لماذا وإلى أين ؟

عندما نُزع الحجر الأسود وتوقف الحج

التاريخ أحداث منسية غطتها رمال السياسة والدين، ولربما كذلك أهمية الحدث في الحاضر، وفي صحراء الربع الخالي كان الحجر الأسود -الذي يقر الدين الإسلامي بثواب لمسه وتقبيله أثناء الطواف بالكعبة المشرفة- محرك وقائع فظيعة سفكت فيها الدماء وهدمت الكعبة وغيب الحجر، الذي يبدأ وينتهي عنده الطواف، لسنين طويلة توقف خلالها ركن الحج. ترسم “آشكياين” في هذا “البورتريه” لوحة مختزلة عن أبرز هذه الأحداث الذي يتجلى فيما يسمى بـ”فتنة القرامطة”.

في مثل هذا اليوم من سنة 317ه/929م، هاجم ملك البحرين أبو طاهر سليمان القرمطى مكة يوم النحر، وقتل الحجيج بالحرم المكي، وجرد الكعبة كسوتها، ونهب حليتها، ونزع بابها وردم بئر زمزم وسلب قبته، وحاول سرقة المقام الإبراهيمي إلا أن سدنة الكعبة أخفوه في إحدى شعاب مكة فلم يظفر به، وصعد على عتبة الكعبة يصيح: “أنا بالله وبالله أنا، يخلق الخلق وأفنيهم أنا”.

ويورد ابن كثير في كتابه “حوادث سنة سبع عشرة وثلاثمائة” (ج11 ص160)، أن ملك القرامطة أمر أن يتم قلع الحجر الأسود، “فجاء رجل فضربه بمثقل في يده وقال: أين الطير الأبابيل؟ أين الحجارة من سجيل؟ ثم قلعه وأخذوه معهم حين عادوا إلى بلادهم هجر (القطيف حاليا)، ولما رجع القرمطي إلى بلاده ومعه الحجر الأسود وتبعه أمير مكة هو وأهل بيته وجنده، سأله وتشفع إليه أن يرد الحجر الأسود إلى مكانه، وأعطاه كل ما عنده من أموال فلم يلتفت إليه، فقاتله أمير مكة فقتله القرمطي وقتل أكثر أهل بيته وأهل مكة وجنده، واستمر ذاهبا إلى بلاده ومعه الحجر الأسود وأموال الحجيج”.

وقد عمد أبو ظاهر القرمطي إلى تحويل أول الحرمين وثاني قبلتي المسلمين من مكة إلى الجش بالأحساء، بعدما وضع الحجر الأسود في بيت بناه، ودعا الناس للحج إليه والطواف به، فلما رفضوا، قتل جيشه حوالي 30 ألف مسلم من أهل القطيف، وتوقف أداء الركن الخامس في الإسلام طيلة مدة 22 سنة؛ التي حاز فيه القرامطة الحجر الأسود وباقي محتويات الكعبة.

السنة والشيعة وإعادة الحجر الأسود

ولم يكن إرجاع الحجر السود إلى البيت الحرام سهلا، فقد فشلت محاولات كثيرة للخلفاء والأمراء العباسيين السنة، والفاطميين الشيعة، لإجبار القرامطة على إعادته، واختلف الرواة في السبب الذي حمل القرامطة على إعادة الحجر الأسود، فالفقيه الحنبلي، أبي بكر الجراعي في كتاب ” تحفة الراكع والساجد بأحكام المساجد”، يذكر أن القرامطة “باعوه إلى الخليفة العباسي المقتدر بثلاثين ألف دينار، ولما أرادوا تسليمه، أشهد عليهم ألا يسلّموه، وقال لهم بعد الشهادة: يا من لا عقل لهم، من علم منكم أن هذا هو الحجر الأسود، ولعلنا أحضرنا حجرا أسودا من هذه البرية عوضه، فسكت الناس، وكان فيهم المحدث عبد الله بن عكيم ، فقال: لنا في الحجر الأسود علامة، فإن كانت موجودة : فهو هو، وإن كانت معدومة، فليس هو، ثم رفع حديثا غريبا مفاده أن الحجر الأسود يطفو على وجه الماء، ولا يسخن بالنار إذا أوقدت عليه، فأحضر القرمطي طستا فيه ماء ووضع الحجر الأسود فيه فطفى على الماء، ثم أوقدت عليه النار فلم يحس بها فمد عبد الله المحدث يده وأخذ الحجر وقبله وقال: أشهد أنه الحجر الأسود، فتعجب القرمطي من ذلك، وقال: هذا دين مضبوط بالنقل وأرسل الحجر إلى مكة”.

أما ابن سنان الذي عاصر هذه الحقبة التاريخية فيقول: “لقد عُرِضَت الكثير من الأموال على القرامطة كثمن لردّهم الحجر الأسود لكنّهم رفضوا كلّ تلك العروض، وكان السبب الحقيقي وراء امتثال القرامطة للأمر هو التهديد الذي وجّههُ الخليفة الفاطمي عبيد الله المهدي إليهم، ممّا أجبرهم على ردّ الحجر الأسود إلى مكّة ثانية”، و جاء في رسالته إلى ابن ظاهر القرمطي “أخفقت علينا سعينا، وأشبهت دولتنا بالكفر والإلحاد بما فعلت، متى لم ترد على أهل مكة ما أخدت، وتعيد الحجر الأسود إلى مكانه، و تعيد كسوة الكعبة، فأنا بريء منك في الدنيا والأخرة”.

ويشار إلى أن القرامطة ينتمون إلى الفرقة الإسماعيلية للطائفة الشيعية، وتنسب إلى مؤسسها حمدان بن الأشعث المكنى بقرمط؛ الذي استغل تفكك الدولة العباسية وضعفها، وسيطر على أجزاء من جزيرة العرب، وقد زال حكمهم بعد هزيمتهم على يد الفاطميين والعيونيين.

الصراع على السلطة هدد الحجر الأسود

وتذكر المصادر التاريخية أن الحجر الأسود لم يصبه اعتداء أو تغيب على طول ما يسمى بالعصر الجاهلي، مقارنة بما اعتراه في العهد الإسلامي، بسبب الصراعات حول السلطة أو بسبب تصرفات فردية، ففي عهد الخليفة الأموي اليزيد بن معاوية، وفي الشهر الحرام، تمت محاصرة الحرم المكي 64 يوما، بعد ان احتمى فيه عبد الله بن الزبير الذي أعلن ثورته ورفض مبايعة اليزيد، فأرسل هذا الأخير جيشه لمحاصرة مكة، ورمى بالمنجنيق الصخور المحماة التي أدت إلى إحراق الكعبة وتهدم أجزاء منها. وفي خضم ذلك مات الحاكم الأموي، فانسحب جيشه واستقر الأمر لابن الزبير من جديد، فهدم الكعبة حتى سواها بالأرض، وأعاد بنائها سنة 64ه/ 683م.

ولما وصل عبد الملك بن مروان إلى عرش الأمويين، أرسل الحجاج بن يوسف الثقفي على رأس الآلاف من جنوده، فحاصروا مكة ورموا الكعبة بالمنجنيق والمسلمون يؤدون مناسك الحج، وانتهت المعركة بعد قتل ابن الزبير والتمثيل بجثته وإرسال رأسه المقطوعة إلى عبد الملك بن مروان الذي سبق أن احتج على اليزيد عندما أقدم جيشه على قصف الكعبة.
كما سجل التاريخ واقعة مثيرة انتهكت حرمة الحجر الأسود، ففي سنة413ه/1022م، بعث الخليفة الفاطمي السادس “الحاكم بأمر الله المنصور”، عددا من فرسانه، يقول ابن الأثير “في هذه السنة كان يوم النفر الأول يوم الجمعة، فقام رجل من مصر، بإحدى يديه سيف مسلول، وفى الأخرى دبوس، بعدما فرغ الإمام من الصلاة، فقصد ذلك الرجل الحجر الأسود كأنه يستلمه، فضرب الحجر ثلاث ضربات بالدبوس، وقال: إلى متى يعبد الحجر الأسود ومحمد وعلي؟، فليمنعني مانع من هذا، فإني أريد أن أهدم البيت، فخاف أكثر الحاضرين وتراجعوا عنه، وكاد يفلت، فثار به رجل فضربه بخنجر فقتله، وقطعه الناس وأحرقوه، وقتل من اتهم بمصاحبته جماعة وأحرقوا، وثارت الفتنة، وكان الظاهر من القتلى أكثر من عشرين رجلاً غير من اختفى منهم”.

الحجر الأسود بين العلم والدين

يؤكد الأثر الإسلامي على المصدر السماوي للحجر الأسود، حيث روى ابن عباس عن رسول الله قوله صلى الله عليه وسلم قوله “نزل الحجر الأسود وهو أشد بياضًا من اللبن فسودته خطايا بنى آدم”، وكان جبريل عيه السلام هو من أنزل الحجر الأسود من الجنة، عندما أمر الله النبي إبراهيم وابنه إسماعيل ببناء الكعبة.وهناك فرضيات حول الحجر الأسود تدعي أنه يتكون من أحجار مختلفة من البازالت والزجاج والعقيق ونيزك حجري، وقد أشارت إحدى الباحثات في الجيولوجيا بجامعة كوبنهاغن سنة 1980، أن الحجر قد يكون جزءا من الزجاج أو حجر متحول من أثار نيزك سقط في منطقة الوبار قبل 6.000 سنة.

كما قال زغلول النجار “المختص في الإعجاز العلمي في القران” إنه جاء أحد البريطانيين يريد أن يأخذ جزءًا من الحجر الأسود لتحليلها ومعرفة هل هو حجر من السماء كما أخبر النبي (ص)، وبالفعل نجح ذلك البريطاني في الوصول للحجر بعد أن تعلم العربية، وأخذ جزءا منه بآلة حادة صغيرة وذهب إلى بلاده ليكتشف أنه نيزك من نوع فريد، فتأثر الرجل لذلك وأعلن إسلامه، وكتب كتابًا سماه “رحلة إلى مكة”.

احصل على تحديثات فورية مباشرة على جهازك ، اشترك الآن

0 0 أصوات
تقيم المقال
من شروط النشر : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments

يستخدم موقع الويب هذا ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

0
أضف تعليقكx
()
x