لماذا وإلى أين ؟

فرنسا تزيل مساحيق الأنوار

*فؤاد بوعلي

وضع صعب يعيشه المنافحون عن “بلد الأنوار” في الآونة الأخيرة. فقد اعتادوا اجترار الحديث عن الثورة الفرنسية والتغني بما قدمته للإنسانية من مفاهيم ومبادئ التنوير والحداثة التي أنقذت العالم من الاستبداد وسلطة الإكليروس، وأتخمونا بكتاباتهم المسترسلة عن العدالة والمساواة والحرية، التي ما كان لها أن تظهر للوجود لولا أحداث 1789، التي استمدت روحها من كتابات مونتسكيو وفولتير وروسو.

لكن السقوط الأخير للنموذج الفرنسي أزال كل مساحيق التجميل، التي طالما ألهمت رواد الأنوار العرب منذ رفاعة الطهطاوي الذي ترجم “المارسيلييز”، والأفغاني الذي جعل باريس كعبة لرواد الحرية، وأديب إسحاق الذي أنشد عن ثورة الفرنسيس، وغيرهم كثير. لكن توالي الأحداث دفع بالكثيرين إلى مساءلة هذا التمثل العربي للنموذج العلماني في صورته الفرنسية: هل هو وعي بحقيقتها وجوهرها، أم رغبة في الفكاك من أسر الواقع المعيش؟ إذ لم تنفع تغريدة الرئيس الفرنسي ماكرون المترجمة إلى العربية ولا بيانات وزارة الخارجية المتعددة في وقف الغضب الشعبي المتنامي ضد الهجوم الرسمي على الإسلام ورموزه العقدية في كل أرجاء العالم الإسلامي.

وقد تفنن عشاق النموذج الفرنسي في تقديم التبريرات اللازمة، التي تلتقي عند اعتبار الحدث استثناء في مسار طويل من التنوير. فالبعض فسر الهجوم بمحاولة الرئيس الفرنسي استمالة اليمين في صراع انتخابوي عادي، وآخرون ربطوا الأمر بتغول النخبة الرأسمالية التي أتت برئيس “مغمور” من أجل تمرير برامجها، وآخرون رأوا في الهجوم الإعلامي الممنهج على المسلمين صراعا استراتيجيا ضد تركيا… لكن لا أحد ساءل نفسه: لم يتكرر المشهد مع جل رؤساء فرنسا على اختلاف انتماءاتهم السياسية؟ ولم الإصرار على مهاجمة الإسلام والتضييق على المسلمين؟. يكفي أن نذكر في هذا السياق أن الرئيس الحالي سبق له أن شبَّه الإسلام بالغول المتوحش (Hydre)، واعتبر سلفه “الاشتراكي” فرنسوا هولاند أن فرنسا تقع تحت “تهديد الإرهاب الإسلامي”، وهو الذي “اشتكى قبيل انتهاء ولايته من كون لفظة إسلام أمست تخدش أذنيه”، كما يعود إلى وزيره الأول مانويل ڤالس ابتداع تركيب الفاشية الإسلامية.

وكان جاك شيراك، الذي يحتفى به في المغرب وتسمى مؤسسات وفضاءات باسمه، قد تحدث عن المسلمين في فرنسا واصفاً إياهم بـ”الأصوليين المتطرفين الذين تنبعث الرائحة الكريهة من أحيائهم”. وفي عهده أنشئت “لجنة ستازي”، التي فرضت حظر الرموز الدينية في الفضاء العام. وقبله اقترح جيسكار ديستان إعطاء الجنسية الفرنسية على أساس “حق الدم” بدل “حق التراب”. ومفهوم الإسلام الفرنسي ليس وليد خطابات ماكرون أو تقرير مستشاره حكيم القروي المعنون بـ”صناعة الإسلاموية”، بل ظهر مع فرانسوا ميتران ووزير داخليته بيير جوكس، الذي شكل حينها “المجلس التفكيري حول إسلام فرنسي” (CRIF). وفي 2018 تزعم نيكولا ساركوزي وثلاثة رؤساء حكومة سابقين وبعض الكتاب والفنانين حملة تدعو المسلمين إلى إبطال سور القرآن التي تدعو إلى قتل ومعاقبة اليهود والمسيحيين والملحدين…

وهكذا تفنن المسؤولون الفرنسيون، على اختلاف قناعاتهم، في النظر إلى الإسلام والمسلمين نظرة ازدراء وتوجس. يتحدثون عن “حماية اللائكية” امتثالا لمقتضيات قانون 1905، لكنهم يضمرون سياسة عنصرية إقصائية عدائية. فما يقع حاليا ليس استثناء، بل هو جزء من عقيدة النخبة الحاكمة في الإليزيه منذ قيام الثورة الفرنسية، وما يسوق حول التسامح والاندماج وقيم المواطنة والجمهورية مجرد شعارات للاستهلاك. ويكفي أن نفكك نصوص المنظرين الأوائل لنفهم سبب الحضور القوي للمنطق الإقصائي في أذهان الحاكمين. فمونتسكيو الأب الروحي لفصل السلطات الذي تعتمده العديد من الدساتير عبر العالم، اعتبر الاستبداد صفة ملازمة للدين الإسلامي، ورينان أحد رموز فرنسا الجمهورية العلمانية يؤكد في محاضرته سنة 1883 بالسوربون أن الإسلام والعلم لا يتفقان، والفيلسوف باسكال في كتابه «أفكار» ينتقد الإسلام ويحط منه.. واللائحة طويلة. لذا فما يحدث في باريس اليوم ليس بدعة من تاريخ فرنسا، التي نصبت نفسها حامية لمسيحيي الشرق، كما تحيل تدخلاتها في الفتن الطائفية بمصر ولبنان، وليس محصورا في صراع انتخابوي عرضي، بل هو جزء من مسار طويل من معاداة الإسلام مغلف بالحداثة والتنوير.

*رئيس الائتلاف الوطني من أجل اللغة العربية

إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبر بالضرورة عن رأي آشكاين و إنما تعبر عن رأي صاحبها حصرا.

 

احصل على تحديثات فورية مباشرة على جهازك ، اشترك الآن

من شروط النشر : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

6 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments
عبده الرباح
المعلق(ة)
2 نوفمبر 2020 11:14

تحية تقدير للاستاذ فؤاد بوعلي على مقالته الوجيهة والقيمة..

مريمرين
المعلق(ة)
2 نوفمبر 2020 10:37

المقال ذكر مواقف لمفكرين ولساسة،قبل وبعد الثورة الفرنسية . و هذه حقائق تاريخية؛ فأين هي أسلمة فرنسا !؟
قبل أيام قليلة قام الفنان الموريتاني (خالد مولاي ادريس) بإنجاز كاريكاتور للرئيس الفرنسي ، فتم وبكل بساطة، فسخ عقدة عمله.
يقع هذا في بلد “الحرية و المساواة و الأخوة”.
فأين هي حرية التعبير التي يتشدقون بها؟؟
هذه الحرية التي تدوس على المعتقدات الدينية لحوالي 2 مليار مؤمن ، تتلاشى و تتحول إلى جريمة عند عتبة ما يسمونه “الهلوكوست”. و هذا “الهلوكوست” ليس معتقدا دينيا بل هو مجرد حدث تاريخي فيه القيل و القال و من حق أي كان انتقاده أو نفيه حتى …
إن الأقنعة بدأت تسقط تباعا …

متتبع
المعلق(ة)
2 نوفمبر 2020 10:01

مقال يكرس العنف ويشجع عليه المسلمون يعلمون ان هناك جماعات متطرفة وتتحرك باسم الاسلام ولاداعي للمغالطات صوروا واقع المسلمين الحالي بدلا من الحديث عن الاسلام لان الاسلام دين النقاوةوالعيب في اهله.

settati
المعلق(ة)
2 نوفمبر 2020 04:54

على الاستااذ المحترم أن لا يناقش موضوعا لا يفقه فيه أي شيئ

متتبع
المعلق(ة)
2 نوفمبر 2020 01:17

انت نفسك ضحية استيلاب عميق حد فقدان الوعي بشتى اشكاله..فكيف يعقل ان تتحدث في موضوع الاقصاء والعنصرية وتاتي بمثلهما في حق مواطنيك حيث لك رغبة اكيدة في اقبار المكون الامازيغي في تربته ومجاله الجغرافي وتريد الحاقه بغيره..
تريد ان تعطي الدروس لفةنسا وانت في حاجة ملسة الى مراجعة نفسك وتنفض هنك غبار التبعية العمياء للغير.تكيل بمكيالين وهذا واضح فاضح للاسف وصادر عن “دكتور”un docteur inconscient,xénophobeمؤسف

حمو
المعلق(ة)
2 نوفمبر 2020 00:30

لانك ارزق في اللغات وماكرون لم يهاجم العربية او الاسلام.
انت تدافع عن أسلمة فرنسا ولكن عاقت بيكوم

يستخدم موقع الويب هذا ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

6
0
أضف تعليقكx
()
x