لماذا وإلى أين ؟

على نفسها جنت فرنسا

فاضل المناصفة *

لم تكن أصول نائل الدافع الأكبر الذي حرك الشارع في فرنسا بقدر ما كانت حالة الشعور بالنقص والعنصرية والإقصاء وازدواجية المعايير في تطبيق القانون هي المحرك الرئيسي في أحداث فرنسا الأخيرة، والتي شهدت أحداث عنف تعطي في تفاصيلها أبعاد المشكلة الاجتماعية التي تعانيها فرنسا والتي امتزجت بشيء من ملف الذاكرة عندما تعلق الأمر بوفاة شاب من أصول جزائرية.

لا تعني عودة الحالة الأمنية إلى الاستقرار والنجاح في ضبط الأمور وتوقف أعمال الشغب والسرقة التي تخللت الاحتجاجات، وتقديم المتسبب في قتل الشاب نائل إلى المحكمة أن فرنسا تعاملت مع القضية كما يجب وفازت بالمعركة ضد المخربين والخارجين عن القانون، ذلك لأن المعالجة الأمنية لا تعني شيئا في غياب المعالجة الاجتماعية لمشاكل تجاهلها ساركوزي ومن ورائه هولاند ويكررها ماكرون اليوم، في جمهورية يعيش فيها الجيل الجديد أضعاف ما عاشه آباءهم المهاجرون من عنصرية وتهميش، ويتنامى فيها الشعور بالحقد والكراهية الذي يغذيه إرث فرنسا الاستعماري، دون أن تتم محاسبة الذين يتسببون فعليا في إثارة هذه المشاعر ويروجون لفكرة أن كل ما هو آت من أفريقيا هو سبب مصائب فرنسا.

“الضجيج والرائحة” كانت إحدى العبارات التي لن تنسى في سيرة الرئيس الفرنسي الأسبق جاك شيراك، في خطابه الذي ألقاه أمام حشد من أنصار حزبه “الاتحاد من أجل حركة شعبية”، والذي كان طرحا جريئا حين استعرض فيه ضرورة مراجعة سياسة الهجرة، خاصة وأن الفرنسيين أصبحوا يتحسسون من أن سياسة التضامن الوطني تصب في مصلحة المهاجرين قبل أن تصب في مصلحة السكان الأصليين.

في ذلك الوقت فتح شيراك الباب لمناقشة أحد الملفات الأكثر حساسية، واعتبر أنه من غير المنطقي أن تستفيد الأسر المهاجرة من أصول مغاربية وأفريقية من دعم صندوق البطالة ومن امتيازات اجتماعية أخرى من غير أن يكونوا مجبرين على الوفاء بالتزامات يقوم بها فرنسيو الأصل، وهو ما يستدعي فتح نقاش أخلاقي حول ضرورة مراجعة مسائل مهمة في قانون الهجرة، وبعبارة ساخرة قال شيراك إذا أضفنا “الضجيج والرائحة” فإن العامل الفرنسي سيصاب بالجنون، وهي عبارة على الرغم من إيحاءاتها العنصرية قوبلت بترحيب واسع من قبل الفرنسيين.

كان ذلك الخطاب الذي قدم فيه شيراك الخطوط العريضة لسياسة حزبه تجاه مسألة الهجرة أحد أقوى الخطابات التي رفعت من شعبيته، واختصرت له الطريق للوصول إلى قصر الإليزيه. ولكن كعادة السياسيين استعمل شيراك ذلك الملف للمراوغة السياسية ولمنافسة خصومه دون أن تتم بالفعل معالجة المشكلة التي خلقتها عندما كان رئيسا للوزراء وعندما أسست حكومته آنذاك لقانون لم شمل الأسرة والذي يسمح للمهاجرين الموجودين بالفعل بشكل قانوني في الأراضي الفرنسية لجلب عائلاتهم.

لقد اختار شيراك الحرص على مصالح فرنسا الخارجية وعلاقاتها الدبلوماسية مع الدول الأفريقية التي يأتي منها هؤلاء المهاجرون وأرجأ مسألة معالجة مشكلة عميقة أثارها في المجتمع الفرنسي إلى وقت لاحق. لكن هذا لم يمنع المشكلة من أن تتطور وتنتقل من جيل إلى جيل ومن حكومة إلى أخرى.

لطالما وظفت قضية الهجرة في فرنسا توظيفا سياسيا خالصا، ولطالما أحدثت الأصوات الانتخابية للمهاجرين الفارق في نتائج الانتخابات الفرنسية. لقد ذهب التوظيف السياسي بعيدا عندما أصبح ملف الهجرة والمهاجرين أحد القواعد الرئيسية التي يبني بها اليمين المتطرف شعبيته، ويستعرض من خلالها أفكارا وتوجهات سياسية تنادي بطرد المهاجرين، وتنادي بمراجعة مبادئ الجمهورية التي كرست للظلم الاجتماعي، وهي أفكار يروجها الإعلام الفرنسي المحسوب على التيار المتطرف بالمزيد من التعبئة النفسية ضد المهاجرين. وبما أن السياسيين في الغالب مدركون لمدى الأثر الاجتماعي الذي يخلفه عبثهم بملف الهجرة وخطورة “الأمراض الاجتماعية” التي يعانيها المجتمع الفرنسي نتيجة هذا التوظيف السياسي، فإنه لا مجال لإنكار جزء من مسؤوليتهم في ما يحدث بشكل أو بآخر.

ورغم حل الكثير من المجموعات اليمينية المتطرفة التي تنادي بخطاب راديكالي وعنصري ضد المتطرفين بموجب قانون الأمن الداخلي، إلا أن ذلك لا يعد سوى ذر رماد في العيون. المشكلة الأساسية تكمن في غياب حوار حقيقي وشفاف يعالج ملف الهجرة والمهاجرين، ويراجع مسألة أخرى في غاية الأهمية وهي مشكلة الذاكرة التي تحمل في طياتها جراحا عميقة لم تعالج، توارثتها أجيال المهاجرين من فرنسا الاستعمارية إلى فرنسا الحديثة، وتعاملت معها الحكومات المتعاقبة بسياسة الصمت والالتفاف وسياسة الهروب إلى الأمام. وإلى أن يتم وضع النقاط على الحروف من غير المستبعد أن تتكرر الأحداث العنيفة في كل مرة يتعرض فيها أبناء المهاجرين إلى ظلم اجتماعي كان ولا يزال في الأصل سياسيا بأبعاد تاريخية.

 *كاتب فلسطيني

إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبر بالضرورة عن رأي آشكاين وإنما عن رأي صاحبها.

احصل على تحديثات فورية مباشرة على جهازك ، اشترك الآن

0 0 أصوات
تقيم المقال
من شروط النشر : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments

يستخدم موقع الويب هذا ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

0
أضف تعليقكx
()
x