لماذا وإلى أين ؟

التحكيم في منازعات العقود الإدارية

الدكتور بنته فريد*

التحكيم نوعان دولي وداخلي، وهو مسطرة شكلية موازية للنظام القضائي التجاري أو الإداري، فهو نوع من القضاء أو قضاء استثنائي، ذو طبيعة خاصة،يستهدف منه تسوية المنازعات بين أطراف عقد التحكيم عن طريق إعمال وتطبيق مبدأ التسوية التوافقية يتولاه محكم (أو أكثر) تبعا لما هو وارد في الاتفاق التحكيمي، وقد يتضمن عقد التحكيم اسم المحكم وقد يترك أمر تعيينه إلى رئيس المحكمة التجارية أو الإدارية، فإذا كان أطراف العقد من أشخاص القانون الخاص ينعقد الاختصاص لتعيين المحكم إلى رئيس المحكمة التجارية، وإذا كان العقد التحكيمي من العقود الإدارية فإن الاختصاص ينعقد لرئيس المحكمة الإدارية ذات الاختصاص.

إن كل خلاف في تأويل أو تنفيذ مقتضيات العقد التحكيمي، قد ينتهي إما بإبرام اتفاق هو بمثابة صلح بين الأطراف المتنازعة، أو بإصدار حكم تحكيمي يكون قابلا للتنفيذ عند تذييله بالصيغة التنفيذية، ومسطرة إلزامية تذييله ليكون نافذا هو ما يجعل منه نوع من القضاء.

إن التحكيم إما اختياري، أو إجباري، لكن أساسه اتفاقي، يخضع لإرادة الأطراف المتعاقدة، شريطة أن لا يكون موضوع التعاقد من القضايا المرتبطة بالنظام العام، أو بالقضايا التي تكون الدولة أو الجماعات الترابية أو المؤسسات العمومية طرفا فيها، كما كان مقرر في أحكام المسطرة المدنية في الفصول من 306 إلى 327، والتي تم نسخها وتعويضها بمقتضيات القانون رقم 05-08 المؤرخ في 30 نونبر 2007، والتي كان من المنتظر أن تكون في شكل مدونة للتحكيم، لكن نظر المشرع اقتضت السياسة التشريعية إدماجها في صلب قانون المسطرة المدنية محتفظا بذلك على النهج الذي سار عليه مشرع 28 شتنبر 1974 عند سنه لقانون م. م.

إن الظاهر من مقتضيات ق .م. م لسنة 1974 في بابها الثامن، أنها لم تنظم التحكيم الدولي ولم تقرر بجواز التحكيم بالنسبة للنزاعات المتعلقة بعقود أو أموال خاضعة لنظام يحكمه القانون العام (الفصل 306 من ق.م.م).

لكن بالمقابل فالمغرب وقع على العديد من الاتفاقيات الدولية لتسوية منازعات الاستثمار بين الدولة وأشخاص القانون الخاص، وهو قبول ضمني بتسوية منازعات العقود الدولية عن طريق مسطرة التحكيم، وهذا ما تأكد من خلال صدور العديد الأحكام القضائية عن القضاء المغربي ضد الدولة المغربية أو بعض مؤسساتها تقضي بصحة تذييل المقررات التحكيمية لتكون قابلة للتنفيذ بالمغرب.

كما أنه يجدر بنا التذكير أن القانون المغربي لم يعرف العقد وهو الأمر الذي تولاه الاجتهاد القضائي والفقه على عكس القانون الفرنسي الذي عرفه بأنه»اتفاق يلتزم بمقتضاه شخص أو أكثر بإعطاء أو بعمل شيء أو الامتناع عمل معين  . « 

فإذا كان المشرع المغربي لم يأخذ بمسطرة التحكيم بالنسبة للعقود الدولية صراحة، وكذا بالنسبة للعقود الإدارية، فإن التحولات السياسية والاقتصادية الدولية أثرت على السياسة التشريعية للمغرب أمام الانفتاح والترابط القائم بين الاقتصاد المغربي والاقتصاد العالمي في ظل نظام » العولمة «  ، الذي طبعته حركة دائبة لرؤوس الأموال عن طريق الاستثمارات المباشرة وغير المباشرة، والمستثمرون الأجانب كثيرا ما انتقدوا سير عمل المحاكم المغربية، وأحيانا شككوا في مصداقية بعض الأحكام، الأمر الذي كان لزما على المشرع المغربي أن يرجع سياسته في بابا التحكيم لسبيين 1) تزايد منازعات العقود الدولية وهذا ما يتطلب إيجاد قانون ينظم التحكيم الدولي 2) أمام سياسة الانفتاح والخوصصة وسياسة الاستثمار المبنية على إشراك القطاع الخاص لإدارة المشروعات العامة، حتم أيضا ضرورة توسيع التحكيم بالنسبة للعقود الإدارية وهذا ما أقره القانون رقم 05-08 الصادر بتاريخ 30 نونبر 2007 الذي نظم التحكيم والوساطة الاتفاقية ناسخا بذلك مقتضيات ق.م.م ( الفصول من 306 إلى 327).

وعليه فإن المشرع قد انتقل من موقف عدم إخضاع العقود الإدارية لمسطرة التحكيم، إلى القول بجوازها، سنحاول رصد وتتبع الحركية التشريعية والقضائية المرتبطة بالعقود الإدارية و المسطرية للتحكيم بعد أن كانت محظورة في ق.م.م لما اعتبرت أنها مساس بالنظام العام، والانتقال إلى العمل بها في ظل القانون 05-08.

سنتولى الموضوع وفقا للمنهجية التالية:

I. العقود الإدارية:

(1 التعريف بالعقود الإدارية

(2 أنواع العقود الإدارية

(3 طرق إبرام العقود الإدارية

II. التحكيم في منازعات العقود الإدارية

1 -التعريف بالتحكيم.

2 -التحكيم في العقود الإدارية في القانون المقارن

3 -التحكيم في العقود الإدارية في القانون المغربي.

I. العقود الإدارية

العقود الإدارية تكيف بأنها اتفاق يبرم بين أشخاص القانون العام، أو بين شخص من أشخاص القانون العام وشخص من أشخاص القانون الخاص، معنويا أو ذاتيا، لكن ليس بالضرورة أن تكون في شكل عقود القانون الخاص رغم وجود الإدارة طرفا فيها، ولذلك فعقود الإدارة لا تخضع لنظام قانوني واحد، إنها تنقسم إلى:

– عقود الإدارة التي يحكمها القانون الخاص.

وعقود الإدارة التي يحكمها القانون العام، والمسماة بالعقود الإدارية، والتي هي موضوع مساهمتنا، بالإضافة إلى بيان مدى قانونية أو جواز إخضاعه لمسطرة التحكيم من عدمها.

إن منازعات العقود الإدارية تدخل في اختصاص القضاء الإداري طبقا للمادة 8 من القانون رقم 41/90 ولا تدرج ضمن صلاحيات المحاكم التجارية إلا إذا أبرم العقد في إطار القانون الخاص، فمثلا تزويد جماعة ترابية بمادة البنزين لتأمين سير مصالحها لمدة محددة، يشكل عقد »توريد «  وهو عقد إداري بطبيعته لخصائصه الذاتية، ولكونه يساهم في تسيير مرفق عمومي، وهذا حتى ولئن كانت قيمة عقد التوريد تقل عن مائة ألف درهم، على عكس عقد الكراء المبرم بين أملاك الدولة الخاص واحد الخواص لاستغلال مزرعة، يعتبر عقدا خاصا ينعقد الاختصاص للبث في النزاع المترتب عنه للقضاء العادي وبالتالي عدم اختصاص المحكمة الإدارية.

1) في تعريف العقود الإدارية: تعرف العقود الإدارية بأنها اتفاقات رضائية، تبرم بين أشخاص القانون العام )الدولة أو الجماعات الترابية أو المؤسسات العمومية) أو بين أشخاص القانون العام وشخص من أشخاص القانون الخاص، الغاية منها تسيير مرفق عام أو تنظيمه يهدف تحقق مصلحة عامة، وغير مألوفة في القانون الخاص، ولقد اعتبر الفقه والقضاء أن مقومات العقود الإدارية تتجلى في قيام شروط ثلاث وهي :

(1 أن يكون أحد طرفيها شخصا معنويا عاما 2) أن تستهدف تحقيق مصلحة عامة من خلال تسيير أو تنظيم مرفق عام 3) استعمال الإدارة لوسائل استثنائية غير مألوفة في القانون الخاص، وهذه المقاربة الشمولية وازنت بين المعيار المادي والمعيار العضوي في تعريف العقد الإداري، وهو الاتجاه الذي سارت عليه المحاكم الإدارية والمجلس الأعلى في تكييفهما وتعريفهما للعقود الإدارية. وبالنسبة للشرط الثالث، وهو الخصائص الاستثنائية أو غير المألوفة في القانون الخاص كما يقول الفقه الإداري تتجلى صورها في ممارسة الإدارة لحق الرقابة والتوجيه،حق تعديل العقد، وحق توقيع الجزاءات وحق إنهاء العقد، لكن شريطة مراعاة حقوق الطرف المتعاقد معه. علما أنالعقود الإدارية يراد منها تحقيق المنفعة العامة، كإدارة أحد المرافق العامة أو توريد سلعة أو خدمة معينة أو تنفيذ أحد الإشغال العامة، أو نقل للبضائع والأفراد وإقراض الأموال وبصفة عامة فالعقود الإدارية تبدو بأنها من الأعمال القانونية الصادرة عن الأطراف المتعاقدة تتضمن حقوقا وواجبات عن طريق تقابل إرادتين. ولتحديد أن العقد إداري، يستند إلى معيارين أساسيين وهما: 1) المعيار التشريعي، الذي يعتبر أن العقد إداري بقوة القانون كعقود الصفقات العامة (صفقات الأشغال والتوريدات والخدمات)، واعتبر القضاء الإداري أن الصفقات العمومية هي عقود إدارية بحكم القانون وفي موضوع آخر قرر بأن العقود التي تبرمها وزارة الأوقاف في إطار المرفق الذي تضطلع بتسييره وتنظيمه في إطار رحلات الحجج للمواطنين المغاربة، فإنه يرجع اختصاص البث في النزاعات الناشئة عن هذه العقود للمحاكم الإدارية.

ولقد نص المجلس الأعلى في إحدى قراراته صراحة أنه » لا يكفي لقيام العقد الإداري أن يكون أحد أطرافه شخصا معنويا عاما وأن يتضمن العقد شروطا ومقتضيات غير مألوفة في القانون العادي بل يتعين أن يتوفر شرط ثالث وهو أن يتعلق إبرام العقد بتسيير مرفق عمومي  « . وعليه فإن العقود الإدارية تحدد بأنها عقود إدارية بالاستناد إلى الاعتماد القانوني أو المعيار القضائي.

(2  أنواع العقود الإدارية: إن العقود التى توقعها الإدارة أو مؤسساتها تنقسم إلى عقود القانون العام، وعقود القانون الخاص، فعقود القانون العام تحكمها مقتضيات القانون الإداري كفرع من فروع القانون العام، وهي ما تكيف بأنها عقودا إدارية، أما عقود القانون الخاص فتنظمها أحكام القانون الخاص (المدني أو التجاري) وهي بمثابة عقود مدنية، دستورها،العقد شريعة المتعاقدين.

إذا كان هذا هو ما تكون عليه العقود بصفة عامة، فإنه بالنسبة للعقود الإدارية، فإن معيار التمييز بينهما يقسمها إلى عقود إدارية بطبيعتها، أو كما جانب من الفقه العقود الإدارية بتحديد القضاء، والعقود الإدارية بقوة القانون أو نص القانون ويصفها الفقهاء بالعقود الإدارية المسماة (Contrats administratifs nommés) وأهمها: 1/ عقد الامتياز أو الالتزام (La concession de Services publics) 2/ عقد الأشغال العامة (le marché de travaux public) 3/ عقد التوريد (le marché de fourniture) 4/ عقد النقل (le marché de transport) 5/ عقد القرض العام (le contrat d’emprunt public) 6/ عقد إيجار الخدمات (contrat de louage de Service) وينضاف إلى هذه العقود، عقد التدبير المفوض Gestion déléguée والذي بموجبه تسند الإدارة تسيير الإدارة أحد مرافقها إلى الغير، والذي يكيف بأنه عقد إداري، يخضع لمقتضيات قانون التدبير المفوض رقم 05- 54.

3طرق إبرام العقود الإدارية: تخضع مسطرة إبرام العقود الإدارية إلى شروط حددها القانون، لأن الإدارة ليس لها الحرية المطلقة في التعاقد وفقا للكيفية المقررة في القانون الخاص، بل قيدها المشرع وحدد طريقة إبرام العقود الإدارية من أجل تحقيق غايتين: 1) تحقيق وفر مالي لفائدة خزينة الدولة عن طريق اختيار المتعاقد الذي يقدم أحسن العروض المالية 2) اختيار أكفأ المتعاقدين بصرف النظر عن الجانب المالي، علما أن مساطر أو طرق إبرام العقود الإدارية تتم بإحدى الطرق التالية:

– طلب العروض، وهو يكون إما مفتوحا أو محدودا أو يكون عن طريق الانتفاء

المسبق،

– المبارة؛

– المسطرة التفاوضية،

– سندات الطلب،

ولن تكون الصفقات أو العقود الإدارية نافذة إلا بعد المصادقة عليها من طرف سلطة الوصاية أو السلطة المختصة وفقا للكيفية أو الشروط المقررة في القانون الواجب التطبيق، ولقد اعتبر القضاء الإداري أن عمليات البناء لفائدة شخص من أشخاص القانون العام في نطاق تعهد بالاتفاق المباشر هي صورة من صور عقود الصفقات تكتسي بحكم طبيعتها عقودا إدارية.

II. التحكيم في منازعات العقود الإدارية

تتسم أغلب القوانين المقارنة المطبقة على منازعات التحكيم الداخلي بالتضارب فيما يتصل بإدراج العقود الإدارية ضمن مساطر التحكيم، قسم منها أجاز إعمال قادة التحكيم بالنسبة لأشخاص القانون العام، وقسم آخر اعتبر جوازها فيه مساس بالنظام العام.

(1 نزاعات العقود الإدارية: قد تعتري العقود الإدارية منازعا بمناسبة تنفيذها بين طرفيها: الإدارة والشخص المتعاقد معه، وبهذه المناسبة ومن أجل تسوية النزاعات عادة ما يلجأ الطرف الذي يبدو أنه متضرر من مباشرة المساطر الودية أو القضائية، ومن أهم المساطر الودية لتسوية النزاعات مسطرة التحكيم”.

إن الفصل 306 من قانون المسطرة المدنية أجاز اللجوء إلى التحكيم لحل النزاعات المتعلقة بعقود أو أموال خاضعة تدخل في إطار النظام العام، وخاصة النزاعات المتعلقة بعقود أو أموال خاضعة لنظام يحكمه القانون العام، وبذلك يستشف من قانون المسطرة المدنية أن مسطرة التحكيم لا تطبق على منازعات العقود الإدارية. وهنا نتساءل ما إذا كان استبعاد مسطرة التحكيم من مجال العقود الإدارية، مطلق أم توجد استثناءات من خلال إعمال قاعدة التأويل الفقهي أو عن طريق تدخل القضاء، علما أن القانون الإداري هو قانون قضائي بامتياز. وفي إطار الجدل بشأن لجوء الإدارة إلى توقيع اتفاقات تتضمن شروطا توافقية أو تحكيمية، اعتبر مجلس الدولة الفرنسي في رأي له بأن إدماج شرط توفيقي يشير اللجوء إلى مسطرة التحكيم عند النزاع من طرف الحكومة الفرنسية اعتبر أن فيه مساس بمبدأ السيادة وبالنظام العام الداخلي الذي أسند الاختصاص في منازعات العقود الإدارية إلى المحاكم الإدارية وليس إلى المحكمين.

لكن بالنظر إلى الضرورة الاقتصادية التي تطبع العلاقات الاقتصادية الدولية فإنها غالبا ما وجدت نفسها مضطرة إلى مراجعة تشريعاتها والأخذ بمبدأ التحكيم في العقود الدولية وتطبيقه بالنسبة للتحكيم الداخلي، وهو الاتجاه الذي سار عليه القضاء قبل التشريع كما هو الحال بالمغرب، قبل إحداث المحاكم الإدارية، كان الاختصاص موكول إلى المحاكم الابتدائية، وفقا لقانون 1974 النظر في منازعات العقود الإداري، وهي ما يدخل ضمن دعاوى الإلغاء التي كانت تختص بها وبصفة مطلقة الغرفة الإدارية بالمجلس الأعلى، لا لمعيار الشكلي أو العضوي هو الذي حدد موضوع الطعن في منازعات العقود الإدارية بين دعوى الإلغاء ودعوى القضاء الشامل، فالأولى تنصب على القرارات المنفصلة عن العود والثانية تستهدف العقود الإدارية، علما أنه قد تكون أحيانا دعوى الإلغاء تتوخى العقد الإداري كإلغاء الصفقة مثلا في حال اتسامها بعيب من عيوب المشروعية، أما لعيب في الشكل أو غيره من العيوب المرتبة للإلغاء كما هو مقرر في القانون المحدد للمحاكم الإدارية.

ولذلك تتميز منازعات العقود الإدارية بأنها تنقسم بصفة عامة إلى نوعين:

منازعات المشروعية / ومنازعات المسؤولية. وأهم مجالات العقود الإدارية هي:

1)  الصفقات العمومية (marchés publics)

2) التجبير المفوض للمرفق العام (Les délégations de service publics)

(3 اتفاقيات الشراكة بين الأشخاص العامة والخاصة

(Les contrats de partenariat publics- privés)

)4) عقود احتلال الملك العام Les contrats portants occupation du domaine public

 2) الاتفاق على التحكيم في العقود الإدارية

لقد حدد قانون م. م أنواع الاتفاقات التحكيمية، ونص في فصله 307 أن يكون عقد التحكيم كتابيا في شكل وثيقة نظامية، تتضمن الشروط التحكيمية وتعين المحكم أو المحكمين في صلب العقد أو تترك الأمر إلى جهة قضائية أو شبه قضائية كمراكز التحكيم. أن الظاهر من مقتضيات الفصلين 307 و 308 من قانون م. م أنهما معنيان بعقد التحكيم في حين أن الفصل 309 موضوعه شرط التحكيم.

والمقرر التحكيمي يختلف عن الحكم القضائي لكونه يصدر عن جهة غير قضائية، أي عن خبراء، يمارسون مهنة حرة، ولا يشترط فيه أن يتم إصداره باسم جلالة الملك كما هو عليه الحال بالنسبة للأحكام القضائية الذي يعتبر شرط لازم وجوهري، يترتب عن عدم إعماله بطلان تلك الأحكام. إن التحكيم دون طبيعة تعاقدية، لكن يتميز بخاصية قابلية للتنفيذ بعد صدور مقرر تحكيم وتذليله بالصيغة التنفيذية، لأن حكم المتحكم هو قرار أو حكم من نوع خاص وبصفة عامة يشترط في المحكم أن يكون في شكل عقد مكتوب وأن يتضمن تعيين المحكمين أو إسناد ذلك إلى المحكمة المختصة بأصل النزاع أو لقواعد التحكيم الوطني.

(3 التحكيم في القانون المغربي بالنسبة للعقود الإدارية بين المنع والجواز

التحكيم كما هو معروف هو نوع من القضاء أو قضاء ذو طبيعة خاصة، وهو أما اختياري أو إجباري، يهدف إلى إعمال أو تطبيق مبدأ التسوية التوافقية للمنازعات التي تنشأ بين التجار وغيرها من منازعات أخرى، قد يكون طرفيها ليس بالضرورة أشخاص القانون الخاص، بل أيضا أشخاص القانون العام، أو أحدهم كما هو عليه الحال بالنسبة للعقود الإدارية، يلتزم فيه الأطراف بعرض نزاعهم على هيئة تحكيمية (الفصل 314).

ويمكن اللجوء إلى التحكيم ولو كان النزاع معروضا على القضاء لأن التحكيم هو اتفاق، وهل يعتبر التحكيم من الطرق البديلة لتسوية المنازعات أم لا ؟ إن الجواب يتأرجح بين القبول والرفض، لكن الرأي السائد يأخذ بنظرية اعتبار التحكيم وسيلة بديلة عن القضاء الرسمي، فالمحكم هو بديل عن القاضي، ومسطرة التحكيم بديلة عن قانون الإجراءات والرأي المخالف، يرى بأن التحكيم لا يختلف عن القضاء بحيث تمت مأسسته سواء تعلق الأمر بالتحكيم الداخلي (مراكز) أو التحكم الدولي، فهو مشابه للقضاء الرسمي، رغم أن أساسه اتفاقي، تنشؤه إرادة الأطراف، على عكس الوساطة(Médiation) والمصالحة (Conciliation) فهي بحق حلولا بديلة والتي ينضاف إليها التوفيق.

إن القواعد القانونية أو الأحكام التي تنظم التحكيم بالمغرب، هي تلك النصوص التي كانت مقررة في قانون المسطرة المدنية أي في الفصول 306 إلى 327، والتي نظمت مجال التحكيم الداخلي دون الدولي الذي بقي خاضعا للقواعد العامة والاجتهاد القضائي عن طريق مراقبة المقررات التحكيمية عند المطالبة بتذييلها بالصيغة التنفيذية للتأكد من مدى مطابقتها للقانون المغربي من عدمه لتكون قابلة للتنفيذ، وهذا قبول ضمني بالتحكيم الدولي رغم غياب نص تشرعي.

فأمام عولمة الاقتصاد وتحريره، أصبحت العلاقات التجارية والمالية الدولية وتنقل رؤوس الأموال للعمل في مجالات الاستثمار المختلفة، تستدعي إيجاد وسائل سريعة وفعالة لتسوية المنازعات الطارئة بين الأطراف المتعاقدة على أساس عقود دولية، فالمغرب نهج خيار الانفتاح السياسي، كان بالضرورة أن يعززه بانفتاح اقتصادي، عن طريق اتباع سياسات اقتصادية متوازنة تضمن جلب استثمارات مريحة وهذا ما يتطلب بالمقابل إصدار تشريعات تساير التشريعات الدولية ومطابقتها، وفي هذا الإطار كانت الدعوة إلى إصلاح القانون المطبق على التحكيم التجاري، والذي جاء به قانون 05-08 الذي عمل على نسخ وتعويض الباب الثامن بالقسم الخامس من قانون المسطرة المدنية، فالقانون رقم 05-08 جاء في شكل نصوص حلت محل المواد 306 إلى 327 من ق.م.م، عوض أن يصدر في شكل مدونة تتضمن سائر مجالات الوسائل البديلة من تحكيم داخلي ودولي، ووساطة وتوفيق.

4) مستجدات القانون 05-08 في مجال العقود الإدارية:

عكس ما كان عليه الحال في الباب الثامن من ق.م.م، (المواد من 306 إلى 327) الذي جاء مقتصرا على التحكيم الداخلي، لكونه لم يتضمن أي مقتضى يتعلق بالتحكيم الدولي، وجاء القانون رقم 05-08 الذي انصب على التحكيم والوساطة الاتفاقية، علما أن الوساطة لم تكن معرفة في التشريع المغربي، إسوة بالتحكيم الدولي. لكن ما يهمنا في هذا الإطار ما إذا كان التحكيم الداخلي المغربي يأخذ بنظرية جواز التحكيم بالنسبة للعقود الإدارية؟ لقد ميز القانون رقم 05-08 بين عقد التحكيم ( Compromis d’arbitrage) وشرط التحكيم (clause d’arbitrage) وكلاهما يكتسي طابع اتفاق التحكيم على أن يكون كتابة (الفصل 307) يستهدف منه حل نزاع تتولاه هيئة تحكيمية (الفصل 306) وفي إطار مسطرة تتسم بالمرونة عكس ما كان عليه الأمر في القانون

السابق الذي كان يشترط أن يكون شرط التحكيم مكتوبا باليد وموافقا عليه من أطرافه. 

(5) توسيع مجالات التحكيم

إن أهم ما يميز به القانون 05-08 هو عدم حصر التحكيم على أشخاص القانون الخاص، بل توسع ليشمل لأول مرة صراحة أشخاص القانون العام لكن قيده بضرورة موافقة سلطة الرقابة أو المراقبة على اتفاق التحكيم إذا تعلق الأمر بالدولة أو الجماعات الترابية (الفصل 310 فقرة ثانية) أو مداولة خاصة من المجلس الإداري للمؤسسات العامة.

ولقد نص الفصل 310 من القانون المذكور في فقرته 3 بأنه يرجع اختصاص النظر في تذييل الحكم التحكيمي الصادر بشأن العقود الإدارية إلى المحكمة الإدارية التي سيتم تنفيذ الحكم التحكيمي في دائرتها أو إلى المحكمة الإدارية بالرباط عندما يكون تنفيذ الحكم التحكيمي يشمل مجموع التراب الوطني.

ولقد أضاف الفصل 311 بأنه يجوز للمقاولات العامة الخاضعة لقانون الشركات التجارية أن تبرم اتفاقات التحكيم وفق الإجراءات والشروط المحددة من لدن مجالس إدارتها أو رقابتها أو أجهزة تسييرها.

أغلب التشريعات لم تدرج مسطرة التحكيم بالنسبة لأشخاص القانون العام، بمعنى أن التحكيم لا يطبق بشأنه القانون العام بل هو إنتاج القانون الخاص، مناطه تسوية منازعات أشخاص القانون الخاص، لكن يبدو أن الاحتياجات والضرورة الاقتصادية لأشخاص القانون العام أثرت على مجريات فلسفة القانون العام، بحيث أصبحت الدولة والجماعات المحلية والمؤسسات العمومية، في حاجة لمن يقوم مقامها بالنسبة لإدارة مشاريعها لتحقيق منفعة عامة، وهذا ما اقتضى التعاقد مع أشخاص القانون الخاص أو العام للاضطلاع بمهام هي من صميم صلاحيات المرافق العامة لذلك يتم التفويض لغير أشخاص القانون العام إنجاز المشاريع المبرمجة. لكن إذا كان أمر العقود الإدارية لا يطرح مشاكل، فإنه ليس كذلك عندما يتعلق بتطبيق مسطرة التحكيم على العقود الإدارية.

لقد أجاز القانون المصري رقم 9 لسنة 1997 المتعلق بالتحكيم المدني والتجاري في فصله الأول بأن مقتضيات هذا القانون تطبق بشأن كل تحكيم يكون أطرافه أشخاص القانون العام أو أشخاص القانون الخاص. كما أن قانون المسطرة المدنية اللبناني الجديد رقم 90/83 نص في فصله 809 أن ” الدولة وكذا سائر الأشخاص المعنوية للقانون العام بإمكانها اللجوء إلى التحكيم الدولي” وبالنسبة لتونس فإن القانون رقم 42/93 الصادر في 26 أبريل 1993 المعتبر بمثابة مدونة التحكيم، نص في فصله 7 الفقرة 5 بأنه يجوز لأشخاص القانون العام اللجوء إلى التحكيم الدولي بالنسبة للجزائر فالمرسوم التشريعي رقم: 93/09 الصادر بتاريخ 25 أبريل 1993 قرر في فصله الأول بأنه لا يحق لأشخاص القانون العام اللجوء إلى التحكيم إلا بالنسبة ما تعلق بالعلاقات التجارية الدولية.

إنه بمقارنة التشريعات العربية المذكورة، قد تكون مصر هي الدولة الوحيدة التي أجازت صراحة الاتفاق على اللجوء إلى التحكيم بالنسبة لمنازعات العقود الإدارية.

بالنسبة للقانون المقارن، للأطراف كامل الحرية في تعيين المحكمين وهو مبدأ راسخ في الممارسة التحكيمية.

فرنسا بدورها أصبحت تميل إلى العمل على إصدار قانون يسمح بموجبه لأشخاص القانون العام اللجوء إلى مسطرة التحكيم وهذا ما يستشف من فريق العمل الذي شكله وزير العدل ونائب رئيس مجلس الدولة في سنة 2007 من أجل تقديم تصور شامل بشأن إمكانية مباشرة أشخاص القانون العام للتحكيم، وهذا عكس ما ينص عليه الفصل 2060 من القانون المدني الفرنسي الذي يقضي بمنع أشخاص القانون العام الخضوع لمسطرة التحكيم ولقد اعتبرت محكمة النقض الفرنسية، بأن المنع الذي يطال أشخاص القانون العام لممارسة التحكيم، لا ينطبق على العقود الدولية علما أن المبدأ بالنسبة للقانون الفرنسي هو عدم إمكانية تطبيق التحكيم الداخلي بالنسبة لأشخاص القانون العام لما فيه مساس بالنظام العام.

*أستاذ القانون العام بجامعة محمد الأول بوجدة

إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبر بالضرورة عن رأي آشكاين وإنما عن رأي صاحبها.

احصل على تحديثات فورية مباشرة على جهازك ، اشترك الآن

من شروط النشر : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments

يستخدم موقع الويب هذا ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

0
أضف تعليقكx
()
x