2024 © - أشكاين جميع الحقوق محفوظة - [email protected]
حكايات تازمامارت.. خندق و”جير” لدفن الأموات وهياكل عظمية تُساق إلى الرباط في شاحنات (الحلقة 15)

تفاصيل الموت البطيء والنجاة بأعجوبة من معتقل تازمامارت ماتزال مختبئة رغم القصص التي رويت على لسان الناجين، منهم ضيف حلقاتنا عبد الله أعكاو (كان برتبة رقيب ميكانيكي متخصص في الذخيرة) الذي مازال لم ينشر بعد مذكراته على غرار جل الذين نجوا بأعجوبة، وهو الذي كُتب له العيش بعد قضائه أكثر من 17 سنة داخل المعتقل الرهيب بتهمة محاولة الانقلاب على الملك الراحل الحسن الثاني.. في هذه الحلقات سنتذكر معه ماضيه الأليم منذ محاولات العيش وسط القبر إلى العودة لحضن العائلة وتلمس الطريق نحو الإدماج والإنصاف..
بدأنا بالخروج فرادى من زنازننا لنمر من أمام فضول، كل يقدم نفسه ورتبته. أتذكر أنه كان غاضبا من القبطان بلكبير لأنه ارتدى بذلته فوق أسماله التي رفض خلعها، فهدده وحذره من إعادته إلى زنزانته، وتركتهما خلفي في مشاداتهما.
عندما خرجت من العنبر همس لي صديق قائلا لي إن هذا هو فضول، فأبْهَم الأمور عندي. حتى طريقة إخراجنا لم توحي بخير بالنسبة إليّ، إذ لم يمنع حالنا ونحن أموات أحياء لا نقوى على المشي من تصفيدنا ووضع نظارات سوداء على أعيننا، لتستمر العتمة جاثمة على أعيينا. وبالطريقة ذاتها التي جيء بنا بها إلى هنا سنة 1972 ساقنا عناصر الدرك الملكي إلى شاحنات، رمينا إلى داخلها كبضاعة إلى أن تكدسنا، حيث لم يراعو ما كنا عليه من تعاسة ووهن وظل عناصر الدرك يحرسوننا، فهل هذا كان ليجعلني أتفاءل بمصيرنا؟ أبدا. أتذكر أنني عندما وُضعت في الشاحنة ظللت أسمع أنين أحد الإخوة بوريكات وقد وضعوه مسجيا في وسط الشاحنة، لقد كانوا في حالة مزرية جدا لم يبق بينهم وبين الموت إلا عصب رقيق.
أخيرا سأخرج من قبري، سأنبعث من جديد، لقد تركت ورائي مذياعا وبعض النقود التي هي نصيبي مما أرسلته بعض العائلات لأبنائها المعتقلين.
كان نظام التواصل مع ذوينا يقتضي أن يأخذ المعتقل الثلث من النقود المرسلة إليه، والثلث للحارس الذي توسط له لإجراء الاتصال فيما الثلث الآخر يوزع على الذين لم يتمكنوا من ربط الاتصال. كما تركت ورائي هناك بعض “الاختراعات” التي ابتكرتها لمواجهة ذلك الجحيم، كمقص مثلا.
انطلقت قافلة الشاحنات التي تكدسنا فيها تحرق الطريق ليلا، إلى أين؟ لا نعلم المهم أنها تبتعد عن المعتقل المشؤوم ولا مكان آخر سيكون أشد من قسوته وفظاعته. طريق طويلة محفرة جعلت عظامي الهشة ترتج وترتج حتى خلتها ستسقط من جثتي، أو ما تبقى منها، واستمرت بذلك محنتي وبقية المعتقلين. كنت تارة أجلس وتارة أخرى أتكئ على الدركي الذي بجانبي. كانت رحلة شاقة طويلة لم نتوقف خلالها إلا بشكل مفاجئ، لمدة نص ساعة، هنا برزت الشكوك من جديد، أين نحن وهل سنموت هنا أم وصلنا إلى معتقل آخر؟ لكن سرعان ما استمر مسير القافلة. وقد علمنا في ما بعد أن شاحنة كادت تسقط لأن النوم باغث سائقها، كادت عظام أصدقائي أن تسقط في مكان مجهول.
سأتوقف هنا لأتحدث عن الخندق الذي تم حفره على طول حائط المعتقل، لقد جرت العادة ونحن في ذلك المعتقل أنه بعد كل وفاة كنا نسمع أصوات المعاول وهي تحفر الأرض لدفن الميت. لقد كانوا يصبون عليه مادة الجير قبل ردم الحفرة عليه. لكن ذات يوم سمعنا صوت مطرقة آلية استعملها الحراس لحفر خندق على طول الحائط الأمامي للثكنة الذي كان يبلغ ارتفاعه 8 أمتار. وفي ما يتعلق بالمراد من ذلك، كل ما يمكن أن أقوله عن هذا الخندق وما الهدف منه، أن حفره تزامن مع تداول إذاعة البوليساريو لأخبارنا بعد توصلها برسالة تضم أسماء المتوفين كل باسمه ورتبته وكذلك الأحياء الأموات المتبقين الذين اقترب الموت من الانقضاض عليهم لينهي مهمته في تزمامارت.