2024 © - أشكاين جميع الحقوق محفوظة - [email protected]

لازال التشويق هو الطابع الغالب على المشهد السياسي بإسبانيا لـدرجة يصعب معها تصديق مجريات الأحداث ومواكبة وثيرة تسارعها، وهو ما بـرر المتابعة الإعلامية الكبيرة على المستوى العالمي لتشريعيات يوم 10 نوفمبر 2019 بإسبانيا، في نسختها الرابعة في غضون أربع سنوات فقط (منذ دجنبر 2015) في مشهد استثنائي في أوروبا.
دُعـي 37 مليون ناخب إسباني إلى انتخابات مبكرة لإعادة تشكيل الخريطة السياسية، تُــولـد من رحمها حكومة وطنية طــال انتظـارهـا، واتفق اغلب المحللين على ان تشريعيات يوم الأحد 10 نوفمبر عرفت أولا، تموقع حزب الاشتراكي بيدور شانسيز في صدارة النتائج ب 120 مقعدا، خاسرا ثلاثة مقاعد مقارنة مع لتشريعيات ابريل 2019؛ ثانيا تعافي شعبية الحزب الشعبي المحافظ في عهد بابلو كاسادو بحصوله على 88 مقعدا مقابل 66 مقعد في ابريل الماضي؛ ثم ثالثا الصعود الصاروخي لحزب فوكس اليميني المتطرف والذي يعتبر امتداد لعهـد ” الكوديللو” الجنرال فرانكو، بحصوله على 52 مقعدا مقابل 24 مقعدا في أبريل؛ ورابعا الزلزال الذي هز حزب “المواطنون” من وسط اليمين بحصوله على 10 مقاعد مقابل 57 في أبريل الماضي، وأخيرا تراجع حزب بوديموس من 42 مقعد إلى 35 مقعدا.
لم يكن سهلا توقع هذه النتائج، خاصة وان الاشتراكي شانسيز خرج فائزا في انتخابات ابريل وماي وبالتالي كان يتوفر على رصيد كبير من الثقة السياسية سواء بالداخل أو على مستوى الاتحاد الأوروبي، حيث بدا مستعدا للعب دورا كبيرا إلى جانب كل من ميركل وماكرون في السياسات الاتحاد الأوروبي
وتظهر هذه النتائج أن جميع الأحزاب بقيت بعيدة عن الأغلبية المطلقة أي 176 مقعدا، وهو ما يعني فشل رهان الحزب الاشتراكي على هذه الانتخابات من أجل توسيع قاعدته الانتخابية والحصول على أغلبية مريحة تمكنه من تشكيل الحكومة، كما أن القوة التفاوضية لسانشيز قد تآكلت كثيرا، وأصبح الرابح الأكبر هو سانتياغو أباسكال زعيم عن حزب “فوكس”، الذي ضاعف رصيده من المقاعد البرلمانية وأزاح حزب “مواطنون” من المرتبة الثالثة ما اضطر زعيمه ألبير ريبيرا إلى الاستقالة واعتزال السياسة.
فهل بالـغ سانشيز في تقديره لـقوته السياسية خاصة بعد النتائج الإيجابية لـتشريعيات أبريل والانتخابات الأوروبية في شهر ماي 2019؟ ولماذا لم يستحضر سانشيز نتائج مغامرته السياسية، التي كان في غنى عنها بقبوله لحزب بوديموس كحليف سياسي حقيقي وشريك فعلي في الحكومة؟
كطالونيا ورفاة فرانكو يبعثران أوراق اليسار
نعتقد من جهة أولى، أن المسالة الكطلونية لعبت دورا كبيرا في بعثرة كل أوراق الاشتراكي سانشيز، وتحديدا بعد نطــق المحكمة العليا الإسبانية بأحكام ضد قادة الانفصال الكطلانيين يوم 14 أكتوبر بصك اتهام ثقيل من حجم التمرد وتبديد أموال عمومية في تنظيم استفتاء الانفصال، وبأحكام تجاوزت عشرة سنوات. وهو ما جعل أنصار تيار الانفصال ينضمون مسيرات احتجاجية ويشلون الحركة في إقليم كطلونيا ويدعون إلى عصيان مدني وإفشال الانتخابات التشريعية ليوم 10 نوفمبر.
كما ظهرت حركة “تسونامي الديمقراطيي” والتي اعتمدت على منصات إلكترونية في تنظيم مسيراتها وطرق احتجاجاتها، ردت عليها مدريد بإصدار عدة قرارات من بينها تأجيل الكلاسيكو الكروي بين الريال وبرشلونة وبدعم قوات الأمن وبتنظيم مسيرات مضادة من طرف تيار الوحدويين الكطلانيين، وهو ما جعل الاشتراكي سانشيز في موقع سيئ أمام الكطلان رغم دعواته المتكررة للحوار وأيضا أمام الإسبان في أسلوبه المتردد في تدبير مسألة كطلونيا.
في حين امسك زعيم حزب فوكس سانتياغو اباسكال بجمرة المسألة الكطلونية، وأبدى الكثير من الحزم في الموقف من أولوية وحدة اسبانيا وتطبيق الدستور. فوضوح الرؤية لدى اباسكال وتردد سانشيز ساهم كثيرا في الرفع من أسهم حزب فوكس كحزب وحدوي إسباني بالإضافة وكانت النتيجة مفاجئة في كطالونيا حيث حصل فوكس على مقعدين برلمانيين، من جهة وفوز التيار الداعم للانفصال بمقعد إضافي ليصبح ممثلا في البرلمان الإسباني ب 23 نائبا، مما يجعل منها لاعبًا أساسيًا في أي عملية بنـاء أو إطاحة باي تحالف سياسي وحزبي على المستوى الوطني.
من جهة ثانية ساهم “التعامل الانتخابي” للحزب الاشتراكي الحاكم في إسبانيا مع قرار المحكمة العليا الإسبانية بقبول نقل رفاة الجنرال فرانكو من مقبرة شهداء الحرب الأهلية الإسبانية إلى مقبرة العائلة بعد سنة ونصف من الجدال القانوني والقضائي، في تفوق نسبي لليمين واليمين المتطرف في النقاشات المتعلقة بالذاكرة الجماعية الإسبانية والمصالحة الوطنية.
فقد اعتبر أكثر من ملاحظ ان استعمال مسالة نقل رفاة الجنرال فرانكو لتستعمل كورقة انتخابية شكل خرقا من سانشيز “لاتفاق النسيان” الذي سهل الانتقال الديمقراطي بعد موت الجنرال فرانكو، وان سانشيز قد عرى عن جرح قديم يحاول الإسبان نسيانه بعد مرور أكثر من 44 سنة على وفاة الجنرال فرانكو الذي أمر ببناء مدفن جماعي لحوالي 33 ألفا من ضحايا الحرب الأهلية الإسبانية سواء من هذا الجانب أو من ذاك على سفح الجبل كرمز للمصالحة الوطنية.
ولم تكن هذه الفرصة السياسية لتفوت زعيم حزب فوكس اليميني المتطرف من دون أن يستعملها في كسب أصوات بعض الناخبين، وقد اعتبر أباسكال أن قرار سانشيز بنقل رفاة فرانكو من مقبرة شهداء الحرب الأهلية، يحمل في طياته الرغبة في إحياء أحقاد قديمة وخرقه لاتفاق النسيان. وقـد تمكن حزب فوكس بتبنيه الدفاع عن الذاكرة الوطنية من خلال الدفاع عن رفاة الجنرال فرانكو، من جني أصوات من الحزب الشعبي المحافظ، كما استمال أصواتًا كثيرة من ناخبي وسط اليمين خاصة من حزب المواطنون.
نعتقد أن الملف الكتلاني ونقل رفاة فرانكو كان لهما دورا محوريا في ترجيح كفة اليمين واليمين المتطرف في الانتخابات الإسبانية. وقد استغل اليمين المتطرف ممثلا في حزب فوكس هاتين المسألتين لتقوية خطابه الكلاسيكي المتمثل في وقف هجرة المسلمين إلى أوروبا المسيحية، ومواقفه في مسالة الإجهاض والأسرة. وفي المقابل فقد ترتب عن انشغال الاشتراكي سانشيز بتدبير أزمة كطلونيا خاصة بعد الأحكام القضائية، بالإضافة إلى انشغاله بتداعيات نقل رفاة الجنرال فرانكو، ارتباك كبير في تنظيم الحملة الانتخابية التي دامت 10 أيام فقط وهي أقصر مدة في تاريخ الديمقراطية الإسبانية، بينما انشغل حزب بوديموس في نفس الوقت في رأب تصدعه الداخلي وانشقاق تيار حزبي جديد عنه فاز بثلاث مقاعد.
إلا أن سرعة تحرك الحزب الاشتراكي العمال وحزب بوديموس، اللذان سارعا بعد أقل من 48 ساعة من الانتخابات إلى التوقيع على اتفاق للتحالف التقدمي لمدة أربع سنوات، من أجل تسهيل تشكيل حكومة يسارية تقدمية لمواجهة اليمين المتطرف، قد تكون خطوة تعيد بعض البريق إلى اليسار، حتى وإن كان ذلك لن يمكنه من الأغلبية العددية في البرلمان، لكنها في نفس الوقت قد تستعمل كدريعة لمهاجمة بيدرو سانشيز حول إمكانية انفتاحه أيضا على اليسار الكتلاني الداعم للانفصال.
وفي انتظار تكليف الملك الإسباني فيليب السادس لسانشيز بالبدء بمفاوضات تشكيل الحكومة وتنظيم الغرف البرلمانية، فان الوضع السياسي الراهن يدفع بطرح العديد من الأسئلة، من جملتها: ماهي نسبة نجاح سانشيز في تكوين تحالف حكومي يحظى بثقة البرلمان خاصة بعد تآكل قوته التفاوضية؟ وهل سيختار الحزب الشعبي الامتناع عن التصويت لإعطاء فرصة خلق حكومة سانشيز؟ أم سنشهد نفس السيناريو الذي قد يدفع في اتجاه انتخابات مبكرة خامسة؟
اننا نطرح هذه الأسئلة ونحاول فهم الصورة وتقريبها، بالنظر لتواجد جالية مغربية مهمة تقارب المليون مهاجر مغربي في إسبانيا، من بينهم آلاف الحاصلين على الجنسية الإسبانية، والذين يشكلون كتلة ناخبة يمكنها تغيير معادلات سياسية مهمة في اسبانيا.
ومن جهة أخرى فإن تفاعلات المشهد السياسي الإسباني سلبا أو إيجابا تؤثر بكيفية أو بأخرى على الوضع الاجتماعي والاقتصادي والحقوقي لمغاربة اسبانيا، خاصة مع صعود حزب فوكس اليميني المتطرف، مما قد يهدد حقوقا مكتسبة أو تأجيل مطالب حقوقية أخرى لحوالي مليون مهاجر مغربي بإسبانيا، وتجعلنا بالتالي أمام تحديات جديدة تتطلب منا المزيد من اليقظة والمزيد من العمل.
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبر بالضرورة عن رأي آشكاين وإنما عن رأي صاحبها.