2024 © - أشكاين جميع الحقوق محفوظة - [email protected]

برعلا زكريا*
أعلن وكيل الملك لدى المحكمة الابتدائية بالحسيمة عن توقيف المصلحة الجهوية للشرطة القضائية لشخص في العشرينات من عمره، يشتبه في تسييره لمجموعات على تطبيق “واتساب”، تعمل على تلقي وتسريب الأجوبة الخاصة بامتحانات البكالوريا، مقابل مبالغ مالية يتم تحويلها عبر قنوات الدفع.
تعيد هذه الحادثة تسليط الضوء بشكل حاد على واقع مجتمعنا الذي يقف اليوم على عتبة تحولات رقمية هائلة، تحمل في طياتها الخير والشر، فكلمة “واتساب” لم تعد مجرد تطبيق للتواصل، بل تحولت إلى ساحة مفتوحة تختلط فيها فضائل الاتصال السريع مع رذائل الاستغلال المشين، ما يضعنا أمام مسؤولية جسيمة لفهم ما يدور في هذا العالم الافتراضي الذي بات أشد واقعية وزخما.
إن هذا التطبيق، الذي أضحى حيزا مهما من حياتنا اليومية، يفرض علينا أكثر من أي وقت مضى، وقفة تأمل عميقة، ليس لجلد الذات، بل لتشخيص دقيق لآفات بدأت تنهش في صمت نسيجنا الاجتماعي وقيمنا الأصيلة، خاصة وأن مزاياه المتطورة، كحماية المحادثات وإمكانية محو الرسائل وإخفائها، وإرسال الوسائط ذاتية الاختفاء، تبدو كأنها تشرع الأبواب على مصاريعها لمزيد من الانغماس في هذه المزالق الخطيرة.
ولكي ندرك حجم هذا الأمر، دعنا عزيزي القارئ نلقي نظرة سريعة على المشهد الرقمي في بلادنا.
فمع نهاية عام 2024، أشارت تقديرات الوكالة الوطنية لتقنين الاتصالات إلى بلوغ عدد مشتركي الإنترنت في المغرب حوالي 40.2 مليون مشترك، فيما كشفت بيانات مطلع العام ذاته أن نسبة انتشار الإنترنت لامست 90.7% من إجمالي السكان، مع هيمنة واضحة للإنترنت عبر الهاتف المحمول الذي يستحوذ على ما يناهز 93.09% من الاشتراكات. وفي هذا السياق، يتربع “واتساب” على عرش التطبيقات الأكثر استخداما، إذ تجاوز عدد مستخدميه في المغرب حاجز 37 مليون مستخدم خلال عام 2023.
هذه الأرقام الفلكية، التي تعكس حضورا رقميا شاملا يتجاوز فيه عدد الاتصالات الخلوية النشطة (51.36 مليون) إجمالي عدد السكان بنسبة 135.1%، تؤكد أننا أمام قوة جبارة، قادرة على نشر الإشاعة بسرعة فائقة، لتصبح أي معلومة مضللة أو سلوك مشين بمثابة شرارة في حقل من الهشيم الرقمي.
إن هذا الانتشار الواسع، وهذه السهولة في الاستخدام، حولا “واتساب” في كثير من الأحيان من أداة للتقارب وصلة الأرحام إلى بؤرة لتفريخ آفات اجتماعية تهدد قيمنا وأخلاقنا.
ولعل أبرز هذه الآفات هي تفشي النميمة والغيبة بشكل مرعب. فالمجموعات التي تنشأ بلا حسيب ولا رقيب، وتضم العشرات بل المئات، أصبحت منابر لبث السموم الرقمية، حيث تنقل الأقاويل وتلوك الأعراض وتنهش السمعة بضغطة زر. صور تقتطع، ومقاطع صوتية تجتزأ، ورسائل تفبرك، لتتحول الحياة الخاصة للأفراد إلى مادة دسمة للاستهلاك العام في أسواق النميمة الافتراضية.
وما كان يهمس به في المجالس الضيقة، صار اليوم يذاع على الملأ في فضاءات “واتساب” الرحبة، غير عابئ بحرمة أو خصوصية، ضاربا عرض الحائط بتعاليم ديننا الحنيف وثقافتنا المغربية الأصيلة التي تحرم الغيبة والنميمة وتعتبرهما من كبائر الذنوب.
ولم تسلم بيئة العمل من هذا الوباء، حيث تحولت مجموعات “واتساب” المهنية أحيانا إلى ساحات خلفية لتصفية الحسابات ونشر الإشاعات المغرضة، مما يعكر صفو العلاقات المهنية ويؤثر سلبا على الإنتاجية والأداء.
ولا يقف الأمر عند حدود النميمة والغيبة، بل يتعداه إلى ما هو أخطر وأشد فتكا: إفشاء الأسرار، سواء كانت زوجية أو مهنية. فكم من بيوت هدمت، وكم من علاقات زوجية تحطمت، بسبب رسائل طائشة أو صور خاصة وجدت طريقها إلى خارج أسوار العلاقة المقدسة! لقد باتت أسرار غرف النوم تنشر على الملأ، وأصبحت الخصوصيات الزوجية، التي شددت التعاليم الدينية على حرمتها وقدسيتها، مادة للتشهير والابتزاز أحيانا، حتى أن أروقة المحاكم أصبحت تشهد قضايا تستخدم فيها محادثات “واتساب” كأدلة على الخيانة أو الإساءة، في تحول مؤلم يعكس مدى استباحة الحرمات في هذا العصر الرقمي.
وعلى الصعيد المهني، فإن الكارثة لا تقل فداحة، حيث أضحى تسريب الوثائق والمراسلات الإدارية والمعلومات الحساسة للشركات والمؤسسات عبر هذا التطبيق ممارسة تبعث على القلق، رغم التحذيرات الرسمية، كدورية وزارة الداخلية التي حظرت تبادل الوثائق الرسمية عبر “واتساب”، مؤكدة أن ذلك يندرج ضمن إفشاء السر المهني ويمس بسمعة الإدارة وهيبتها.
إن هذا التساهل في التعامل مع معلومات مصيرية يفتح الباب على مصراعيه أمام مخاطر أمنية واقتصادية جسيمة.
أما الطامة الكبرى، والكارثة التي تهز الوجدان، فتتمثل في استغلال الأطفال الأبرياء عبر هذه المنصة. فبينما يفترض أن تكون التكنولوجيا أداة لبناء مستقبلهم، تحولت في أيدي بعض الوحوش الآدمية إلى وسيلة لاصطيادهم واستدراجهم إلى عوالم مظلمة.
كما أن ميزات الخصوصية التي يتباهى بها “واتساب”، كالتشفير التام والرسائل ذاتية الاختفاء والصور التي تعرض لمرة واحدة، والتي يفترض أنها تحمي المستخدمين، قد تستغل بشكل بشع من قبل هؤلاء المجرمين لإخفاء آثار جرائمهم النكراء، وتصعيب مهمة تعقبهم. ورغم الجهود التي تبذلها السلطات المغربية ومنصات الإبلاغ، فإن الأرقام الصادمة لقضايا الاعتداء الجنسي على الأطفال، والتي بلغت ما يقرب من 3295 قضية عام 2022، تدق ناقوس الخطر، وتكشف عن حجم الضعف في الرقابة الأبوية وغياب الوعي الكافي لدى الكثير من الأسر بمخاطر هذا العالم الافتراضي على فلذات أكبادهم.
ومن دون أدنى شك فإن حماية الطفولة من هذا الخطر الداهم مسؤولية مجتمعية لا يمكن التهاون فيها إطلاقا.
وتمتد تأثيرات هذا الاستخدام السيئ لـ “واتساب” لتضرب في الصميم ركيزتين أساسيتين في مجتمعنا: الأسرة وبيئة العمل. فداخل الأسرة المغربية، التي كانت دائما حصنا للقيم والتضامن، بدأنا نشهد، ويا للأسف، مظاهر مقلقة من “العزلة النسبية”، أفراد الأسرة متواجدون جسديا في نفس المكان، لكن كل واحد منهم غارق في عالمه الافتراضي الخاص عبر شاشة هاتفه، مما يقلل من فرص التواصل الحقيقي، ويضعف الروابط العاطفية، ويؤدي تدريجيا إلى ما يشبه “اغتيال الروابط الأسرية”.
كما أن هذا التطبيق، بسلاحه ذي الحدين، قد يفاقم النزاعات الزوجية، إما بتسهيل سبل الخيانة أو بتوفير منصة لنشر الخلافات والأسرار. وفي أوساط العمل، يتحول “واتساب” أحيانا من أداة لتسهيل التواصل المهني إلى مصدر للإلهاء وتشتيت الانتباه، مما يؤثر على التركيز والإنتاجية، فضلا عن المخاطر الجسيمة المتعلقة بتسريب المعلومات المهنية السرية، وهو ما يطمس الحدود بين الحياة الشخصية والمهنية ويساهم في “الإجهاد التكنولوجي” الذي يعاني منه الكثيرون.
مع ذلك لا يمكن أن ننكر المزايا الجمة التي يوفرها “واتساب” كأداة تواصل عصرية، ولكن الحقيقة المرة التي يجب أن نعترف بها هي أن سوء استخدامه قد تحول إلى معول هدم صامت، ينخر في قيمنا، ويهدد استقرار أسرنا، ويمس بأمننا المجتمعي والمهني.
إن الخصائص الجديدة التي يطورها التطبيق باستمرار، والتي تهدف ظاهريا لتعزيز الخصوصية، قد تكون في الواقع غطاء مثاليا لمزيد من الانتهاكات إذا لم يقابلها وعي مجتمعي متقد، وتربية رقمية وقائية، وإطار قانوني رادع. فالمسؤولية تقع علينا جميعا، أفرادا ومؤسسات، لنجعل من هذه التكنولوجيا جسرا للتقدم والتواصل الإيجابي، لا نفقا مظلما نحو التفكك والانحلال.
إنها دعوة ملحة لاستعادة زمام المبادرة، وترشيد استخدامنا لهذه الأداة، حتى لا نصبح أسرى لعالم افتراضي يبتلع عالمنا الحقيقي.
*باحث في قضايا الأسرة
الآراء الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي “آشكاين” وإنما عن رأي صاحبه.