2024 © - أشكاين جميع الحقوق محفوظة - [email protected]

بقلم د ادريس الفينة
تعتمد الجزائر منذ عقود على دعمها المطلق لجبهة البوليساريو في نزاع الصحراء المغربية كجزء أساسي من سياستها الإقليمية. غير أن هذا الدعم لم يأتِ دون كلفة على النظام الجزائري نفسه؛ فبدلًا من تعزيز نفوذ الجزائر، ساهم في إضعاف مصداقيتها وإرهاق مواردها. يستعرض هذا التحليل الاستراتيجي كيف أدّت سياسات الجزائر المرتبطة بالبوليساريو إلى نتائج عكسية، وذلك عبر أربعة محاور رئيسية: أولًا، التحالفات المشبوهة للبوليساريو مع أنظمة وجهات مثيرة للجدل (النظام السوري السابق، وإيران، وحزب الله) عبر القنوات الجزائرية الرسمية، وتأثير ذلك على سمعة الجزائر. ثانيًا، الإنهاك الاقتصادي والاستراتيجي الناجم عن سباق التسلح ودعم البوليساريو عسكريًا على حساب الأولويات الداخلية. ثالثًا، الأعباء المالية والفساد المترتبة على تمويل البوليساريو ورشوة بعض الجهات دوليًا، وتأثير ذلك على ميزانية الدولة ورفاهية الشعب الحزائري. وأخيرًا، تقويض مصداقية الجزائر عربيًا ودوليًا نتيجة هذه السياسات، خصوصًا في ظل التحولات الجيوستراتيجية الأخيرة في المنطقة.
التحالفات المشبوهة مع سوريا وإيران وحزب الله وتآكل المصداقية
شهدت السنوات الماضية انخراط جبهة البوليساريو في علاقات وثيقة مع كل من النظام السوري وحلفائه إيران وحزب الله، بغطاء مباشر أو غير مباشر من الدبلوماسية الجزائرية. وقد كشفت تقارير حديثة عن تعاون عسكري سري بين البوليساريو ونظام بشار الأسد إبان الحرب الأهلية السورية. ففي عام 2012، أبرمت الجزائر اتفاقًا سريًا مع دمشق والبوليساريو لنشر مقاتلين صحراويين لدعم قوات الأسد ضد المعارضة . وتوضح وثائق استخباراتية مسرّبة أن وزارة الدفاع الجزائرية نسّقت هذه العملية عبر مراسلات رسمية مع نظيرتها السورية . بل إن وفدًا أمنيًا سوريًا زار مخيمات تندوف والتقى بقيادة البوليساريو لتفعيل الاتفاق، فيما وصف مسؤول بوليساريو آنذاك معارضي الأسد بأنهم “قوى شريرة” . يُذكر أن سوريا اعترفت رسميًا بـ”الجمهورية الصحراوية” منذ عام 1980 وأقامت علاقات دبلوماسية معها ، ما وفّر أساسًا لهذه الروابط المشبوهة. لكن هذه العلاقة أضرت بصورة الجزائر عالميًا، إذ وُضعت في خانة الداعمين لنظام منبوذ عربيًا لعقد من الزمن. وحتى مع عودة سوريا مؤخرًا للحاضنة العربية، فإن انكشاف دور البوليساريو في القتال بسوريا أثار شكوكًا حول تورط الجزائر في صراعات خارجية على حساب مبادئ عدم التدخل .
في السياق نفسه، تورطت البوليساريو في تحالف سري مع إيران وحزب الله اللبناني عبر الأراضي الجزائرية. وقد بلغ الأمر ذروته عام 2018 عندما قطعت المغرب علاقاتها الدبلوماسية مع إيران متهمةً طهران بتسليح وتدريب مقاتلي البوليساريو بالتعاون مع حزب الله وعبر السفارة الإيرانية في الجزائر . وصرّح وزير الخارجية المغربي آنذاك أنه قدّم أدلّة على شحنات أسلحة إيرانية (من بينها صواريخ SAM9 وستريلا المضادة للطائرات) تم تمريرها إلى البوليساريو بـ”تواطؤ” من السفارة الإيرانية في الجزائر . ورغم نفي حزب الله وإيران لهذه الاتهامات ووصفها بأنها تأتي تحت ضغوط “أمريكية وإسرائيلية وسعودية” ، فإن مجرد شبهة انخراط الجزائر في محور إيران-حزب الله أضرَّ بعلاقاتها مع دول عديدة. فقد أعلنت جامعة الدول العربية دعمها لقرار المغرب قطع العلاقات مع إيران بسبب دعمها للبوليساريو ، ما عزل الجزائر في محيطها العربي الخليجي. وبات يُنظر للجزائر كطرف يُمرر أجندات إيرانية في شمال أفريقيا، مما قوّض مصداقيتها كشريك محايد سواء لدى دول الخليج أو القوى الغربية التي تصنف حزب الله منظمة إرهابية. وعلى الرغم من محاولات المسؤولين الجزائريين نفي هذه “الادعاءات المغربية” ، إلا أن تراكم هذه المؤشرات عزز صورة الجزائر كداعم لتحالفات مشبوهة ومناهضة للتيار الدولي السائد.
خلاصة الأمر أن التحالفات الدبلوماسية والعسكرية غير التقليدية التي انخرطت فيها البوليساريو عبر القنوات الجزائرية الرسمية أضعفت موقف الجزائر الأخلاقي. فهي تدعي دعم “حق تقرير المصير” في الصحراء المغربية، لكنها في المقابل اصطفت مع أنظمة وجماعات أثارت القلاقل الإقليمية. وهذا التناقض أفقد الجزائر تعاطفًا كانت تتمتع به سابقًا كدولة عدم انحياز، وأثار تساؤلات حول أجندتها الخفية لدى دول المنطقة والعالم.
الإنهاك الاقتصادي والاستراتيجي بسبب سباق التسلح ودعم البوليزاريو
دفعت المواجهة الطويلة مع المغرب حول قضية الصحراء المغربية الجزائر إلى سباق تسلّح مُرهِق أنهك اقتصادها وأولوياتها التنموية. فقد ضخت القيادة الجزائرية موارد هائلة لتحديث ترسانتها العسكرية بهدف دعم البوليساريو وردع المغرب، مما جعل الإنفاق العسكري للجزائر الأكبر في أفريقيا بفارق واضح . وفقًا لبيانات معهد SIPRI للسلام، ارتفع الإنفاق العسكري الجزائري في عام 2024 إلى 21.8 مليار دولار (زيادة 12٪ عن العام السابق) مدفوعًا بارتفاع عائدات الطاقة . هذا الرقم الضخم يشكل حوالي 21٪ من إجمالي الإنفاق الحكومي للسنة، أي أن الجيش يلتهم أكثر من خمس ميزانية الدولة . وبالمقارنة، أنفقت المغرب في العام نفسه حوالي 5.5 مليار دولار فقط ، ما يبرز الفجوة الشاسعة. لقد تجاوزت الجزائر بهذا الإنفاق نسبًا عالمية عليا؛ إذ يقدّر خبراء أن موازناتها الدفاعية لامست 8٪ من الناتج المحلي الإجمالي في 2023 ، ومن المتوقع أن ترتفع لنحو 9.6٪ في السنوات الخمس القادمة – وهي من أعلى المعدلات عالميًا. هذه الأعباء المالية الضخمة على عاتق الاقتصاد الجزائري تأتي في وقت تبلغ فيه البطالة بين الشباب حوالي 35٪، ويعاني المجتمع من مشكلات تنموية ضاغطة تحتاج لتوظيف الموارد . أي أن كل دينار يُنفق على صفقات السلاح هو دينار يُقتطع من التعليم والصحة وخلق فرص العمل.
إن سباق التسلح الجزائري الغير مبرر يرتبط مباشرة بالصراع في الصحراء المغربية؛ فالجزائر ترى نفسها معنية بتفوق عسكري يحمي البوليساريو ويوازن قوة المغرب. وقد اندفعت لشراء منظومات تسليح متطورة باهظة الثمن: منها صفقة لاقتناء 14 مقاتلة شبح روسية طراز “سوخوي 57” الحديثة جدًا ، فضلاً عن دبابات وأنظمة دفاع جوي متقدمة. وتعزو الجزائر هذه المشتريات إلى “تهديدات غير مسبوقة” في المنطقة ، لكن المراقبين يؤكدون أن هاجس التفوق على المغرب في ميدان المعركة المحتملة على الحدود المشتركة هو الدافع الرئيسي. وتشير تقارير إلى أن الجيش الجزائري أصبح الأكبر تسليحًا في أفريقيا ليس فقط دفاعًا عن حدود البلاد، بل لدعم البوليساريو عسكريًا عبر التدريب والإمداد . فبحسب مصادر إعلامية، حصلت ميليشيات البوليساريو على دبابات ومدرعات سوفياتية قديمة ومدافع وصواريخ من المخزون الجزائري ، بل وتم تدريب كوادرها في معسكرات جزائرية وحتى على أيدي عناصر من حزب الله برعاية الجزائر . هذه النفقات العسكرية غير المباشرة تستنزف قدرات الجزائر الإستراتيجية دون مردود تنموي. وقد دفع الإنهاك الاقتصادي بعض الأصوات داخل الجزائر للتساؤل عن جدوى هذه المغامرة؛ حيث يعاني المواطن من تدني الخدمات وفرص العمل بينما تُنفق الثروة على نزاع خارجي. الجدير بالذكر أن الجزائر صنّفت في المرتبة 107 عالميًا في مؤشر مدركات الفساد لعام 2024 ، مما يوحي بأن صفقات السلاح الضخمة ذاتها قد يشوبها الهدر والمحسوبية، فتزيد العبء الاقتصادي وتقوّض كفاءة المؤسسات. باختصار، أدّى دعم البوليساريو عسكريًا إلى إنهاك اقتصادي واستراتيجي للجزائر: خزائن تتنزف، وأولويات وطنية مهملة، وجيش متخم بالعتاد دون تحسين ملموس في معيشة الشعب.
الأعباء المالية والفساد في تمويل البوليساريو دوليًا
لم تكتفِ الجزائر بالدعم العسكري، بل تحملت تكاليف مالية ودبلوماسية باهظة لحشد التأييد الدولي للبوليساريو، شملت في حالات كثيرة دفع رشاوى وتقديم إغراءات مالية أثقلت كاهل خزينة الدولة. فمنذ سبعينيات القرن الماضي، موّلت الجزائر حكومة البوليساريو في المنفى بشكل شبه كامل، بما في ذلك تكلفة مخيمات اللاجئين في تندوف (من غذاء وصحة وتعليم) وتوفير منح دراسية لأبنائهم في الجامعات الجزائرية . كذلك تتكفل الجزائر بسفرات قادة البوليساريو عبر العالم بجوازات جزائرية، وإقامتهم، ورعاية مشاركاتهم في المؤتمرات الدولية . وقد أنفق النظام الجزائري مبالغ طائلة على الحملات الدبلوماسية واللوبيات في أوروبا والولايات المتحدة دفاعًا عن الطرح الانفصالي . هذه النفقات تأتي في غالبها من أموال عامة كان يمكن توجيهها للتنمية الداخلية وتم تقديرها من قبل الخبراء ب 150 مليار دولار خارج الإنفاق العسكري.
الأخطر أن بعض الدعم المالي الجزائري اتخذ طابع الرشاوى السياسية المباشرة. فقد كشفت فضيحة حديثة في البيرو عن تورط السفارة الجزائرية في دفع رشوة بقيمة 330 ألف دولار لصحفية وسياسية بيروفية مقابل دعمها العلني لجبهة البوليساريو . وأظهر تحقيق صحفي أن هذه الأموال استُخدمت لشراء شقة فاخرة للمسؤولة المذكورة بعد أن دافعت عن ممثلة “جمهورية الصحراوية” الوهمية لدى اعتقالها في ليما عام 2017 . مثل هذه الحوادث تؤكد انخراط الدبلوماسية الجزائرية في ممارسات فساد دولية لتلميع صورة البوليساريو، ما ينعكس سلبًا على سمعة الجزائر ومواردها المالية. وليس البيرو حالة فريدة؛ فقد شاع في الأوساط الأفريقية أن الجزائر تلجأ إلى “دبلوماسية الشيكات”. فخلال جولة أفريقية في 2021، أعلن وزير الخارجية الجزائري أن الجزائر ستشطب ديونًا بقيمة مليار دولار عن 14 دولة أفريقية ضمن مبادرة لتعزيز نفوذها . ورغم تغليفها بخطاب التضامن، رأت تقارير دولية أن هذه الخطوة تستهدف شراء ولاء سياسي واستمالة تلك الدول لمواقف الجزائر في منظمات كالاتحاد الأفريقي . كما رصدت تقارير مغاربية إقدام الجزائر على إلغاء ديون بقيمة 1.5 مليار دولار مستحقة على 16 دولة أفريقية وعربية في السنوات الأخيرة، مقابل دعمها لموقف الجزائر في قضية الصحراء المغربية . أضف إلى ذلك تمويل الجزائر لمظاهرات وفعاليات مؤيدة للبوليساريو في أوروبا، ودعمها لجمعيات موالية لها في الخارج .
هذه الأعباء المالية الضخمة أثرت بشكل ملحوظ على ميزانية الدولة الجزائرية. فرغم فوائض النفط في فترات معينة، عانت الجزائر من تقلص احتياطيات العملة الصعبة خلال العقد الماضي مع ارتفاع الإنفاق الحكومي غير المنتج. ويشير خبراء إلى أن الأولوية القصوى المعطاة لتمويل مغامرة البوليساريو جاءت على حساب خطط الاستثمار الداخلي وتنويع الاقتصاد. كما أن تورط المسؤولين في دفع الرشاوى ينم عن مستوى الفساد المستشري، ما يزيد تدهور ثقة المواطن الجزائري في حكومته عندما يرى أموال بلاده تهدر لشراء اعترافات دول نائية بجمهورية وهمية، بينما يعاني هو من مشاكل السكن والبطالة.وتوفير المواد الأساسية . وبحسب منظمة الشفافية الدولية، فإن هذا النمط من الفساد الخارجي يوازيه فساد داخلي يهدر الموارد ويعرقل التنمية . في المحصلة، كل دولار يُنفق لرشوة مسؤول أجنبي أو تمويل تحرك دبلوماسي لصالح البوليساريو هو دولار يُقتطع من قوت الشعب الجزائري ومستقبل شبابه. وهذه المعادلة المالية المختلة باتت عبئًا ثقيلًا يضعف النظام الجزائري من الداخل والخارج معًا.
تقويض مصداقية الجزائر في المحيط العربي والدولي
إن حصيلة هذه السياسات هي تآكل ملحوظ في رصيد الجزائر الدبلوماسي ومكانتها الإقليمية والدولية. فالدولة التي كانت تُعرَف بثورتها التحررية ودعمها لحق تقرير المصير، أصبحت تُتهم بازدواجية المعايير وخدمة أجندات مشبوهة. على الصعيد العربي، عُزلت الجزائر عن الإجماع العربي في قضية الصحراء المغربية. فقد أيّدت دول الخليج بشكل صريح موقف المغرب في سيادته على صحراءه، لا سيما عبر دعم مبادرة الحكم الذاتي المغربية باعتبارها الحل الوحيد الواقعي . وشهدت القمم الخليجية-المغربية بيانات تؤكد الوقوف مع وحدة أراضي المغرب، ما اعتبره مراقبون إضعاف للجزائر. حتى جامعة الدول العربية في قمة الجزائر عام 2022 تجنبت تبنّي طرح الجزائر بشأن الصحراء المغربية ، حفاظًا على التوازن العربي، مما عكس فتور التأييد العربي للبوليساريو. وقد ازداد الوضع تعقيدًا مع التحولات الجيوسياسية الأخيرة: اتفاقيات أبراهام 2020 التي دشنت تطبيع المغرب مع إسرائيل وضعت الجزائر في موقف حرج. فهي من جهة رأت في هذا التقارب تهديدًا أمنيًا لها، ومن جهة أخرى وجدت أن الولايات المتحدة (ثم إسبانيا في 2022) انحازتا صراحةً للمغرب ، مما همّش السردية الجزائرية دوليًا. كما أن فرنسا – حليف الجزائر التقليدي – ألمح قادتها مؤخرًا لدعم مبادرة الحكم الذاتي المغربية ، الأمر الذي أغضب الجزائر ودفعها لاستدعاء سفيرها في باريس . هذه التطورات أظهرت أن ثقل الجزائر الدبلوماسي يتضاءل، حيث تفقد دعم القوى الكبرى لقضيتها المحورية. ولا ننسى اخير موقف المملكة المتحدة المؤيد للطرح المغربي العقلاني.
إفريقيًا، تآكل نفوذ الجزائر داخل الاتحاد الأفريقي ذاته. فعلى الرغم من الدور التاريخي للجزائر في إدخال “الجمهورية الصحراوية” إلى منظمة الوحدة الأفريقية (الاتحاد الأفريقي حاليًا) عام 1984، فإن الواقع اليوم تغير كثيرًا. إذ انخفض عدد الدول التي تعترف بـ“الجمهورية الصحراوية” إلى نحو 22 دولة فقط (من أصل أكثر من 80 دولة اعترفت بها في الماضي) ، مع قيام العديد من الدول الأفريقية بسحب أو تجميد اعترافها في السنوات الأخيرة. بالمقابل، فتح المغرب سفارات وقنصليات لـ22 دولة أفريقية في مدن الصحراء المغربية كتعبير عن اعتراف ضمني بسيادته. هذه النجاحات الدبلوماسية المغربية جاءت على حساب هيبة الجزائر، التي باتت تظهر بمظهر المعزول إقليميًا. ولمزيد من الإحراج، فشلت الجزائر مؤخرًا في الفوز بمقعد في مجلس السلم والأمن الأفريقي رغم حملة قوية، واضطرت للجوء إلى محاولات شراء الأصوات في أروقة الفنادق بحسب تقارير إعلامية، لكن ذلك لم ينقذها من الخسارة . مثل هذه الأخبار عززت الانطباع بأن الدبلوماسية الجزائرية مفلسة وتلجأ للأساليب غير المشروعة لتعويض تراجع تأثيرها.
على الصعيد الدولي الأوسع، انحسر خطاب الجزائر المبدئي. فالجزائر التي طالما رفعت شعار مناهضة الاستعمار، تجد نفسها في نظر البعض تعرقل حل مشكلة لاجئين عمرها نصف قرن وترفض حلولاً واقعية (كالحكم الذاتي) حفاظًا على مصالحها الضيقة. حتى أن معارضين جزائريين بارزين (مثل المجاهد الراحل حسين آيت أحمد) انتقدوا ازدواجية النظام، معتبرين أنه آخر من يحق له التحدث عن حق تقرير المصير وهو الذي يصادر حرية شعبه في الاختيار . هذه الانتقادات تلقفتها الأوساط الدولية لتشير إلى انعدام الديمقراطية في الداخل الجزائري، مما يضعف مصداقية موقفها الخارجي في الدفاع عن حقوق شعب آخر. وإزاء استمرار النظام الجزائري في نهج الحرب الباردة بدعم البوليساريو، تغيرت الرؤية العالمية للصراع: فعدد متزايد من الدول بات يرى المبادرة المغربية حلاً عمليًا ويحذر من ارتباطات البوليساريو بمحور إيران والتطرف. وعلى سبيل المثال، استئناف البوليساريو العمل المسلح عام 2020 بعد اعتراف ترامب بسيادة المغرب، وتهديدها لسلام المنطقة، قوبل بفتور دولي حيث اعتُبر قرارًا متهورًا بدفع من الجزائر. ومع انشغال العالم بأزمات ملحة (مثل جائحة كورونا ثم الحرب في أوكرانيا)، أصبح نزاع الصحراء بالنسبة للقوى الكبرى ملفًا يجب تسويته سريعًا لضمان الاستقرار الإقليمي وتأمين التعاون الأمني (خصوصًا مع تزايد المخاطر في منطقة الساحل المجاورة). كل ذلك يضع الجزائر في خانة المعطِّل بدلًا من المساهم في الحل، ويجعل مصداقيتها الدبلوماسية على المحك.
في ضوء ما تقدم، يتضح أن سياسات النظام الجزائري تجاه البوليساريو انقلبت عليه بمرور الوقت. فعوض أن يكسب نفوذًا إقليميًا بدعم حركة تحرر كما كان التصور في سبعينيات القرن الماضي، أصبحت الجزائر تدفع ثمنًا غاليًا اقتصاديًا وسياسيًا. تحالفت مع أطراف مثيرة للجدل فأضرت بثقة جيرانها وشركائها بها، وأنفقت المليارات على التسلح والدعاية فيما شعبها يعاني تحديات معيشية، وانتهجت أساليب ملتوية في الدبلوماسية فقطعت شعرة الثقة والمصداقية. لقد أدى تغير ميزان القوى الإقليمي والدولي إلى عزل الجزائر في ملف الصحراء المغربية: فالأغلبية العربية والأفريقية والدولية تميل الآن لخيار الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية كحل واقعي ، بينما تقف الجزائر وحيدة تقريبًا في موقفها المتشدد. ومن منظور استراتيجي، إضعاف النظام الجزائري هنا لا يعني فقط تراجع هيبته الخارجية، بل ينذر أيضًا بتصدعات داخلية مع إدراك الشعب حجم الموارد المهدورة والفرص الضائعة. إن إعادة تقييم الجزائر لأولوياتها باتت ضرورية. فاستمرار الرهان على البوليساريو بات رهانًا خاسرًا يُفقد الجزائر أصدقاءها ويثقل كاهلها دون طائل. وفي المقابل، التركيز على الإصلاح الداخلي والتعاون الإقليمي الصادق قد يكون السبيل لاستعادة بعض المصداقية المفقودة واستقرار البلاد على المدى البعيد.
الآراء الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي “آشكاين” وإنما عن رأي صاحبها.