لماذا وإلى أين ؟

الاقتصاد غير المهيكل في المغرب: انعكاس بنيوي لعطب سوق الشغل وانسداد الأفق الصناعي

د. إدريس الفينة

ليست الظاهرة الواسعة للاقتصاد غير المهيكل في المغرب مجرد انحراف هامشي عن المنظومة الاقتصادية النظامية، بل تمثل في العمق تعبيرًا بنيويًا عن فشل ثلاثي: سوق شغل لا يستوعب، نسيج مقاولاتي غير قادِر على التوسُّع، وتعليم لا يُنتج رأسمالًا بشريًا يتلاءم مع حاجيات الاقتصاد المعولم. ومن ثم، فإن انفجار عدد وحدات الإنتاج غير المهيكلة ليس خللًا في الأطراف، بل عرض مرضي لمنظومة تنموية عجزت عن توفير سلاسل إنتاج مدمجة وعادلة.

تشير الأرقام الأخيرة إلى أن أزيد من 2 مليون وحدة إنتاج غير مهيكلة تشتغل خارج القنوات الرسمية، ما يمثّل نسبة ساحقة من المشهد الإنتاجي الوطني. إلا أن قراءة هذه الأرقام دون ربطها بالبنية العميقة لسوق الشغل تُبقي التحليل على مستوى الوصف. فالسؤال الجوهري هو: لماذا تظل فئات عريضة من القوة العاملة خارج دائرة العمل اللائق والمنظّم؟ الجواب لا يمكن اختزاله في “التهرب” من الضرائب أو ضعف الوعي، بل يرتبط بجذر أعمق: فشل السوق في خلق الطلب على اليد العاملة، وبالضبط على اليد العاملة منخفضة أو متوسطة التأهيل.

إن الاقتصاد المغربي، بما يتسم به من هيمنة قطاعات تقليدية (التجارة الصغيرة، البناء، النقل، الفلاحة الموسمية) وضعف تكامل سلاسل القيمة الصناعية، يعجز عن توليد مناصب شغل ذات استدامة ومردودية. ويزداد هذا العجز تعقيدًا مع محدودية عدد المقاولات الكبرى القادرة على خلق ديناميات شغلية واسعة، إذ أن النسيج الاقتصادي المغربي يبقى مؤلفًا في غالبيته من وحدات صغيرة جدًا، معظمها عائلية، تشتغل في هوامش السوق ولا تملك قابلية التوسع، ولا القدرة على إدماج اليد العاملة الجديدة في قنوات الإنتاج المنظم.

الأمر لا يقف عند حدود الطلب، بل يشمل أيضًا جانب العرض، أي منظومة التعليم والتكوين. ذلك أن النظام التعليمي المغربي ما يزال يعاني من فجوة عميقة بين مخرجاته وسوق العمل. فعدد كبير من خريجي الجامعات والمعاهد لا يتوفرون على الكفايات التقنية، أو اللغوية، أو الرقمية المطلوبة في السوق الحديث. والأدهى أن منظومة التكوين المهني، التي يُفترض أن تكون جسرًا نحو التشغيل، ما تزال محاصرة بهشاشة البنية، وضعف الثقة الاجتماعية، وضيق الأفق المهني.

هذا التلاقي بين عرض لا يستجيب، وطلب لا يتولد، يخلق بيئة مثالية لنمو الاقتصاد غير المهيكل: الأفراد يجدون أنفسهم مجبرين على خلق أنشطتهم الخاصة، بعيدًا عن القانون، بعيدًا عن الحماية، بعيدًا عن الإنتاجية، وبعيدًا عن المستقبل. وهكذا تصبح الوحدات غير المهيكلة هي الملجأ الأكثر قابلية للولوج، والأكثر هشاشة في آن.

لكن الأخطر من ذلك هو أن هذا الاقتصاد غير المهيكل لا يعود مجرد مرحلة انتقالية نحو التنظيم، بل يتحول مع الزمن إلى بنية مستقرة، وبديل نظامي لا يزول بل يتوسع، ويخلق حوله نظامًا موازيا من القواعد، والأسواق، والعلاقات الاجتماعية. إنه اقتصاد الضرورة الذي يملأ الفراغ الذي تركه فشل السياسات العمومية في استشراف احتياجات المجتمع والتخطيط له.

أمام هذا الوضع، لا يمكن الحديث عن هيكلة الاقتصاد دون إعادة النظر الجذرية في منطق السياسة الاقتصادية برمته. المطلوب ليس فقط تحفيز وحدات الاقتصاد غير المهيكل للانضمام إلى الرسمي، بل إعادة بناء القدرة الإنتاجية الوطنية من الأساس: استثمار شجاع في صناعات تحويلية كثيفة التشغيل، إعادة تصميم منظومة التعليم على أسس الكفاءة والسوق، خلق بيئة قانونية ومالية حاضنة للمقاولة المتوسطة والكبرى، وتعزيز التشبيك بين القطاعات لضمان تكامل داخلي.

القطاع غير المهيكل ليس هو المرض. إنه العَرَض. المرض الحقيقي هو غياب مشروع اقتصادي متكامل، يربط بين سوق الشغل، والمقاولة، والرأسمال البشري، ضمن رؤية تنموية شاملة. ما لم يحدث ذلك، سيظل الاقتصاد المغربي موزعًا بين قطب رسمي محدود التأثير، وآخر غير مهيكل واسع الامتداد، دون أن يكون بينهما جسر مؤسسي قادر على الدمج والتوحيد.

إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبر بالضرورة عن رأي آشكاين وإنما عن رأي صاحبها.

احصل على تحديثات فورية مباشرة على جهازك ، اشترك الآن

من شروط النشر : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments

يستخدم موقع الويب هذا ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

0
أضف تعليقكx
()
x