2024 © - أشكاين جميع الحقوق محفوظة - [email protected]
تشيّع مغاربة بلجيكا يصطدم بتقاعس المجلس الأوروبي للعلماء المغاربة

مراسلة من بروكسل
في قلب العاصمة الأوروبية بروكسل، يتعاظم حضور المكوّن الشيعي ضمن الجالية المسلمة بشكل لافت، ويشمل ذلك امتدادًا تدريجيًا داخل أوساط المغاربة المقيمين في بلجيكا. ورغم محدودية الأعداد مقارنة بالغالبية السنية، إلا أن ما يشبه “المد الشيعي الناعم” يثير تساؤلات عن جذوره، أدواته، ومآلاته في مجتمع يعيش على تقاطع الحرية الدينية، الهجرة، والسياسة.
مد شيعي صامت وسط غالبية سنية
في بلد تحتضن أراضيه قرابة المليون مسلم، يأتي المكوّن الشيعي ليحتل موقعًا متقدمًا من حيث التنظيم والحضور المؤسساتي، وإن ظل عدد أفراده محدودًا نسبيًا. التقديرات غير الرسمية تشير إلى وجود ما يقارب 20 ألف شيعي في بلجيكا، يتوزعون بين عراقيين ولبنانيين وإيرانيين، إلى جانب معتنقين أوروبيين ومغاربة على وجه الخصوص.
ويُعتقد أن عدد المغاربة الذين اعتنقوا أو تعاطفوا مع الفكر الشيعي يتراوح بين 5000 و 7000 شخص، يتكونون معظمهم من عائلات بأكملها ومن الشباب من الجيل الثاني أو الثالث من أبناء الجالية، ويتجمعون أساسًا في بلديات العاصمة بروكسل مثل أندرلكت ومولمبيك، وكذلك في مدن شارلوروا وأنتويرب.
مؤسسات دينية برعاية إيرانية ولبنانية
في المشهد الشيعي البلجيكي، تلعب المؤسسات الدينية والثقافية دورًا أساسيًا في نشر المذهب وتعزيزه داخل أوساط الجالية. ومن بين أبرز هذه المؤسسات، نجد “مسجد الإمام الرضا” في أندرلكت، الذي يُعتبر من أقدم المساجد الشيعية في البلاد، وسبق أن تصدر عناوين الصحف بعد جريمة إحراق المسجد من أحد السلفيين التي أودت بحياة الإمام الشيعي المغربي عبد الله الدهدوه سنة 2012. وقد نُقل جثمانه إلى مدينة طنجة المغربية حيث مسقط رأسه ودُفن فيها.
كذلك تنشط “حسينية الرسول الأعظم” و”مركز أهل البيت الإسلامي الثقافي”، وهما مركزان دينيان يوفران محاضرات ودروسًا باللغة الفرنسية والعربية والإنجليزية، ويستقطبان معتنقين من خلفيات سنية أو غير مسلمة. ويلاحظ أن هذه المؤسسات تتلقى دعما تنظيميا وفكريًا من مرجعيات دينية في إيران ولبنان، كما تشارك في تنظيم فعاليات كعاشوراء ويوم الغدير، والتي تعرف حضورًا كثيفًا.
المغاربة الشيعة: هوية جديدة في بيئة سنية
التحول نحو التشيع داخل الجالية المغربية لا يُعلن غالبًا بشكل صريح. فغالبية المعتنقين له يتجنبون المجاهرة بخياراتهم المذهبية، نظرًا لاعتبارات اجتماعية أو أسرية، بينما يفضّل آخرون عرض تحولهم باعتباره قناعة فكرية أو سياسية تتجاوز الانتماء الديني التقليدي.
بعض هؤلاء ينشط في الدفاع عن المذهب عبر الإنترنت أو في النقاشات الخاصة، ويبرر اختياره بما يعتبره “عمقًا روحيًا وتاريخيًا” في الفكر الشيعي، مقارنة بما يصفونه بـ”الجمود الفقهي” في المرجعيات السنية التقليدية.
ويشكل هذا الواقع تحديًا داخل الجالية المغربية التي ظلت لعقود تُعرف بولائها للمذهب المالكي. كما أن التحول يحمل أحيانًا طابعًا سياسيًا؛ حيث يتقاطع عند البعض مع موقف رافض لسياسات الخليج ومتعاطف مع خط “الممانعة” المتمثل في إيران وحزب الله.
مؤسسات دينية مغربية غائبة عن المعركة
في المقابل، تبدو المؤسسات السنية المغربية في بلجيكا عاجزة عن تقديم رد فعال أو خطاب منافس أمام ما يعتبره البعض “تمددًا مذهبيًا منظمًا”. وعلى رأس هذه المؤسسات، يوجد “المجلس العلمي للعلماء المغاربة بأوروبا”، ومقره بروكسل، وهو الجهة الدينية المفترض بها تمثيل الإسلام المغربي السني المالكي.
لكن رغم أهمية موقعه ودوره الرمزي، فقد أثار هذا المجلس في وقت سابق كثيرا من الجدل واللغط في الصحافة البلجيكية بعد تداعيات فضائح مالية سابقة، كاتهامات بدور غير واضح في إدارة الموارد المالية واستقالات متتالية لبعض أطره الغاضبين من طريقة تدبير المؤسسة. كما يشكو كثير من أفراد الجالية من ضعف أداء هذا المجلس وغياب حضوره في الواقع اليومي وفي الإعلام، سواء في التأطير الديني، أو في مواجهة الخطابات المتطرفة أو الفكر الدخيل. بالإضافة إلى أن غياب كوادر شابة قادرة على مخاطبة الجيل الثاني والثالث بلغة منفتحة وفعالة، زاد من فجوة التواصل بين المجلس والجالية، تاركًا المجال فارغًا أمام التيارات المتطرفة والشيعية والدعوية الأخرى.
من بلجيكا إلى المغرب: التشيع العكسي
ظاهرة لافتة أخرى تتمثل في انتقال التأثير الشيعي من الجالية إلى الداخل المغربي. فبعض المعتنقين للمذهب الشيعي من الجالية المغربية في بلجيكا لا يترددون في مشاركة أفكارهم ومراجعهم مع أقاربهم في المغرب، سواء عبر شبكات التواصل الاجتماعي أو من خلال إرسال كتب ومنشورات، أو حتى عبر الزيارات الصيفية التي تتحول في بعض الأحيان إلى جلسات دعوية غير مباشرة، حسب بعض المهتمين.
هذا “التشيع العكسي” المفترض يطال في كثير من الحالات مناطق في شمال المغرب، خصوصًا بين أفراد العائلات التي لها امتداد مهاجر في أوروبا. ويجري الترويج أحيانًا لأفكار متعلقة بالإمام المهدي، والتقليد المرجعي، والاحتفال بعاشوراء، في بيئات لم تكن يومًا على تماس مع هذه الممارسات، حسب دائما عدد من المهتمين بالشأن الديني في المهجر.
المستقبل بين التحصين والتجاهل
في ظل هذا المشهد، تبقى الأسئلة مفتوحة حول مستقبل التشيع بين الجالية المغربية في بلجيكا، ومدى تأثيره في السنوات القادمة. فهل سيبقى في إطاره الفردي المحدود؟ أم سيتحول إلى ظاهرة منظمة عابرة للقارات تغذّيها التحولات الجيوسياسية والانقسامات الطائفية في العالم الإسلامي؟
الأكيد أن استمرار غياب وعجز المؤسسات المغربية وعلى رأسها “المجلس العلمي للعلماء المغاربة بأوروبا” عن ساحة المواجهة الفكرية، وترك الحقل الديني مفتوحًا أمام التأثيرات الخارجية، سيجعل من التشيع واحدًا من تحديات الهوية الدينية والثقافية الجديدة للمغاربة في بلجيكا وأوروبا.