2024 © - أشكاين جميع الحقوق محفوظة - [email protected]
حكايات تازمامرت.. علمونا كيفاش نتمشاو وعلفونا بْحال ماوقع والو (الحلقة 17)

تفاصيل الموت البطيء والنجاة بأعجوبة من معتقل تازمامارت ماتزال مختبئة رغم القصص التي رويت على لسان الناجين، منهم ضيف حلقاتنا عبد الله أعكاو (كان برتبة رقيب ميكانيكي متخصص في الذخيرة) الذي مازال لم ينشر بعد مذكراته على غرار جل الذين نجوا بأعجوبة، وهو الذي كُتب له العيش بعد قضائه أكثر من 17 سنة داخل المعتقل الرهيب بتهمة محاولة الانقلاب على الملك الراحل الحسن الثاني.. في هذه الحلقات سنتذكر معه ماضيه الأليم منذ محاولات العيش وسط القبر إلى العودة لحضن العائلة وتلمس الطريق نحو الإدماج والإنصاف..
في اليوم الثاني بعد خروجنا ها هو فضول المشؤوم يلج الغرفة وبرفقته أشخاص ببذل بيضاء وقدمهم لي على أنهم أطباء، وخاطبني “سيدنا أصدر عفوا عنك، وأنت هنا في المستشفى لتلقي العلاج قبل أن تعود إلى ذويك”، لم أجبه ولم أبد رد فعل، فقط صمت وبقيت أحملق فيه، فردد ما قاله لي وفي محياه علامات غضب، فبقيت صامتا لا أتكلم، فانفجر في وجهي قائلا “صافي ماعندك ماتقول”، وخرج غاضبا رفقة طاقمه. لكنه سرعان ما عاد برفقة دركيين هذه المرة، فتوجه بالكلام لأحدهما مهددا بإرجاعي إلى تزمامارت “هذا راسو قاصح جيبو ليه بذلة الزنزانة رقم خمسة”، وأكمل قائلا “إلى مابغيتيش تحشم غادي نرجعك للزنزانة ديالك هاهما حوايجك هنا”. فقط لأني لم أقل “عاش سيدنا” عندما أخبرني بأن عفوا ملكيا صدر في حقي. وقد كانت هذه الواقعة هي سبب العداء الذي بقي يكنه لي وهو يوصلني إلى المنزل.
في غرفة المستشفى تناوب عليّ أطباء يخضعون جسمي للفحص، كل حسب اختصاصه، فأمامهم تحد لإعادتنا إلى شكلنا الآدمي. وما يؤكد أننا خرجنا أمواتا من تزمامارت ولم يبق فينا إلا الروح هو تخصيص حصص لتعليمنا كيفية المشي! فقد أصبحت كطفل يمشي خطواته الأولى ويحاول مترنحا ألا يسقط.
أتذكر أن فضول، الحاضر دائما معنا دخل عليّ الغرفة، لما رأى أني لم أكمل وجبتي كلها استفسرني مستغربا، أخبرته أني أكلت قدر ما تتحمله معدتي وأمعائي الملتصقة، قال لي إن أصدقائي في الغرف المجاورة ينقضون على الوجبات كالنسور لا يبقون على أي شيء، ويطلبون المزيد، فأكدت له أن ما أكلته بالكاد أدخلته في معدتي، لكن أصر على الإتيان بمأكولات أخرى إن لم يعجبني ما قدموه لي، فقط عليّ أن أطلب ما شئت، لكن صحتي لم تكن تقوى على المزيد.
وأمام تأكيدي غضب ظنا منه أني أتعمد عدم “الإجهاز” على كل الأكل، لكن سرعان ما تدارك وخاطبني “جات معاك اللحية واش تخليها أولا تحسنها؟”، فقلت له “ماحدك قلتي جات معايا غادي نخليها”، فجحظت عيناه غضبا وأخبرني أن حلاقا سيأتي لقصها، وذلك ما كان.
تواصلت جهود إعادتي إلى شكلي الطبيعي الإنساني، هذه المرة جاء دور طبيب الأسنان، أخرجوني من غرفتي واتجهوا بي إلى عيادة متنقلة، فحصني الطبيب وأخبرني أن أسناني سليمة، إذ تركت ورائي في تزمامارت ضرسا واحدا فقط، عكس أصدقائي الذين كان منهم من فقد أسنانه بالكامل.
في اليوم الموالي أخرجوني من غرفتي وجلست على كرسي أعرض جسمي لأشعة الشمس في ساحة وُزع فيها دركيون، وأتذكر أنه في تلك اللحظة بدأ يقترب مني طبيب أسنان، لم أعرف لماذا، لكن ورغم أن دركيا نهره مانعا إياه من ذلك إلا أن الأقدار شاءت أن نلتقي في ما بعد. فبعد خروجي بعثني المعتقل السياسي والمناضل في الجمعية المغربية لحقوق الإنسان، بنعبد السلام عبد الإله، إلى كلية الطب بالرباط لأعرض أسناني على الأستاذ الطبيب عمر بنعمار، وهو أيضا مناضل في الجمعية المغربية نفسها. لم أجده حينها في مكتبه لكن كان هناك طبيب برتبة رقيب في القوات المسلحة الملكية، سرعان ما تعرفت عليه، وهو أيضا تعرف عليّ، فهو الذي كان يحاول الاقتراب مني لكن دركيا منعه.