد ويقوض مقدرات الانتاج ويكرس العجز ويبدد الاموال هو الفساد المركب، الذي تعجز آليات الرقابة الحالية على محاربته.

يستخدم موقع الويب هذا ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

1
0
أضف تعليقكx
()
x