لماذا وإلى أين ؟

فاجعةُ دمنات وحكايةُ عُـرسٍ لمْ يَـكْـتمِـل…

سعيد الغماز
قصة حقيقية ومؤلمة…

فاجعة بكل المقاييس تلك التي حلت بسيارة للنقل في طريقها إلى دمنات. كانت السيارة متجهة نحو السوق الأسبوعي، وكل راكب له قصة وراء قصده هذا السوق. لكن القدر كانت له كلمة أخرى. انقلبت السيارة، وخلفت 24 قتيلا بينهم امرأتان كما تداولته وسائل التواصل الاجتماعي. الأكيد أن وراء كل قتيل رواية وحكاية، لكن حكاية فاطنة جديرة بسردها لتبقى عنوان مأساة بطلتها شابة مقبلة على الزواج وأبوها الضحية وأخوها فارس الحكاية. نسرد قصة فاطنة لأن الحكاية لم تكتمل….

فاطنة، تلك الشابة التي انتشرت اخبارها في القرية باقتراب حفل زفافها. الجميع متأهب لحفل يليق بجميلة الدوار ومحبوبة الجيران. الأب يرعى غنمه في تلال “ايواريدن”، وبين الحين والآخر يبوح لصديقه بمشاعره الجياشة وهو يُعد العدة لعرس ابنته. ينظر لغنماته، يرمق أجودها، ثم يشير بأصبعه أن هذه الشاة وتلك ستكونان وليمة زفاف “فاطنانو” كما يحلو له أن يصف ابنته التي تسكن صورتها في غرفة من دماغه، ويحتل حبها قطعة من قلبه. أما الأم فهي منشغلة بإعداد “حربر” أو “هربل” حسب نُطق بعض المناطق، وهو طعام يقدم للضيوف يوم الحناء حسب عادات الجبل وتقاليد أمازيغ الأطلس. إنه طعام بسيط لكنه في مقام الشواء في أعراس المدينة. كما أن حديثها مع زوجها هو فقط عن عدد الحضور ومن سيحضر منهم حسب البعد والانشغال.

كان الأب يدعو أصدقاءه إلى ضرورة حضورهم من أجل تماسك وتكامل فرقة أحواش، ويقول بنبرة الفرح والسرور “أحواش أر زيك الصباح” وباللغة العربية “سنرقص مع أحواش حتى بزوغ الفجر”. في تلك المنطقة فرقة أحواش هي في مقام أم كلثوم العرب وموزار العجم.

أما الأم فدائما ما تقول بكل حسرة لفاطنة وهي تحاول إخفاء دمعة الحنين والفراق “بقي القليل لتغادري، لا أعلم كيف سأعتاد على غيابك”.

ليس الأب وحده يبحث كيف يساعد ابنته في حفل زفافها، وليست الأم وحدها تحمل هم هذا الحفل. ولكن هناك في الدار البيضاء وفي أحد أوراش البناء، يَكِدُّ ويَجِدُّ اليوم كله، حميد الأخ الأكبر لفاطنة. شهور عديدة، يجتهد في العمل، لتوفير المال لكي يساعد به في زفاف أخته. يكتفي بالقليل من الطعام، ولا ينظر إلا إلى الأرخص منه، فكل درهم سيزيد من سعادة أخته، ويلبي طلبات عرسها. كل وجبة يتخلى عنها في اليوم، لها قيمة كبيرة في عرس فاطنة. رغم أن عمله الشاق، يحتاج لطاقة تلك الوجبات.

مباشرة بعد عيد الأضحى، سافر حميد رغم أن أقرانه من أبناء القبيلة يستمتعون بعطلتهم، ويحضرون دوريات كرة القدم المنظمة في الدواوير المجاورة، وما تمثله من فترة مرح وحماس. ترك حميد ذلك كله من أجل فاطنة، وزفاف فاطنة. في السنوات الخوالي، كان حميد يقضي فترة طويلة بعد عيد الأضحى. فترة يجدد فيها عضلاته، ويقوي عضد نفسه، ليُقدِم على سنة جديدة من العمل الشاق، يكون فيه الدرهم الواحد ممزوجا بعرق التعب. هذه السنة، سيكون عرس فاطنة، فاختار حميد الرجوع إلى الدار البيضاء ليواصل العمل، تاركا أصدقائه ينعمون بعطلتهم قبل الالتحاق به. بالنسبة لحميد، كل يوم إضافي من العمل، يعني دراهيم تخفف على أبيه مصاريف العرس، وتزيد من سعادة أخته فاطنة.

صباح يوم الأحد، استيقظت فاطنة باكرا، وبعد أن احتشمت في جلبابها، غادرت هي وأبوها إلى السوق الأسبوعي بمدينة دمنات لاقتناء ما يلزمها، استعدادا لليلة العمر وحلم كل فتاة.

للأسف… للأسف… الفرحة لم تكتمل … غادرتنا فاطنة وأبوها في حادثة الأحد الأسود، هما و22 آخرين من أبناء قرية “ايواريدن” والنواحي، تاركين وراءهم أمهات مكلومات ويتامى وعائلات والكثير مثل أم فاطنة وإخوة كحميد الذي تعجز كل أقلام الأدباء، وبلاغة الشعراء، وصْفَ شعوره بعد سماع الخبر، لأنه شعور لا ولن يعرف حرقته إلا من كان ذات يوم أخا لفاطنة.
تأجل العرس ولم تكتمل الحكاية…

الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبر بالضرورة عن رأي آشكاين و إنما تعبر عن رأي صاحبها.

احصل على تحديثات فورية مباشرة على جهازك ، اشترك الآن

من شروط النشر : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

3 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments
احمد
المعلق(ة)
6 سبتمبر 2023 13:16

قدر الله ماشاء فعل، ومادام الموت آتي لامحالة،فلا تاسو على مافاتكم ولا تفرحو بماهو آت، ورحم الله امواتنا واموات المسلمين جميعا.

محمد أيوب
المعلق(ة)
6 سبتمبر 2023 12:43

رائع:
مقال ردغاية في الروعة بما يتضمنه من اوصاف واحاسيس انسانية لفئة من ساكنة بلدنا المهمشة لا تعرف التنقل بواسطة التوارݣ او المرسيدس او الجاݣوار او الاودي،بل تجبرها ظروف عيشها على التحدي في وسائل نقل لا تتوفر فيها أدنى شروطوالسلامة…حوادث السير قضاء وقدر…هذا واقع قد يحدث لاي شخص مهما كانت وسيلة نقله،لكن يوجد فرق شاسع بين تنقل وسائل تنقل مهمشي الوطن وتنقل فئة اكابر البلاد واغنيائه…شكرا للكاتب على ملامسته الذكية لواقع مواطنين يشبهوننا في كل شيء،لكنهم يختلف نومثلنا عن فئة قليلة جدا من ساكني هذا الوطن الذين يتوفرونوعلى كل شيء بما فيها الجنسية المزدوجة،فهم مغاربة مثلنا لانهم يحتاجون إلى هذه الصفة من اجل تكديس الثروة،وهم اجانب من جهة أخرى لاسباب نعلمها ويعلمونها جيدا…

محمد بلحسن
المعلق(ة)
6 سبتمبر 2023 07:35

رحم الله 24 شهيد سوء تدبير الميزانيات المخصصة طيلة ال 25 سنة للدراسات والأشغال الطرقية بالمغرب. رحم الله فاطمة ووالدها ضحايا الفوارق الاجتماعية العميقة بسبب أخطاء كبيرة في تدبير المال العام يستوجب احترام قدسية كل درهم من دراهم شعب صبور خصوصا في المناطق الجبلية. أطال الله في عمر والدة الفقيدة وفي عمر حميد ذلك الشاب الذي يشتغل بقطاع البناء والاشغال العمومية أرغب في التعرف عليه والتواصل معه رغبة في خدمة الصالح العام بالتجارب المهنية الموجعة متخذين دمنات كجامعة لتطوير مناهج الحكامة الجادة للندرة المالية بالمغرب وبدول إفريقيا جنوب الصحراء. أتمنى إيجاد عنوانه وهاتفه حتى نتفق على لقاء مباشر بقاعة الانتظار بمحكمة من محاكم المملكة وبالضبط بالجناح المخصص للنيابة العامة. للإشارة، من بين المهام المسندة للنيابات العامة حماية المجتمع من ناهبي المال العام. كما أشير أن رئاسة النيابة العامة، منذ يونيو 2021، تقوم بإصلاحات عميقة في قطاع القضاء مُشهرة شعار “نيابة عامة مواطنة”.
رحم الله الشهداء. اللهم الصبر لعائلاتهم وأصدقائهم ولجميع المغاربة والبشرية جمعاء.
نهاركم سعيد.

يستخدم موقع الويب هذا ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

3
0
أضف تعليقكx
()
x