2024 © - أشكاين جميع الحقوق محفوظة - [email protected]

د. إدريس الفينة
تشكل السياسة الصناعية في المغرب ركيزة أساسية لتحقيق التنمية الاقتصادية الشاملة وتعزيز السيادة الإنتاجية، خصوصاً في ظل التحولات العميقة التي يعرفها الاقتصاد العالمي وما تفرضه من تحديات تتعلق بالأمن الصناعي، واستقلالية القرار الاقتصادي، واستدامة الميزان التجاري. إلا أن الواقع الصناعي المغربي لا يزال يعاني من اختلالات بنيوية، وهو ما تؤكده المؤشرات الماكرو-اقتصادية، وفي مقدمتها تفاقم العجز التجاري، وتنامي الواردات بوتيرة مقلقة، مقابل أداء صناعي محدود من حيث القيمة المضافة، وفرص التشغيل، والقدرة التنافسية.
في مقال سابق، سبق أن نبهت إلى أن العجز التجاري المغربي بلغ مستويات غير مسبوقة، تجاوز في بعض السنوات حاجز 300 مليار درهم، ما يعكس اختلالاً صارخاً بين ما نستورده وما نصدره، ويؤشر إلى هشاشة البنية الإنتاجية المغربية واعتمادها المفرط على الخارج. فالواردات المغربية لم تعد تقتصر على المعدات الانتاجية أو المواد الأولية، بل امتدت لتشمل حتى المنتجات الاستهلاكية النهائية، وهو ما يطرح علامات استفهام حول جدوى السياسات الصناعية المعلنة.
وقد سبق لأحد الوزراء السابقين المكلفين بالصناعة، السيد مولاي حفيظ العلمي، أن صرّح قبل مغادرته الوزارة بأن استراتيجية تعويض الواردات بالصناعة المحلية قد تم تنفيذها بنسبة 100%، وهو تصريح يفتقر إلى الدقة ويتناقض بشكل صارخ مع الواقع الرقمي والتجاري للبلاد. فهذه النسبة تفترض أن معظم المنتجات المستوردة أصبحت تُصنع محلياً، وهو أمر غير واقعي، خصوصاً في ظل الطفرة التي تعرفها الواردات في قطاعات الأغذية، المعدات و، الأدوية، والمنتجات الاستهلاكية ذات التقنية المتوسطة.
الأخطر من ذلك أن هذه الاستراتيجية التي وُضعت على أنقاض استراتيجيات سابقة، مثل “الميثاق الوطني للإقلاع الصناعي” (PNEI) و”خطة التسريع الصناعي” (PAI)، لم تخضع إلى تقييم مستقل أو علمي إلى حدود اليوم، وهو غياب غير مبرر للحوكمة والتتبع. ورغم مرور أكثر من عقد على هذه المخططات، لا تزال نتائجها الفعلية موضع تساؤل، لاسيما على مستوى تعزيز النسيج الصناعي المحلي، وتقليص فجوة الميزان التجاري، ورفع معدل الاندماج المحلي في سلاسل القيمة.
وخلف السيد العلمي في منصبه رئيس ديوانه، الذي شاركه نفس الرؤية ونفس التصور، مما لم يشكل قطيعة أو تجديداً في المقاربة، بل استمرارية في النهج، مع إطلاق دراسة جديدة تهدف إلى بلورة استراتيجية صناعية جديدة وُصفت بـ”الواقعية” و”المنسجمة مع التحولات الجيو-اقتصادية”. ومع نهاية 2023، أعلنت الوزارة عن “برنامج للصناعة الاستبدالية” يفترض فيه أن يدفع بالمقاولات المغربية نحو إنتاج بدائل حقيقية للواردات، دون أن تظهر مؤشرات كمية على تفعيل ملموس لهذا التوجه.
إن ما يثير القلق هو أن تدبير قطاع بهذه الحساسية والأهمية يتم أحياناً بعقلية اتصالية محضة، تعتمد على إنتاج الخطاب الإعلامي أكثر من إنتاج القيمة الصناعية. يُسوَّق للرأي العام على أن هناك دينامية استثنائية في القطاع الصناعي، بينما تعكس المؤشرات العكس: ارتفاع مستمر في عجز الميزان التجاري، وتفاقم في الواردات (التي تجاوزت 800 مليار درهم في 2024 حسب تقديرات أولية)، في مقابل ضعف تنافسية المنتوج الوطني، سواء من حيث السعر أو الجودة أو الابتكار. بل أصبح المستهلك المغربي، كما تظهر بيانات سلوكيات الشراء، يميل أكثر إلى المنتوج الأجنبي، لا سيما في قطاعات النسيج، الأجهزة المنزلية، والتجهيزات التكنولوجية، نتيجة تراجع الثقة في المنتوج المحلي او غيابه.
إن الصناعة ليست مجرد قطاع اقتصادي تقليدي، بل هي اليوم أداة استراتيجية لضمان السيادة الوطنية، ومصدر رئيسي للعملة الصعبة، ووسيلة لمكافحة البطالة، وتحقيق النمو الموزع جغرافياً واجتماعياً. وإذا استمرت السياسة الصناعية في المغرب على النحو الحالي، فإن هشاشة الحساب الجاري ستزداد، خصوصاً في حال حصول صدمات خارجية تؤثر على رافعتين رئيسيتين لتعويض العجز التجاري، وهما:
1. تحويلات المغاربة المقيمين بالخارج، والتي بلغت حوالي 114 مليار درهم في 2023، وساهمت في تغطية جزء مهم من عجز الحساب الجاري.
2. مداخيل السياحة، التي انتعشت بعد جائحة كوفيد لتتجاوز 100 مليار درهم، مما وفر متنفساً نسبياً لميزان الأداءات.
غير أن استمرار التعويل على هذين الموردين، في غياب سياسة صناعية فعالة، يجعل الاقتصاد الوطني رهينة لتقلبات خارجية (مثل أزمة أوكرانيا، الأزمات الجيوسياسية، تغير سياسات الهجرة الأوروبية)، ما قد يدفع بنك المغرب إلى اتخاذ قرارات صعبة، كخفض قيمة الدرهم أو تقييد الواردات، وهي خيارات مكلفة اجتماعياً واقتصادياً.
إن المطلوب اليوم ليس فقط إعادة النظر في السياسات الصناعية، بل إحداث ثورة حقيقية في الحكامة والقيادة الصناعية، تقوم على الكفاءة والاستقلالية والرؤية بعيدة المدى. ويجب أن تكون هذه السياسة منسجمة مع أهداف الاكتفاء الذاتي، والتحول الرقمي، والتحولات البيئية، لا مجرد عملية ترقيع مؤقتة لأرقام مزعجة. فلا يمكن للصناعة أن تدار من قبل مسؤولين يفتقرون للرؤية الاستراتيجية، ولا يملكون فهماً عميقاً لتحولات الاقتصاد العالمي.
إن المغرب بحاجة ماسة إلى سياسة صناعية جديدة لا تكتفي بتكرار وعود قديمة، بل تُبنى على تقييم صارم للمنجزات السابقة، ومؤشرات أداء قابلة للقياس، وتوازي بين الطموح الواقعي والموارد المتاحة. وإلا فإن المستقبل الاقتصادي للبلاد سيظل رهينة لواردات متزايدة، وعجز يتعمق، وسيادة إنتاجية مهددة.
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبر بالضرورة عن رأي آشكاين وإنما عن رأي صاحبها.