لماذا وإلى أين ؟

كل ما تـــودّون معرفتَهُ عن الإستثمار الأخضر الذي عُرِضَ أمـــام الملك

بعد الإعلان عن برنامج الاستثمار الأخضر لمجموعة المكتب الشريف للفوسفاط (2023-2027)، الذي عرض مؤخرا أمام الملك محمد السادس، أجرى الخبير والاقتصادي البارز بمركز السياسات من أجل الجنوب الجديد، العربي الجعيدي، حوارا مع وكالة المغرب العربي للأنباء، أكد فيه على أهمية هذا المشروع الهائل من حيث الوسائل والمتفرد على المستوى الإفريقي، والذي يجسد المكانة القيادية والالتزام الراسخ للمملكة في مجال التنمية المستدامة.

1ـ تستعد مجموعة المكتب الشريف للفوسفاط لإطلاق برنامج الاستثمار الأخضر الجديد، ما قراءتكم لهذه المبادرة؟

يتعلق الأمر ببرنامج ضخم من حيث الاعتمادات المالية التي سيتم ضخها في الاقتصاد الوطني على امتداد أربع إلى خمس سنوات. البرنامج جاء تكملة للمخطط السابق وداعما للقرارات المتخذة من أجل تعزيز قطاع الأسمدة الخضراء وفتح آفاق جديدة بغية تطوير قطاعات الطاقات المتجددة المتصلة بتثمين الفوسفاط.

وبحسب قراءة أولى لهذا المشروع، فإنه يعد تجسيدا لقدرة دولة وقدرة مقاولاتها العمومية الرائدة على استغلال إمكاناتها من الموارد الطبيعية لتنويع اقتصادها وتقوية استقلاليتها الاستراتيجية. ويفسر فشل مسار التنمية الذي ترسمه العديد من دول الجنوب بصورة كبيرة بما نطلق عليه اسم “لعنة الموارد الطبيعية”.

وهذا هو حال دول إفريقيا أو أمريكا اللاتينية الغنية بمعادن أو بموارد طاقية والتي تعاني من أوضاع اقتصادية متناقضة تتسم بوفرة الموارد الطبيعية وصعوبة تثمينها من خلال تطوير سلاسل القيمة التي من شأنها تكثيف عائداتها على مستوى الاقتصادات الوطنية.

ومن ثم فإن القطاعات العامة المحتكرة التي تستغل هذه الموارد تسهم في إعادة إنشاء بنيات اقتصادية ريعية. إذ أن العائدات المالية التي تكسبها المقاولة العمومية توضع في حساب الدولة التي تصرفها بدورها في غالب الأحيان في استهلاكات غير منتجة، ناهيك عن ظواهر استيلاء النخب الفاسدة على الريع الاقتصادي.

ويمثل برنامج الاستثمار للمكتب الشريف للفوسفاط تعبيرا عن برنامج مضاد للريع، حيث يبين أن القرار تؤطره رؤية بعيدة المدى، واستباق للتحولات البيئية الدولية، وإرادة سياسية، ومقاربة اقتصادية معقلنة. ويتجلى الهدف منه في الإسهام في تنوع الاقتصاد الوطني واندماجه من أجل ضمان نتائج مستدامة على مستوى رفاهية المواطنين.

2ـ هل يمكننا حقا التطلع إلى نمو أخضر؟ وكيف ذلك؟

الحديث هنا ليس على مجرد تطلع، بل ضرورة حتمية. فقد أصبحت موارد البترول والغاز والكاربون، التي طالما تمنينا استبدالها بالموارد الطاقية الأقل تلويثا، في قلب التوترات الدولية. ويبقى التحول صعبا في الوقت الذي يكون هناك اعتماد على طاقة أحفورية موجودة بوفرة.

والملاحظ أن الطاقات المتجددة تستأثر بحصة متزايدة ضمن المزيج الطاقي في العالم. وعلى الرغم من الصعوبات التي برزت خلال المفاوضات الدولية الأخيرة حول المناخ، والمتمثلة في احترام الالتزامات المدرجة ضمن المساهمات المحددة وطنيا، فإن السعي وراء الحياد الكربوني يبقى هدفا يفرض نفسه على كل الشركاء.

إنه رهان معقد يستدعي جعل كافة القطاعات الاقتصادية للسلع والخدمات خالية من الكربون. ولم يسبق أن كانت حالة الطوارئ البيئية أشد إلحاحا مما هي عليه الآن، فالتنمية المستدامة خيار لا غنى عنه. إن أراد المغرب أن يواصل ريادته في سوق الأسمدة العالمي، والمنتوجات الزراعية أو الصناعية، فعليه رفع التحديات القائمة لجعل هياكل اقتصاده خضراء.

جددت المملكة، خلال كوب 27 رغبتها في تعزيز مجهوداتها المبذولة سابقا، والمتعلقة بالتزاماتها الدولية في الاستدامة، ويكمن التحدي في تعبئة الإمكانات المالية والتقنية من أجل نموذج تنمية يجمع بين الاستدامة والابتكار.

ويتعلق الأمر بإعادة النظر في إمكانات برامج الطاقات المتجددة ودعمها من أجل تحقيق تراجع ملحوظ في السعر الإجمالي للطاقة، وجعله رافعة للتنافسية المقاولاتية وتوفير شروط اقتصاد منخفض الكربون يستقطب الاستثمارات الأجنبية الباحثة عن انتقال جغرافي ذي قيم مضافة قوية.

وتشكل إعادة هيكلة الاقتصاد الوطني انطلاقا من أسس الاقتصاد الأخضر عن طريق اعتماد استراتيجية خاصة، شاملة ومدمجة على حد سواء، أهم التوجيهات التي يدعو إليها النموذج التنموي الجديد، كما يتعين أن تمتد هذه الاستراتيجية، على مستوى إقليمي يرتبط بشكل وثيق بالاستراتيجيات القطاعية، مع إعطاء الأولوية للإمكانات المحلية.

كما يتعين إيلاء اهتمام خاص لتطوير القطاعات الصناعية الخضراء في مجال الطاقات الشمسية والريحية والتطهير السائل، وكذا تدبير النفايات وتكييف هذه المجالات مع الإمكانات الجهوية.

3ـ يرسم البرنامج تطلعات سوسيوـ اقتصادية كبيرة في مجال الشغل ومواكبة المقاولات الصغيرة والمتوسطة، أين يتجلى انخراطه في الدينامية الاقتصادية الشاملة للمملكة؟

في نظري، يتمثل الانخراط الأكثر أهمية في المساهمة في تحول هياكل الاقتصاد الوطني، البرنامج يستهدف تحويل الصعوبة الطاقية التي يواجهها المغرب إلى فرصة حقيقية للتنمية.

250X300 Ministre taransition mobile

أولا، يسعى البرنامج إلى الاستفادة من المجهودات المبذولة في مجال الطاقات المتجددة (مشاريع شمسية، ريحية …) ويأخذ بالاعتبار الإمكانات التي تزخر بها هذه الطاقات عن طريق ترسيخ الحلول التكنولوجية الجديدة، على غرار “Power-to-X”.

كما يعزز العديد من القطاعات الواعدة مثل الطاقة الريحية، والخلايا الكهروضوئية أو حتى تحلية مياه البحر، بمعدل إدماج جيد. كما أن إنتاج المياه التي يتم تحليتها للاستهلاك الزراعي وغير الزراعي سيمكن من تخفيف ضغط الأنشطة الزراعية على الموارد المائية كما سيسهم في ضمان توازن أفضل بين الأمن الغذائي والحفاظ على الماء.

ثانيا، سيمكن هذا البرنامج، الذي يبلور مشاريع صناعية طاقية في إطار اندماج صناعي ترابي، من تقوية النظام الإيكولوجي الصناعي الوطني بمعدل إدماج محلي يصل إلى 70 بالمئة وعائدات معلنة على مستوى 600 مقاولة مغربية مشاركة. كما من شأنه الإسهام على الأرجح في التنمية المحلية، إذ أن معظم المشاريع تتموقع في مناطق استخراج الصخرة أو مناطق تحويلها إلى سماد.

ثالثا وأخيرا، يعبئ البرنامج المورد الطبيعي، والتكنولوجيا، والابتكار من أجل إنتاج سماد أخضر وتفعيل قطاع الطاقات المتجددة في الآن ذاته، من أجل استجابة مثلى للتحديات التي تضعها تداعيات التنافسية الجديدة، كما يسهم في انبثاق قدرات سياسة تكنولوجية بشكل استباقي من خلال استثمارات في مجالات البحث والتنمية.

وبذلك، يمكن البرنامج من تملك التكنولوجيا ونشرها بشكل تدريجي، ما سيسمح بظهور خبرة وإنتاج محلي (سلع وخدمات). ومن المرتقب أن تخلق تحلية المياه ظروف تشكيل تكتلات بين الفاعلين الدوليين والمغاربة من أجل تعزيز الكفاءات وولوج تكنولوجيا سلسلة القيمة.

ومن شأن محطات إنتاج الطاقة الشمسية المرتقبة في مختلف الجهات أن تدعم تطور الصناعة الوطنية الناشئة من الطاقة الشمسية، أما محطات إنتاج الطاقة الريحية المرتقبة فبإمكانها استقطاب شركات متخصصة بهدف توفير اللبنات التكنولوجية غير المتوفرة على الصعيد المحلي.

وتقدم هذه المشاريع في مجملها فرصا لتقوية الطلب العمومي للمكتب الشريف للفوسفاط لتعزيز الموازنة الصناعية، وتوسيع مجال المناولة في الأنشطة الصناعية والخدمات الموجهة لفائدة المقاولات الصغيرة والمتوسطة والمقاولات الصغرى المحلية. ويمكن لذلك أن يتجسد في بنود اندماج صناعي بالتعاقد، تجعل الجامعات والمؤسسات البحثية والمقاولات الناشئة والمقاولات الوطنية تنخرط في هذا المشروع.

4ـ هل بإمكان المغرب، بفضل هذا المشروع، أن يصبح رائدا عالميا في مجال الهيدروجين الأخضر على غرار الأسمدة؟

يتواجد الهيدروجين في صلب الرهانات الجيو-استراتيجية، ويعتبر أحد العناصر الأساسية للتحول الطاقي العالمي، ويشهد مركز الريادة العالمية لهذا المجال منافسة شرسة بين القوى العظمى.

الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي واليابان والصين كلها تضاعف برامجها وخطط عملها وتعبئ مواردها المالية والتكنولوجية في هذه المنافسة.

وللحديث عن الأقرب إلينا، نجد الاتحاد الأوروبي الذي وضع استراتيجية في مجال الهيدروجين في إطار الاتفاق الأخضر “Green Deal”، حيث يضطلع الهيدروجين بدور متعدد وجوهري، إذ يمكن من نقل، وكذا تخزين الطاقة الناتجة عن مصادر الطاقات المتجددة.

ويكتسي هذا الإقبال على الهيدروجين طابعا عالميا، ولطالما اعتبر نوعا من الطاقة المستقبلية. في الواقع، يفتح الهيدروجين والمواد المشتقة من “Power-to-X” إمكانيات جديدة نحو إزالة الكربون، في فروع صناعية غير قابلة للكهربة بسهولة. كما من شأنه أن يكون بمثابة بترول النصف الثاني من القرن 21.

وبالطبع، إنه ليس مجرد طاقة، بل دعامة، مثل الكهرباء، ويعتبر هذا النوع من الطاقات عنصرا أساسيا للتحول الطاقي. ويشكل تقليل اعتمادنا الطاقي واستقلاليتنا الاستراتيجية في الطاقة أكبر التحديات. وتعتبر هذه الأهداف أهدافا واقعية، صحيح أنها صعبة التحقق، إلا أن هناك اقتصادا جديدا ينتظر منا إرسائه، لدى وجب التحلي بالطموح اللازم لذلك.

كما ينبغي إنشاء قطاعات الهيدروجين النظيف أو الأخضر من الجوهر وبشكل جذري، ولن يكون من السهل التحكم في المحددات الضامنة لتوازن هذا المسار. يتعين على المغرب، أخذا بالاعتبار مؤهلاته الحالية، الانفتاح على آفاق منطقية في مجال تطوير فرع مخصص للمنتوجات الخضراء (الهيدروجين، الأمونياك، أو غيرها )، والمصادق على استدامتها وبسعر تنافسي، لخدمة الصناعة على الصعيد الوطني وتمثيل عامل استقطاب على الصعيد الدولي.

فالمغرب يتوفر بخارطة طريق تطمح إلى تعزيز ميزاته من أجل كسب مكانة في مجال الهيدروجين المكلف والذي لم ينضج بعد تكنولوجيا. وللتذكير فإن تكلفة الطاقة عند إنتاج الهيدروجين عن طريق التحليل الكهربائي تشكل مكونا حاسما.

كما أن توظيف الهيدروجين على نطاق واسع يستدعي تمكنا تكنولوجيا من حلول الإنتاج المعتمد على الطاقة الخضراء والتخزين والاحتفاظ بالمورد. ويسعى المغرب إلى التوفر على سياسة تكنولوجية ذات صلة بهذا المجال وتطوير مشاريع رائدة مع الشركاء المتخصصين في هذا الشأن.

أما التنافس مع القوى العالمية فيقتضي ضرورة إرساء عقود شراكة مع فاعلين دوليين، ومن هذا المنظور، فإن توافق رؤية السلطات العمومية، المكتب الشريف للفوسفاط وعالم الأبحاث حول طرق وآليات هذه الشراكات سيسرع عملية التحكم في هذا القطاع الاستراتيجي.

600X300 Ministre taransition mobile

احصل على تحديثات فورية مباشرة على جهازك ، اشترك الآن

من شروط النشر : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments

يستخدم موقع الويب هذا ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

0
أضف تعليقكx
()
x