لماذا وإلى أين ؟

بريطانيا تعترف

د. خالد فتحي
كعادته، يربح المغرب جولة دبلوماسية جديدة تُحسب له في سجل الانتصارات الهادئة والمستمرة. زيارة وزير الخارجية البريطاني إلى الرباط لم تكن زيارة عابرة، بل كما وصفها ناصر بوريطة، كانت “أكثر من تاريخية”.
أن تعلن المملكة المتحدة، وبشكل علني، دعمها لمبادرة الحكم الذاتي التي تقترحها الرباط لحل نزاع الصحراء، هو تطور نوعي يُعزز الموقف المغربي أمام المنتظم الدولي.
منذ رسالة ماكرون التي أيدت فيها فرنسا الحل المغربي، كنت كتبت أني أرى رسالة قادمة من عاهل المملكة المتحدة تشارلز الثالث إلى جلالة الملك محمد السادس، تحذو فيها لندن حذو واشنطن ومدريد وباريس. بهذا الاعتراف الذي اعلنته الخارجية البريطانية ، تكون حلقة الاعتراف بالحق المغربي قد أحكمت في مجلس الأمن: الولايات المتحدة، صاحبة القلم في هذا الملف داخل هذا المجلس، وفرنسا، المستعمر القديم الذي يعرف أسرار ودقائق الحدود الحقيقية بين بلدان المغرب الكبير، ثم الآن بريطانيا، التي فعلت ما كانت تضمره على الدوام في قرارة نفسها وتدخره للحظة الحاسمة لتعلنه على رؤوس الأشهاد.
ولا ننسى الصين التي تتحسس من كل أشكال الانفصال بسبب قضية تايوان، وروسيا التي لها موقف مشابه بسبب إشكالات الأقاليم المنفصلة عنها. وقد جاء هذا الموقف البريطاني على لسان وزير الخارجية ديفيد لامي، الذي أعلن من الرباط أن “هذه السنة ستكون سنة حل هذا المشكل المفتعل”، في تصريح غير مسبوق من حيث وضوح الموقف وصلابته السياسية. إنها لحظة دبلوماسية فارقة.
لا يحمل هذا الاعتراف البريطاني أي مفاجأة لنا نحن المغاربة. الملكيات العريقة تعرف بعضها، وهي أقدر على تقدير الحقوق التاريخية حق قدرها. التاج البريطاني والتاج المغربي هما أقدم ملكيتين في العالم، ومن المؤكد أن بريطانيا على علم بالحدود الحقة للإمبراطورية المغربية الشريفة.
لم يكن مصادفة أن المغرب، خلال الزلزال الذي ضرب منطقة الحوز، سمح لبريطانيا أن تكون ضمن الدول القليلة التي يحق لها تقديم العون. ذلك أن العلاقات المغربية البريطانية ليست وليدة اليوم، بل تمتد لقرون طويلة، أكثر من 800 سنة، وقد عرفت تبادلًا دبلوماسيًا مبكرًا جدًا، حيث كانت هناك سفارات بين المملكتين، في وقت لم تكن فيه العلاقات الدولية قد تشكلت بصورتها الحديثة. وهو ما يُضفي عمقًا استراتيجيًا على الموقف البريطاني، ويجعله امتدادًا لمسار تاريخي من التقدير والتفاهم المتبادل.
لكن الجديد والمستفزّ لخصوم وحدتنا الترابية، أن الحكومة البريطانية التي أتى وزير خارجيتها يزف هذه البشرى للمغاربة، حكومة يقودها حزب العمال اليساري.
مما يعني أن الأطروحة الانفصالية لم تعد تغري لا يمينًا ولا يسارًا ولا وسطًا. لقد أصبحت هذه الأطروحة فاقدة للبوصلة الإيديولوجية وللجاذبية السياسية، في كل الأوساط، وتدل على أن النظام الجزائري قد صار خارج التغطية.
لا يجب أن نغفل كذلك عن أن بريطانيا لا تتحرك وحدها، بل ترافقها كتلة دول الكومنولث ذات الوزن السياسي والاقتصادي الكبير ،و التي تضم أكثر من 50 دولة موزعة على كل قارات العالم، نذكر منها أستراليا، نيوزيلندا، كندا، والهند وغيرها.
وهذا الاعتراف البريطاني سيكون له أثر الدومينو على هذه الدول التي تربطها بالمملكة المتحدة علاقات استراتيجية. وهو ما قد يفتح أمام المغرب جبهة دعم أوسع، وخصوصًا في المنظمات الدولية، حيث تشكل هذه الدول كتلة وازنة.
إن أهمية هذا التحول لا تتوقف عند الرمزية الدبلوماسية، بل تتجاوزها إلى عمق الجغرافيا السياسية.
المغرب بات شريكًا موثوقًا لأوروبا، للغرب، وللقوى الصاعدة، في ملفات تتعدى الصحراء إلى محاربة الإرهاب، وضبط الهجرة، وأمن الطاقة. إنه مركز استقرار إقليمي، ونقطة توازن في شمال إفريقيا.
لذلك، فإن الاعتراف البريطاني، وإن كان مُنتظرًا، إلا أنه يحمل عدة رسائل ضمنية:
رسالة إلى الدول المترددة أو الرمادية التي تحتمي بالحياد السلبي، أن ساعة الوضوح قد أزفت.
ورسالة إلى الجزائر، أن إصرارها على منطق التجزئة يعزلها أكثر فأكثر في مشهد دولي يعلي الواقعية ويبحث عن حلول دائمة لا عن شعارات فارغة.
ورسالة إلى العالم، أن الحل المغربي ليس فقط مقبولًا، بل صار القاعدة المرجعية لأي تسوية مقبلة.
وعلى الصعيد الاقتصادي، فإن هذا الاعتراف يحمل إمكانيات هائلة: من الاستثمارات البريطانية في الأقاليم الجنوبية، إلى تعزيز التعاون في مجالات التجارة والطاقة المتجددة والبحث العلمي. كما يجب ألا نغفل أهمية الاستثمار الإعلامي والدبلوماسي في هذا الحدث. يجب أن تتحرك الجاليات المغربية، والمثقفون، والباحثون، والدبلوماسية الموازية لتكريس هذا المكسب وشرحه في المنابر الغربية.
نحن أمام تحول استراتيجي، لا ظرفًا عابرًا. فالتاريخ لا يرحم المترددين، والدبلوماسية لا تصبر على الغموض طويلًا.
والمغرب، الذي صبر طويلًا، بدأ يحصد اعترافًا تلو الآخر، من عواصم القرار، لا من هوامش التبعية.
حدثٌ مغربي بامتياز، يفرض احترامه على العالم، ويؤكد أن من يراهن على شرعية التاريخ والميدان لا يمكن إلا أن ينتصر.أما خصوم الوحدة الترابية، فليس أمامهم اليوم سوى مواجهة حقيقة مرة: خريطة العالم بدأت تُرسم من جديد… والمغرب حاضر فيها بقوة وثبات.

الآراء الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي “آشكاين” وإنما عن رأي صاحبه.

احصل على تحديثات فورية مباشرة على جهازك ، اشترك الآن

من شروط النشر : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments

يستخدم موقع الويب هذا ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

0
أضف تعليقكx
()
x