2024 © - أشكاين جميع الحقوق محفوظة - [email protected]
شبكات التواصل الاجتماعي ومعضلة الأخبار الكاذبة
*المصطفى بنعلي
تتزايد المخاوف من الآثار الداهمة للأخبار الكاذبة، التي يتم الترويج لها على شبكات التواصل الاجتماعي. إذ لم يعد يمر يوم، دون أن ينكشف زيف خبر، أو صورة، أو تسجيل، سبق تداوله، على نطاق واسع، على أساس أنه صحيح. والواقع أنه لطالما عاش الإنسان مع معضلة الأخبار الكاذبة منذ قديم الزمان، لكن، دون أن يشهد هذا النوع من الأخبار الانتشار الكبير الذي يشهده اليوم. فقد أدى اقتحام التكنولوجيات الحديثة لحياتنا اليومية إلى انتشار الأخبار بكم هائل، وبسرعة فائقة، لتصبح الأخبار الكاذبة، واحدة من أكبر المعضلات، التي ليس لآثارها حدود.
وعلى الرغم مما تحظى به الأخبار الكاذبة من اهتمام، بعد تزايد انتشارها على شبكات التواصل الاجتماعي، وتورط وسائل الإعلام الجماهيري في تلفيق الأخبار، فإن دراسة هذه المعضلة لازالت تنطوي على جملة من النظريات، والقليل من القواعد. وهو الأمر الذي لم يعد مقبولا، خصوصا، بعد أن ولج العالم عصر “ما بعد الحقيقة”، الذي أصبحت فيه الحقائق الموضوعية أقل تأثيرا من الأكاذيب، والشائعات، والشحن العاطفي، في تشكيل الرأي العام.
وفي محاولة لمكافحة ظاهرة الأخبار الكاذبة، يبدو أن المغرب ثابت على اختيار المقاربة التأسيسية للقانون، لمعالجة كل الظواهر المجتمعية الجديدة، ما يحملنا على الإدلاء بهذا الرأي، الذي نحاول، قدر الإمكان، إحاطته بالمعيارية الضرورية، من أجل بحث مساهمة شبكات التواصل الاجتماعي في إطلاق العنان للأخبار الكاذبة، وخطورة الآثار المدمرة الناجمة عن الانتشار السريع واللامحدود لهذا النوع من الأخبار، سيما على مستوى قتل الثقة في مؤسسات الحكم، ثم تبيان الحاجة الملحة للتربية الإعلامية لمجابهة هذه المعضلة.
شبكات التواصل الاجتماعي ونشر الأخبار الكاذبة
لم تكتف شبكات التواصل الاجتماعي بأن أحدثت نفس الأثر الذي أحدثه مكبر الصوت فقط، بل زادت عليه بأن جعلت مستعملي هذه الشبكات صانعين ومروجين للأخبار وليس مجرد متلقين لها كما كان الأمر عليه بالنسبة لوسائل التواصل التقليدية. وهذا ما قد يشكل منطلق فهم دور هذه الشبكات في تضخم معضلة الأخبار الكاذبة. فإذا كان لا أحد ينكر دور مكبر الصوت بالنسبة لرفع آذان الصلاة، وإنجاح مختلف التجمعات الجماهيرية، فكيف يمكن إنكار دور شبكات التواصل الاجتماعي في مدى وسرعة انتشار الأخبار؟
في هذا السياق، تتراكم الدراسات لتؤكد أن انتشار الاخبار الكاذبة يتم بسرعة أكبر مقارنة مع الأخبار الصحيحة. فحسب بحث حديث، ينتشر الخبر الزائف بمعدل ست مرات أكبر مقارنة مع الخبر الصحيح، بمجرد بلوغ عتبة انتشاره بين ألف وخمسمائة شخص. وكشفت دراسة أخرى حديثة، ترتبط بجانب المسؤولية عن نشر الأخبار الكاذبة، أجريت سنة 2017، بأن شبكات التواصل الاجتماعي مسؤولة بنسبة 27% عن انتشار الأخبار الكاذبة، مقابل 12% بالنسبة لمحطات التلفزيون، وفقط 6% بالنسبة للمطبوعات. فيما تضع دراسة ثالثة مقارنة تجريبية بين قابلية انتشار الخبر الكاذب مقارنة مع بيان تصحيحه…
ولو شئنا لاسترسلنا في تعداد الدراسات التي تبين كيف أضحت شبكات التواصل الاجتماعي بيئة ملائمة لتلفيق الأخبار، وانتشار الأخبار الكاذبة، بسبب كثافة تدفقها وسرعة سريانها على شبكة الإنترنت، حيث أن منطق خوارزمياتها مبني على الرغبة في مضاعفة معدلات الانتشار، وأن الخبر الكاذب مصمم في الأصل بهدف الانتشار الواسع، مستفيدا في ذلك من تطور مذهل في البرامج التي تسهل تزييف الصور والفيديوهات، إضافة إلى انتشار المصادر المجهولة، حيث أفادت شركة فيس بوك، على سبيل المثال، أن عدد مستخدميها عبر حسابات وهمية قد بلغ سنة 2012 أزيد من 83 مليون مستخدم، في وقت كان فيه مجموع المستخدمين قد بلغ ما يفوق المليار.
إن معضلة الأخبار الكاذبة تكمن في سرعة انتشارها اللامحدود على شبكات التواصل الاجتماعي، وهو ما يرتبط بالنظام الجديد لاقتصاد المعلومة، المبني في علاقته بهذه الشبكات على تحقيق أكبر عدد ممكن من النقرات. لذلك لا غرابة أن يرتبط انتشار الأخبار الكاذبة بجيل جديد من “الصحافة الصفراء”. تلك الصحافة التي ارتبطت في التجربة المغربية ببعض الصحف الورقية التي اهتمت، وفق مقاربتها الخاصة، بأحداث المجتمع، فأصبحنا اليوم نشهد بناء نموذجها الإلكتروني، المرتكز إلى أخبار “البوز”. التي تعتمد على تقنيات الإشاعة والتشهير، وتنتقي عناوينها المثيرة من قبيل ما أصبح شائعا (عاجل، خطير، فضيحة، قنبلة من العيار الثقيل..). مع ما لهذا النموذج من أخطار تتهدد الصحافة والمجتمع معا، حتى وأن تهديد الصحافة لوحده كاف لتهديد المجتمع، لأن الإعلام يبقى إحدى قنوات التنشئة الضرورية لتأهيل الإنسان.
وإذا كانت الأخبار الكاذبة، كما أسلفنا، قديمة قدم حاجة الإنسان إلى التواصل، بما يجعلها سابقة في وجودها عن وجود شبكات التواصل الاجتماعي، حيث استخدمت لغايات مختلفة مرتبطة بمصالح المالكين لأدوات التواصل المستعملة في نشرها، فإن الحاجة إلى استعمالها سياسيا قد أضفى عليها نوعا من التعقيد. بحيث أنه بقدر ما تم توظيفها في مختلف المراحل التاريخية، التي واكبت تطور وسائل التواصل الجماهيرية، لتسخير انتشارها، خدمة أغراض توجهات سياسية بعينها، بقدر ما تم استخدامها، عكس ذلك، لكبح حرية الإعلام وفرض الرقابة عليه.
فالأخبار الكاذبة، طالما، عرف استخدامها من طرف ساسة بارزين، فخطة هتلر للسيطرة على العالم، التي كان قد وضعها بناء على الأيديولوجية النازية، كانت في حاجة لعدة أخبار ومقالات للتكلم عنها باستفاضة، وهي الأخبار التي لم تكن بالضرورة صحيحة. واضطر جمال عبد الناصر إلى تلفيق الأكاذيب لتبرير هزيمة حرب 67، التي شكلت هزيمة نكراء للعرب، وبشكل محدد للقوميين والجمهوريين. أما أردوغان، فلقد أصبح الكذب في نظامه احترافيا لتضخيم نجاحات الإسلاميين الاقتصادية، وهو الكذب الذي أصبح مفضوحا بعد أن اقتربت اليوم فقاعة النهضة التركية من الانفجار، وأضحى واضحا أن ما اعتقده العالم خروج تركيا من مستنقع الدول الراكدة اقتصاديا مجرد وهم، ينخره الدين العمومي والتضخم، وتجمله الدعاية الإعلامية الكاذبة…
والواقع أن استعمال الأخبار الكاذبة لغايات سياسية ليس حكرا على النماذج السالفة الذكر، فقد لا يخلو نظام سياسي، كان ديمقراطيا أو لم يكن، من ميل احترافي لفبركة الأخبار والأحداث، وقد تكون شبكات التواصل الاجتماعي بريئة من ذلك، بل على العكس من ذلك يكون حظرها نتيجة فعاليتها في فضح تلفيق الأخبار وصناعتها، بما يجعل استخدامها مكافحا لنشر الإشاعة والأخبار الكاذبة بدل نشرها. فكيف يمكن أن نتصور، مثلا، أن يبث تلفزيون كوريا الشمالية، خبر خوض منتخب البلاد للمباراة النهائية لكرة القدم ضد المنتخب البرتغالي، التي كانت ستجري أطوراها، بعد ساعات، بالبرازيل، برسم نهائيات كأس العالم لعام 2014، على الرغم من أن هذا الفريق لم يتأهل للأدوار النهائية، لو لم يكن النظام السياسي لكم جونغ أون، مرتاح البال من كل صداع الرأس الذي تتسبب فيه شبكات التواصل الاجتماعي، نتيجة منع استخدامها ببلاده؟؟
الآثار المدمرة لنشر الأخبار الكاذبة
ينبغي التأكيد على أن الوعي الجمعي للإنسانية يختزن استعدادا لا شعوريا لنشر وتصديق الأخبار الكاذبة، ففي كل الثقافات جذور لممارسات السلف، ترتبط بتلفيق الأخبار، وحبك الروايات. فهذه الممارسة تكاد لا تخلو منها ثقافة من الثقافات الإنسانية. حيث نجدها في الثقافة العربية الإسلامية، التي تشكل مكونا أساسا من مكونات الأمة المغربية، لم تستثني أحدا، ومست حتى الرسول الكريم، ولعل أبسط ما يدل على ذلك أن الحديث باعتبار وصوله إلينا ينقسم إلى أنواع كثيرة، منها الحديث الصحيح، والضعيف، والحسن، والمتواتر، والمرسل، والآحاد، والمشهور، والموضوع، والمرفوع، والمدلس. بل أن هناك دراسات أصبحت تشكك حتى في صحة الأحاديث الصحيحة، من قبيل المؤلف الأخير الذي زعم صاحبه إنهاء “أسطورة صحيح البخاري”.
وإذا ما اعتبرنا أن الأصل في هذه المعضلة هو الكذب، فإن الطبيعة البشرية مرتبطة في وجودها بوجوده، حتى أن الديانات السماوية كلها تذم الكذابين وتتوعدهم بالعقاب. لذلك تلعب النفس البشرية والانحرافات المعرفية لدى بعض الأشخاص دورا حاسما في نشر الأخبار الكاذبة. ويعزى ذلك أساسا لمجموعة من الدوافع الغريزية التي تؤثر على وظائف العقل البشري، الذي يفضل التعامل مع المعلومة المألوفة، التي لا تتناقض مع تصوراته وأفكاره المسبقة. إن المغزى من تبيان علاقة الكذب بنفسية وعقل البشر، ما يبعد معضلة الأخبار الكاذبة عن دائرة الأخلاق، وبما يعزز ميلنا في التركيز على التهديد الكبير الذي يشكله انتشار الأخبار الكاذبة على الثقة، كرأسمال اجتماعي ومؤسسي. تلك الثقة الضرورية، في الوقت الراهن، لجعل الحياة الاجتماعية ممكنة، كما قال بذلك فرنسيس فوكوياما.
إن أخطر ما تتهدده الأخبار الكاذبة، حتى نذهب إلى الهدف رأسا، هو الثقة. سوف لن نتحدث عن أخطار أخرى كثيرة جانبية، لأن استهداف الثقة هو استهداف للمكون الاجتماعي التراكمي الأساس للاستقرار والاستمرار. سوف لن نتحدث عن صناعة التفاهة والشعبوية، ولا عن انتشار السطحية والابتذال، لأن هذه مجرد مؤشرات لسبب مسبب واحد هو استهداف الثقة. إن الخطر الداهم للأخبار الكاذبة، هو ما يرتبط بإضعاف الثقة. لأن الثقة هي أساس انتشار السلوكات النزيهة، الشفافة، التي تنشد تكامل العمل الإنساني في المجتمع. وحاجة المجتمع، أي مجتمع كان، تزداد إلى الثقة، بشكل اضطرادي، مع تنوع وتشابك العلاقات بين أفراده ومؤسساته.
ومن هذا المنطلق تبرز الحاجة الماسة للثقة السياسية، التي تتعلق بمؤسسات الحكم، لأن الحاجة إلى الثقة، في آخر المطاف، ليس حاجة أخلاقية، بل هي ضرورة تنموية، مؤسسية ومعيارية، ذات أثر مباشر على الفرد والجماعة، وضمان التفاعلات الإيجابية الضرورية لاستقرار الحكم، ونمو الاقتصاد، وبلوغ الرفاهية. ولأن الثقة السياسية المؤسسية مرتبطة بمؤسسات الدولة، ممثلة في مؤسسات القانون والتمثيلية السياسية، وكل المؤسسات التي تعبر عن إرادة الأمة واختياراتها، لذلك فإن زعزعة الثقة فيها له انعكاس سلبي بالضرورة على مستوى الاطمئنان العام لقدرة مؤسسات الدولة على حماية حقوق وحريات الأفراد والجماعات، مع ما لذلك من تبعات على فشل السياسات العمومية، التي يحتاج نجاحها لارتفاع منسوب الثقة بصفة دائمة ومستمرة.
وإن لم تحسم الدراسات في العلاقة السببية بين منسوب الثقة واتجاهات سلوكات الأفراد، وفي ماهو السابق من اللاحق من بينهما، فإن الثابت هو أن زعزعة الثقة المؤسسية للأفراد، طريق مختصر لانتشار السلوكات المحبطة للتنمية والتقدم. إذ لا يمكن أن نتصور، مثلا، أن يذهب من لا ثقة له في المؤسسات إلى صناديق الاقتراع. ولا يمكن، كذلك، ألا نتصور أن يكون التهرب الضريبي نتيجة منطقية لضعف الثقة في مؤسسات الدولة. كما لا يمكن ألا نعتبر بأن الفساد ملازم لعدم الثقة في انتاج القانون وتطبيقه. إن الأمثلة كثيرة في هذا الاتجاه، لكن البحث عن السبب من النتيجة، سيكون بمثابة البحث عن السابق من اللاحق بين البيضة والدجاجة، وبالتالي السقوط في متاهة بدون مخرج.
والخلاصة أن الأخبار الكاذبة مضرة بالتنمية في أبعادها المختلفة، فالأخبار الكاذبة مدمرة لكل السلوكات الإيجابية المتوقعة في علاقات التعاون والتكامل بين الأفراد والجماعات. فانتشارها، في معناه البسيط، تزيف للواقع، عبر تشكيل صورة وفهم خاطئين عن الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية السائدة. والتجربة أبانت أن التقدم حليف المجتمعات التي استطاعت تأمين علاقات أفرادها، وأكسبتها مناعة الثقة المؤسسية المرادفة للاستقرار. حيث كشفت التجربة كذلك أن هذه المسؤولية الجسيمة لا يمكن أن تكون، بأي حال من الأحوال، مسؤولية أخلاقية. بحيث لو كان الأمر كذلك لما طرح مشكل الأخبار الكاذبة من الأساس.
مكافحة الأخبار الكاذبة والحاجة إلى التربية الإعلامية
ليس من باب الصدفة أن تصبح قضية الأخبار الكاذبة، منذ ترشح دونالد ترامب لمنصب رئيس الولايات المتحدة الأمريكية، هاجسا لجميع الفاعلين العموميين، في كل أنحاء العالم. فالظاهرة، بأبعادها الجديدة، متشعبة ومعقدة من حيث أسبابها ونتائجها، سياسيا، أمنيا، واقتصاديا، وسوسيو ثقافيا. ما يجعل معضلة الأخبار الكاذبة بشبكات التواصل الاجتماعي تأخذ حجما مقلقا، بالنظر إلى الكم الهائل من الأخبار والمعلومات والصور والأشرطة السمعية البصرية التي يجري تداولها يومياً بهذه الشبكات.
وعلى العموم، فإن مكافحة الأخبار الكاذبة، بتعدد توجهاتها واجتهاداتها، تتم من خلال استراتيجيتين اثنتين. تهدف الأولى إلى اتخاذ تدابير لمنع انتاج الأخبار الكاذبة، بما في ذلك استعمال القانون لتجريم فبركة الأخبار وترويجها. فيما تسعى الثانية للحد من انتشارها، عبر تمكين الأفراد من آليات تحليل وتقييم الأخبار، والعمل على منع انتشار الكاذبة منها.
واختزال اجتهادات مكافحة الأخبار الكاذبة في استراتيجيتين اثنتين، إنما هو اختزال للأخبار الكاذبة في جانبي إنتاجها واستهلاكها. وهو لا يلغي كل المساحة الموجودة بينهما، بما تستدعيه من تظافر جهود الجميع لتشكيل جبهة عريضة عرض هذه المعضلة المدمرة. لذلك فإن تغليض العقوبات على الجرائم الإليكترونية، وضمان حق الحصول على المعلومة، وإصلاح الاعلام العمومي، وتسخير الذكاء الاصطناعي لكشف وحضر تداول الأخبار الكاذبة، وغيرها من التدابير التي تتخذها الحكومات، والباحثون والفاعلون والمهنيون والمهتمون، ومنصات التواصل الاجتماعي ذاتها، على أهمية دورها في مكافحة الأخبار الكاذبة والمضللة ستبقى، في نظرنا، قاصرة ما لم تواكب بتدابير تستهدف إدماج الجمهور في هذا الفعل.
إن تلفيق الأخبار والترويج لها في مواقع التواصل الاجتماعي يتم بتظافر جهود البشر والالة، ولذلك مهما تطورت التقنيات التكنولوجية التي يتم اعتمادها لكشف وتحذير المستخدمين منها، لا تكون فعالة إلا إذا كان الإنسان يريد ذلك. خصوصا حين يتعلق الأمر باستهلاك هذا النوع من الأخبار. والدليل أن كل الجهود التي بذلتها الشركات المالكة لفايس بوك وتويتر وكوكل وغيرها، والتي تمت بناء على بحوث ودراسات علمية وتقنية قيمة ومكلفة، لم تؤدي إلا إلى نتائج محدودة، على مستوى الحد من انتشار الأخبار الكاذبة. حيث يبقى الثابت أن الإنسان هو المحرك للآلة، كما تبقى الطبيعة البشرية، مهما تعقدت وتطورت المجتمعات الإنسانية، تدفع كل شخص تلقائيا ليصدق ما يقوله له أصدقاؤه، حتى ولو كانوا افتراضيين.
من أجل ذلك نعتبر أن التربية الإعلامية التي تجعلنا “شكاكاين” هي الحل، فمهما بلغت نسبة نجاح التدابير التقنية والجزرية التي تستهدف منع تلفيق الأخبار وحضر تداولها، فإنها لن تقضي على الظاهرة تماما. لأن المضاد الحيوي الوحيد الفعال ضد انتشار الأخبار الكاذبة هو انتشار الوعي النقدي لدى الجمهور. مع التأكيد كثيرا على أن الرهان على الجمهور، لا يعني أبدا تبخيس تعزيز المقاربات الأخرى، بما فيها تعزيز دور منظومة المؤسسات، وعلى رأسها مؤسسة القانون.
إن تحصين العقول بالمهارات النقدية اللازمة لمحاصرة الأخبار الكاذبة من خلال فرز محتويات الأخبار ضرورة حيوية لمواجهة هذا السيل الجارف من المعلومات التي تؤثر على طريقة تفكير الأفراد، وطبيعة تعاطيهم مع محيطهم. وهي بذلك، تنعكس على علاقتهم بذواتهم، وفهمهم لثقافتهم، وعاداتهم، وتقاليدهم. وهي ضرورة تقع على كاهل القائمين على الشأن التربوي، لأن تمكين الأجيال الجديدة من التعاطي مع وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي، بقدر عال، من المسؤولية والثقة بالنفس، في آخر المطاف هو مسؤولية تربوية ينبغي أن تتغذى من الفكر النقدي، ومن عملية التعلم المدرسي الممنهج الهادف.
على سبيل الختم
الكذب على الانترنيت سلوك مكتسب، تقتضي مواجهة انتشاره تربية هادفة، دون إهمال لباقي الوسائل الأخرى. وإن كان من الطبيعي، نظرا لطبيعة المشترك الإنساني، أن نلجأ لما يتم ابتكاره من قواعد وتدابير في مجال محاربة الأخبار الكاذبة، خصوصا في المجالات التكنولوجية، والتقنية، فإنه ثمة مشكلة بالنسبة للتربية، التي من شأنها أن تنتج لنا عقولا نقدية، قادرة على فرز الأخبار، ومحاربة المضللة منها.
إن ارتباط التربية بالظاهرة الإنسانية، التي تختلف من مجتمع لآخر، باختلاف المعطيات السوسيو- ثقافية لكل مجتمع، هو ما يحدد طبيعة خصوصية النظرية في علوم التربية. وهو ما يحتم علينا انتاج نظريات وقواعد تربوية، قادرة على خلق العقل النقدي، انطلاقا من واقع ومستوى تطور حركة مجتمعنا. فنجاح استخدام الخوارزميات والحواسيب والبرامج الاليكترونية، المستوردة من مجتمعات أخرى، لا يعفينا من ابتكار نظريات وقواعد علوم الإنسان والاجتماع، فالأمر ليس سيان، وما اعتمادنا لما ينتج في الغرب سوى من باب الحاجة لا غير…
* دكتور في الحقوق؛ أمين عام جبهة القوى الديمقراطية
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبر بالضرورة عن رأي آشكاين و إنما تعبر عن رأي صاحبها حصرا.
