2024 © - أشكاين جميع الحقوق محفوظة - [email protected]

يعرف العالم منذ نهاية القرن الماضي تحوّلات عميقة على مختلف المستويات، أصابت في البداية الجانب الاقتصادي والتقني، وبالنتيجة كانت لها انعكاسات سياسية عميقة، بخاصة على مفهوم الدولة الوطنية وعلى دورها، ومن خلالها على دور مؤسسات الوساطة التقليدية المتمثلة في الأحزاب السياسية والنقابات العمالية، بل لم يستثن الأمر حتى الدول التي لم تتطوّر فيها التجربة الحزبية.
بلدان شمال أفريقيا والشرق الأوسط كغيرها من بلدان العالم، تعيش هذه التحولات من دون امتلاك القدرة على التحكم فيها أو الحد من تبعاتها، فإذا كان الأمر على المستوى الاقتصادي يتم وفق عملية الاحتواء والدمج من جانب الرأسمال العالمي الذي بلغ درجة عليا من التركيز، فإن تبعات ذلك على المستوى الاجتماعي والسياسي تحتاج إلى بحث أعمق وإلى مساءلة نقدية.
إن هيمنة الشركات المتعددة الجنسية وعولمة نمط الإنتاج والاستهلاك، والتحكم المباشر في عوامل الإنتاج، وفرض الاختيارات الاقتصادية على الدول في إطار ما سُمي بالعولمة، حدّت كثيراً من دور الدولة، وبالنتيجة غيّرت مفهوم السيادة، الذي لا يتطابق اليوم تعريفه القانوني التقليدي، مع ما يجري في الواقع.
هذا التحوّل له انعكاسات مباشرة على المؤسسات التي تشكل النظام الديموقراطي، من أحزاب وبرلمان وحكومة ومجتمع مدني، فالرأسمالية اليوم في أقصى درجات تطورها، تهدد القيم الليبرالية التي شكلت لقرون، أحد تعبيراتها السياسية الرئيسية، فتراجعُ دور الدولة أو الحد الأدنى من الدولة بتعبير آخر، له تأثير مباشر على دور الأحزاب السياسية ومؤسسات الوساطة عموماً، وبالنتيجة على الديموقراطية.
التعاقدات الانتخابية
أحد مظاهر هذا التراجع يتمثل في الإخلال المتكرر بمضمون التعاقدات الانتخابية التي تشكل أحد الأسس التقليدية لبناء الشرعية وحيازة السلطة في أي نظام ديموقراطي، بحيث تشكل عقداً بين الناخبين والحائزين السلطة في دورة انتخابية منتظمة، وهذا الإخلال يرتبط بالتراجع التدريجي عن امتلاك القدرة على التحكم في العرض الاقتصادي والاجتماعي الذي يمكن أن تقدمه أي حكومة منتخبة، وذلك نتيجة ضيق هامش التحرك على هذا المستوى بسبب تأثير المؤسسات المالية الدولية والشركات المتعددة الجنسيات، التي أضحت – فعلياً وبنسب متفاوتة حول العالم – هي من يتحكم في الاختيارات الاقتصادية من دون أن تكون منتخبة ومن دون إمكان محاسبتها من جمهور الناخبين.
يطرح هذا الأمر اليوم ويفسر أزمة الديموقراطية التمثيلية وتصاعد مقاطعة العمليات الانتخابية والأحزاب السياسية في العديد من دول العالم، فالعديد من الشعوب تشعر بخيبة أمل في النظام الديموقراطي الحالي الذي أثبت محدوديته.
لقد شَكل تفكك النظام الفيودالي وظهور الدولة القومية في ظل الرأسمالية التي قادتها البورجوازية الصاعدة، أحد العوامل الرئيسية المؤثرة في تطور الدولة، فالدور الذي لعبته البورحوازية كان عاملاً دافعاً بحكم أنها سعت إلى الهيمنة التجارية على العالم متجاوزة الحدود التقليدية لأوروبا، ذلك أن الرأسمالية تجاوزت مجال الدولة القومية/الوطنية إلى عصر الإمبراطوريات التي لا تغيب عنها الشمس، بداية من حركة الاستكشافات الشهيرة في القرن الـ15، وانتهاءً بالحركة الاستعمارية، سواء في وجهها العسكري أم الاقتصادي والممتد إلى اليوم، مروراً بالثورة الصناعية وما نتج منها من تطور في النظام الرأسمالي، بخاصة من زاوية التركز المالي والتجارة العالمية المسنودة بالشركات المتعددة الجنسيات والعابرة للقارات.
نهاية الرأسمالية
التطور الذي عرفته الرأسمالية ومعها شكل الدولة والعلاقات الاجتماعية، تعرف اليوم حدودها القصوى في ما يعتبره الاقتصادي المستقبلي الأميركي جيرمي ريفكن، بـ”نهاية الرأسمالية”، هذه النهاية ليست من صنف الخطاب الأيديولوجي الذي نظر له في “نهاية التاريخ”، بل هو طرح مناقض تماماً لطرح فوكوياما.
يعتبر ريفكن أن الرأسمالية تعرف اليوم تطوراً يؤدي إلى نهايتها الحتمية وبداية عهد نظام اقتصادي جديد يسميه “المشاعات التعاونية”، فالبحث المستمر للرأسمالي عن التكلفة الثابتة الصفرية بما يحقق زيادة في الإنتاج وفائضاً في الأرباح، لم يبق مجرد طموح يقوده عالم الربح، بل هو واقع اليوم بسبب الثورة التكنولوجية التي قادت الرأسمالية إلى نجاحاتها الكبيرة، بينما تقودها اليوم إلى نهايتها، كيف ذلك؟
الثورة التكنولوجية اليوم تقود إلى تحقيق قوة إنتاجية غير مسبوقة تنزل بالتكاليف إلى ما يقارب الصفر.. ما يجعل السلع والخدمات مجانية أساساً، متجاوزة بذلك اقتصاد المبادلة في السوق..
هذا الأمر ليس فرضية نظرية، بل كما يؤكد ريفكن، هو واقع يعرفه العالم مع شبكة الأنترنت من 1990 إلى اليوم. إذ بدأت أولى آثار ظاهرة التكلفة الصفرية على صناعة الصحف والمجلات والإعلام بصفة عامة، حيث تدفق المعلومات والأخبار من دون مقابل وصل اليوم إلى 40% من سكان العالم ممن يملكون أجهزة الهاتف والحواسيب واللوحات الإلكترونية، والنتيجة أغلقت العديد من الصحف والمجلات منذ سنوات وتحولت إلى النت (الإندبندنت، نيويورك تايمز…) مثلاً، وحتى محاولات بعضها إعادة منطق التبادل السوقي، عبر اعتماد دفع مسبق، في طريقها للفشل، بحسب ريفكن دائماً. فبفضل تطور تكنولوجيا الاتصال، تحول ملايين البشر منتجين ومبادلين للأخبار وللأعمال الموسيقية وغيرها…
لقد تجاوز الأمر في السنوات الأخيرة العالم الافتراضي، ودخل العالم اليوم ما يسمى “أنترنت الأشياء” حيث السلع والبضائع الواقعية والطاقة والخدمات اللوجيستية للنقل عبر الأنترنت. واندماج هذه العناصر بعضها مع بعض، ومع شبكات الاستشعار المنتشرة في العالم وفي كل الفضاءات (الفنادق، المتاجر، المعامل، الطرق العامة، مراكز التخزين، محطات القطارات، محطات الطاقة، المدارس، الأجهزة المنزلية…) التي كانت تبلغ قبل سنوات قليلة 13 مليار جهاز، وستنتقل بحسب IBM إلى 30 مليار جهاز استشعار حول العالم بعد أقل من سنتين، بل سيبلغ الأمر بحسب IBM دائماً مئة تريليون جهاز في حدود 2030 (وإذا علمنا أن التريليون يساوي ألف مليار، فإن عدد هذه الأجهزة سيبلغ 100 ألف مليار جهاز)، كل هذا يشكل، بحسب ريفكن، شبكة عصبية عظيمة غير مسبوقة في التاريخ البشري.
الثورة الصناعية الثالثة
هذا التغير في شكل الطاقة ووسائل النقل وتكنولوجيا الاتصال، يمثل بالنسبة الى ريفكن الأسس لتحول اقتصادي، فهو المهندس الرئيسي لما سمي بـ”الثورة الصناعية الثالثة”، والتي قدمها في كتاب يحمل الاسم نفسه. وهو يعتبر أن هذه الثورة الجديدة تحمل إجابة عن تحديات الأزمة الاقتصادية العالمية، والأمن الطاقي والتغير المناخي والتي تعتبر الأساس الذي تقوم عليه الثورة الاقتصادية الرابعة القائمة على الذكاء الاصطناعي، والثورة الصناعية الثالثة من خلال سياق بحثه تقتضي أنها لاحقة لثورتين سابقتين، فقد وقعت الثورة الصناعية الأولى في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، وكانت نتيجة اقتران ثلاث ظواهر هي:
تطور الآلة البخارية واستعمال الفحم باعتباره مصدراً للطاقة وظهور السكة الحديد باعتبارها وسيلة للتواصل، حيث ولّد تضافر عناصر هذا المركب الثلاثي اقتصاداً جديداً قام على النسيج والصناعات المعدنية.
أما الثورة الصناعية الثانية، فقد حدثت في أواخر القرن التاسع عشر، وكانت ثمرة تطور محرك الاحتراق الداخلي واستعمال البترول والكهرباء باعتبارهما مصدري الطاقة واعتماد التلغراف والهاتف كوسائل اتصال.
أطروحة جيريمي ريفكين بهذا الخصوص واضحة وبسيطة، فعندما يتم اكتشاف منظومة طاقية وتكنولوجيا اتصالات جديدة، يقع تحول جذري في الاقتصاد ومن ثم شبكة العلاقات القيمية والإنسانية، وبحسب ريفكين دائماً، تتميز كل ثورة صناعية بالآلية الجديدة، ومصدر جديد للطاقة ونمط جديد من الاتصال، ولذلك فالثورة الصناعية الثالثة ليست إلا اقتران أنظمة الإعلاميات، باستخدام الطاقات المتجددة والشبكات الاجتماعية باعتبارها وسائل الاتصال الجديدة.
هذا التحول على المستوى الاقتصادي له تبعات على المستوى السياسي، فإذا لاحظنا تقلص دور الدولة في الاقتصاد (هذا الأمر يبقى نسبياً باعتبار الأزمة المالية التي عرفها العالم سنة 2008 وكيف تدخلت الحكومة الفيدرالية الأميركية لإنقاذ عدد من المؤسسات المالية والصناعية من الإفلاس)، فإن المؤسسات الوسيطة المتمثلة بالأحزاب السياسية والنقابات، تعرف اليوم المصير نفسه الذي يعرفه النظام الرأسمالي، فهي كانت إحدى أدوات الرأسمالية الأساسية في وجهها الليبرالي.
التطور التنكولوجي اليوم، وتطور الشبكات الاجتماعية التي تستفيد منه، منحاها تأثيراً كبيراً لم تعد البنيات الحزبية التقليدية قادرة على منافستها، حيث تلعب اليوم الشبكات الاجتماعية عدداً من أدوار الأحزاب السياسية مثل المرافعة حول العديد من القضايا التي تهم المجتمع.
هذه الشبكات، إلى اليوم، لا أحد يستطيع الحد من نفوذها وتوسعها، كما أنها تجاوزت الوظيفة الاحتجاجية أو كونها منصة للمطالبة بالتغيير والإصلاحات، إلى آلية لإحداث هذا التغيير، ولعل الانتفاضات الشعبية التي سُميت بالرببع العربي، خير شاهد على قوة توظيف هذه الشبكات، علماً أن البنية التحتية للاتصالات ما زالت في عدد من بلدان “الربيع”، لا تساعد على بلوغ جمهور واسع لهذه الوسائط والاستفادة مما تمنحه من إمكانات، كما أن ضعف القدرة الشرائية يحد إلى حد ما، من امتلاك الوسائط التقنية للاطلاع على كل ما يُبثّ على الشبكات الاجتماعية.
الحياة السياسية في بلداننا شاهدة على تنامي دور الشبكات الاجتماعية، وكيف أضحت مؤسسات الوساطة من أحزاب سياسية ومنظمات نقابية ومجتمع مدني، تابعة لما يتم إثارته في المواقع الاجتماعية، وإذا علمنا أن شعوب المنطقة أضحت أكثر ارتباطاً بالأنترنت، فإن الأمر يَطرح بجدية سؤال المستقبل…
هذا السؤال بالطبع لا يتعلق ببلداننا فقط، بل بدول العالم ككل، وهو ما يؤشر الى دخول الإنسانية مرحلة جديدة كلياً في ما يتعلق بمفهوم الدولة وبقية المؤسسات المرتبطة بها ارتباطاً عضوياً، وعلى رأسها الأحزاب السياسية، على اعتبار أن الدولة الديموقراطية هي دولة الأحزاب، ولا يمكن تصوّر قيام دولة ديموقراطية في غياب الأحزاب السياسية، هذا الأمر لا يمكن الحفاظ عليه سوى بوعي الأحزاب حجم التحديات التي ستواجهها في المستقبل الذي يشكل الحاضر جزءاً منه.
النهار العربي