2024 © - أشكاين جميع الحقوق محفوظة - [email protected]

د. مليكة موحتي*
مقدمة
يعد كتاب الباحث رحال بوبريك، الموسوم ب”مسألة الصحراء. أصول اختراع استعماري 1884-1975″، تتويجا لمسار طويل من البحث في موضوع الصحراء، أثمر جملة من المؤلفات والمقالات. وبفضل ما راكمه بوبريك في هذه التجربة الغنية والطويلة في البحث في مختلف الأبعاد السوسيو-أنثروبولوجية للمجتمع الصحراوي عبر صيرورته التاريخية ،سعى في هذا الإصدار إلى تجاوز الأدبيات العلمية التي قاربت مسألة الصحراء، من منظور القانون الدولي أو القانوني-السياسي، أو حتى تلك التي توجهت أكثر نحو شرعنة الحق التاريخي للمغرب في الصحراء، بالكشف عن الروابط التاريخية بين الصحراء وباقي مناطق المغرب.
فالهدف من إصدار هذا الكتاب، هو رصد التحولات الأساسية لمسألة الصحراء على مدار حوالي قرن من الزمن (1884-1975)،من خلال الكشف عن سيرورة الاختراع المتدرج والممتدة في الزمن لتراب”الصحراءالغربية”المنفصل عن المغرب، ثم ل”شعب الصحراء” و”للدولة العربية الصحراوية المزعومة”، بإيعاز من القوتين الاستعماريتين: فرنسا واسبانيا، وبتواطؤ من الجزائر، التي استأنفت المشروع الاستعماري لحسابها الخاص.
في منهجية الدراسة
استند بوبريك في دراسته، إلى رصيد وثائقي هائل، يشمل إضافة إلى الأدبيات العلمية الكولونيالية، المراسيم والقرارات والقوانين، والتليغرامات والمذكرات والصور، والتقارير الرسمية، العسكرية والمدنية…الخ، واستند أيضا إلى الكثير من المصادر المباشرة غير المنشورة.وفي ضوء هذه الوثائق، قام الباحث برصد سيرورة تجزئة التراب المغربي، على مدى قرن من الزمن تقريبا، مدشنا بذلك دراسة كرونولوجية للوقائع والأحداث، مستثمرا أرشيف مختلف الأرصدة الوثائقية للفترة الاستعمارية الوطنية، والديبلوماسية، والعسكرية (ص: 12).
أرشيف يؤرخ لسيرورة اختراع القوى الاستعمارية لـ”الصحراء الغربية” ولـ “الشعب الصحراوي”، ولا سيما الأرصدة الوثائقية الفرنسية (إكس أن بروفانس، نانت، فانسين و كورنوف) والاسبانية. وعلى مستوى منهجية الكتابة، حرص الباحث على توظيف استشهادات واقتباسات غزيرة من وثائق الأرشيف من أجل دعم أقواله، ومن أجلال تحقق من أي معلومة لدى أكثر من مصدر أو جهة، لا سيما وأن جزء مهما من الوثائق المرجعية المعتمدة، يستثمر لأول مرة في هذا الكتاب.. (ص: 13).
يتتبع الباحث، عبر تفاصيل متن الوثائق الغنية والبالغة الأهمية المستثمرة، وغير المتاحة للجمهور الواسع، تحولات اللغة الاستعمارية نفسها، بما فيها تلك التي تشير إلى الصحراء المغربية، والتي تعكس ميزان القوى بين المشروع الاستعماري وبين مشروع المقاومة الصحراوية والمغربية عموما) “ملكية”، منطقة تأثير، صحراء اسبانية..)، كما يقوم بحفريات حول الكثير من العبارات الموظفة حول مسألة الصحراء، من قبيل (الصحراويين، وشعب الصحراء الغربية أو الشعب الصحراوي، والدولة الصحراوية..الخ)، التي تسللت، تدريجيا إلى أدبيات الأمم المتحدة، بإيعاز من القوة الاستعمارية الاسبانية، كاشفا بذلك عن زيفها وتلفيقيتها (ص: 114).
ويتضمن كتاب “مسألة الصحراء..” أربعة فصول، تناول فيها الباحث، جملة من القضايا، أهمها، استعمار الصحراء واستراتيجية التسمية، جذور مسألة الصحراء وتداعياتها، مخططات المستعمر واجهاض استكمال الوحدة الترابية للمغرب، مسلسل اختراع “الشعب الصحراوي” ومعركة المحكمة الدولية، الجزائر واستئناف المشروع الاستعماري في الصحراء.

استعمار الصحراء واستراتيجية التسمية
إن عملية اختراع “تراب صحراوي” منفصل عن المغرب، صناعة استعمارية، انطلقت منذ نهاية القرن التاسع عشر، فأخذت تدريجيا تسميات متعددة (“منطقة الحماية في الجنوب”، “افريقيا غربية اسبانية”، “صحراء اسبانية”، “صحراء غربية”)، بغية شرعنة وجود “تراب” و”شعب” مستقلين، في أفق صنع “دولة” مزعومة (ص: 11).
والحال أن المنطقة، موضوع الدراسة/الكتاب، الواقعة بين واد نون والساقية الحمراء، لها عدة أسماء تبعا للطيبونيميا المحلية. فإذا كان الناس خارجها، يوظفون اسم “الصحراء” للإشارة إلى هذا المجال، فالقبائل الصحراوية استعملت أسماء لها علاقة بأشكال التضاريس وخصوصيات مشهد الصحراء. كما أن طوبونيميا بعض مناطق الصحراء،تقترن بالقبائل التي تهيمن على التراب وتتحكم فيه. لكن مع بدء الاستعمار، بدأ استعمال تعبير”الصحراء الغربية” للإشارة إلى كل الجزء الغربي من الصحراء، بغاية تمييزه عن “الصحراء الوسطى” وعن “الصحراء الشرقية”. وظهر تعبير “الصحراء الغربية” أولا في كتابات المستكشفين والرحالة، خصوصا في القرن 19، وتمت استعادته في تقارير العسكريين والإداريين العاملين في المجال بين السينغال وجنوب المغرب. وكان تعبير “الصحراء الغربية” في التصور الفرنسي الاستعماري،يشير في تلك الفترة، إلى منطقة تمتد من نهر السنغال إلى واد نون. واستمر هذا التصور عقودا، بعد احتلال المجال. أما فيما يتعلق بإسبانيا، فهي تستعمل تعبير “الصحراء الاسبانية” (ص: 10). بغية فصل التراب عن باقي المناطق الصحراوية المجاورة. وانطلاقا من سنوات الأربعينيات من القرن العشرين، بدأت الأدبيات الاستعمارية تختزلتعبير “الصحراء الغربية” في الساقية الحمراء وواد الذهب. ومع نهاية سنوات الخمسينيات، وبشكل خاص، مع بداية الستينيات من القرن الماضي، فرض التعبير نفسه، فبدأت الأمم المتحدة والهيئات الدولية تستعمله.
إن سيرورة الصناعة الاستعمارية الطويلة ل”الصحراء الغربية” ستتوج في فترة ما بعد الاستعمار، باختراع “شعب الصحراء الغربية” أو “الشعب الصحراوي”، ثم ” الدولة العربية الصحراوية”.ففي فترة التحرر من الاستعمار، وضدا على منطق التاريخ، قام نظام فرانكو بالاحتفاظ بالصحراء، بإرساء وضع “إقليم اسباني” في مرحلة أولى، ثم بعد ذلك، باختراع “شعب” وصناعة “دولة” وهمية. وعندما أجبرت إسبانيا (ص: 11) على مغادرة التراب سنة 1975، أوكلت المهمة إلى الجزائر التي عملت على تأبيد النزاع المصطنع، على مدى أكثر من نصف قرن.
جذور مسألة الصحراءوتداعياتها
يتعقب الباحث جذور مشكلة “الصحراء”، والتي لا تعود إلى نهاية القرن 19، بل بدأت منذ قرون خلت، عندما سعت القوتان الاستعماريتان الايبيريتين، الإسبانية والبرتغالية، إلى احتلال السواحل الأطلنتية المغربية منذ القرن 14 (ص: 15).فقد جرى التمهيد للاحتلال، بإرسال البعثات الاستكشافية الى السواحل الصحراوية، تارة باسم “الدين” (ص: 16)، وتارة أخرى بمبرر الصيد في مياه السواحل الصحراوية الغنية بثرواتها السمكية، أو بمبرر التجارة (ص: 20، وأحيانا بشكل صريح، من خلال إرسال بعثات عسكرية للاستكشاف وجمع المعلومات عن مناطق الصحراء، خصوصا الداخلية منها (ص: 26). وعلاوة على ذلك، جرى الاختراق الاستعماري للمناطق الصحراوية من قبل مؤسسات البحث العلمي الكولونيالي، من خلال بعثات “علمية” تستكشف مختلف مظاهر الحياة في المنطقة، خدمة لغايات الاستعمار. فالقوة الاستعمارية الفرنسية المدفوعة بهاجس مواكبة فعلها السياسيوالعسكري في الميدان، أنشأت “المعهد الأساسي لأفريقيا السوداء” في دكار، الذي يغطي الصحراء علميا من جهة الجنوب، إلى جانب معهد الدراسات العليا المغربية في الرباط، الذي يغطيها “من جهة الشمال .
وبالمثل، بدأ الاهتمام “العلمي” للقوة الاستعمارية الاسبانية بالصحراء، بمجرد تثبيت تنظيماتها العسكرية والإدارية بكل من الساقية الحمراء ووادي الذهب، ومنطقة الحماية بجنوب وادي درعة، ومن أجل تعزيز البحث حول الصحراء أنشأت معهد الدراسات الافريقية ومجلة أفريكا .وعلى العموم، يكشف الباحث بأن البعثات الاستكشافية التي توجهت إلى مناطق الصحراء، كانت تخفي خلف بواعثها المعلنة(التجارية أو العلمية، أو الدينية. الخ) مشاريع استعمارية حقيقية، تمت شرعنتها بالترويج لفكرة مفادها أن سيادة الدولة المغربية تقف عند واد درعة(ص: 29). وعملت على توقيع معاهدات واتفاقيات بين ممثلي الشركات التجارية للدول الاستعمارية، وبين أشخاص من الصحراء، يجهلون تماما الرهانات الفعلية لتلك التعاقدات، يتم تقديمهم باعتبارهم أعيان قبائل صحراوية، (ص: 33)، في تجاهل تام للإرادة القوية لآلاف الأشخاص الذين عاشوا تاريخيا في الصحراء، وقاوموا مخططات القوى الاستعمارية ومشاريعها، بتنسيق مع السلطان وتوجيه منه(ص: 64).
يكشف الكتاب بالحجج الوثائقية، وبما لا يدع مجالا للشك، الارتباط الوثيق بين جنوب المغرب الصحراوي الممتد إلى الساقية الحمراء وواد الذهب، وبين شماله. ويبرز بالأدلة، كيف أن السلاطين المغاربة، عبروا دائما عن موقف صارم ضد تحرشات القوى الاستعماريةتجاه المناطق الصحراوية، وتصدوابحزم لمناوراتها التوسعية، (ص: 23)والتي تزايدت منذ منتصف القرن 19، وتكاثرت بالتحاق قوى استعمارية أوربية أخرى، إلى جانب فرنسا واسبانيا، مثل بريطانيا وبلجيكا (ص: 28).ويشير الباحث في هذا الصدد إلى أن السلطان الحسن الأول، كان يحتج لدى المصالح القنصلية الأجنبية في طنجة، على أي انتهاك للتراب الوطني الصحراوي، مثلما كان يرسل بعثات مخزنية لمعاينة الوضع في الصحراء، وللوقوف على التجاوزات، كما حصل سنة 1882 عندما بعث السلطان لجنة تضم ممثلين مركزيين إلى طرفاية (نائبا له وابن عمه) ومحليين (عامل واد نون وقائد وقوات مخزنية)،وكما حصل سنة 1886 عندما أرسل حملة عسكرية إلى الصحراء لصد الانتهاكات الاستعمارية، ولتدمير المنشآت التي يحدثها ممثلي الاستعمار في المنطقة(ص: 31).
إن صرامة السلطة المركزية ويقظة القبائل، وضعا حدا لتحرشات القوى الاستعمارية في السواحل الصحراوية (ص: 32) إلى حدود نهاية القرن التاسع عشر، لكن مع بداية القرن 20، تعرضت البلاد للتقطيع، بسبب الاتفاقيات المبرمة بين القوى الاستعمارية. وبفعل سياسة اقتسام التراب الصحراوي بينها، (ص: 35)اندلعت مقاومة مسلحة شعبية قادتها قبائل الصحراء ضد المشاريع الاستعمارية في المنطقة، وعرفت انخراط الزعماء الروحيين والدنيويين(شيوخ القبائل والأعيان) والناس البسطاء، والتي استمرت منذ بداية القرن العشرين إلى غاية سنة 1934، تاريخ توقف المقاومة المسلحة.ولهذا، فإن مسألة الصحراء هي نتاج عدة عوامل، تداخلت فيما بينها، فساهمت في تقطيع أوصال الإمبراطورية الشريفة، وفرض الحدود الاصطناعية، وعرقلت سيرورة تحرر المغرب من سيطرة الاستعمار.ويبين الباحث بأن الإرث الاستعماري في الصحراء، له تداعيات وخيمة على مستقبل المغرب، والمغارب عموما. فما كان مجرد خطوط مرسومة على الخرائط من طرف لجن ترسيم الحدود، من أجل تحقيق توازن بين القوى الاستعمارية وتجنب النزاعات بينها، صار عبئا ثقيلا بالنسبة لأجيال المغاربة وظلما تاريخيا تجاه المغرب(ص: 12).
إن الحدود المفروضة من قبل القوتين الاستعماريتين، لم تأخذ بعين الاعتبار الخريطة الاجتماعية والقبلية، ولم تراع الروابط القائمة بين واد الذهب، والساقية الحمراء وطرفاية وإفني وعموم مناطق المغرب، كما لم تهتمبأسواق قبائل الصحراء ومراعيها ومسارات ترحالها(ص: 114). تمحورت السياسة الاستعمارية حول الفصل بين مكونات قبيلة “تكنة”Tekna، وبين من اعتبرتهم مغاربة ومن لم تعتبرهم كذلك، أي الفصل بين تكنة المنتمين لبلاد المخزن، والآخرين المنتمين لبلاد السيبا.والملاحظ من خلال هذا الرصد التاريخي لمسألة الصحراء، أن الحدود النظرية والأخرى الخيالية التي أرستها القوى الاستعمارية، انتهكت مبدأ سيادة دولة ضاربة في التاريخ. فالضباط والاداريين السامين، في الدول الاستعمارية،حددوا سيادة المغرب على الخرائط بالاستناد إلى معايير غير متلائمة مع التاريخ، ودون الأخذ بعين الاعتبار خصوصيات البلد ولا الروابط السياسية والدينية والاقتصادية والثقافية لشعبه. فالهدف الوحيد الذي حكم الحدود المرسومة على الخرائط، هو فصل الصحراء عن المغرب(ص: 115).
مخططات المستعمر واجهاض استكمال الوحدة الترابية للمغرب
ويشير الباحث إلى أنه، مباشرة بعد الإعلان عن استقلال المغرب، صارت مسألة استكمال الوحدة الترابية، أولى الأولويات، بالنسبة للقوى الحية في البلاد، في الصحراء، كما في باقي جهاتالمغرب الأخرى(ص: 121). فالمغرب الرسمي الذي لم يعترف أبدا بالحدود الاستعمارية في الصحراء، طالب بفتح مفاوضات من أجل استرجاع أقاليمه الصحراوية الخاضعة للاستعمارين الفرنسي والإسباني، مباشرة بعد استقلاله.كما أن جيش التحرير (الذي حمل اسم “جيش تحرير الصحراء المغربية” أو “جيش تحرير الجنوب”)استأنف نشاطه في الجنوب، وخاضمعركة تحرير الصحراء، التي عرفت انخراطا واسعا لأبناء مختلف القبائل الصحراوية، والتي تمت على واجهات ثلاث: عسكرية وسياسية واجتماعية (ص: 148).
وقد كبدت هجمات جيش التحرير خسائر فادحة للمستعمر، خصوصا الفرنسي، دفعته للتحالف والتنسيق العسكري الوثيق مع المستعمر الاسباني في عهد حكم فرانكو، مما اضطرهما معا إلى ممارسة عنف شرس ضد قوات جيش التحرير ومعها تجمعات البدو والرحل في مختلف مناطق الصحراء (في الساقية الحمراء وتيرس، وفي منطقة طانطان وآيت باعمران..)، وذلك باستعمال أسلحة دمار شامل (ص: 164)، خصوصا في عملية”إيكوفيان” في فبراير 1958، مماخلف خسائر كبيرة في الأرواح والممتلكات، ودفع آلاف الأسر إلى اللجوء إلى منطقة كلميم. كل ذلك يبين في نظر الباحثإصرار المغرب على مواصلة معركته بتوظيف الوسائل والموارد التي بحوزته، حتى في ظل سياق داخلي معقد. فالدولة المغربية كانت في مواجهة تحديات متعددة داخل البلاد، وعلى رأسها، تحدي استقرار الدولة أمام معارضة قوية. وبالمقابل، لجأت القوتان الاستعماريتان (ص: 186) لكل المناورات من أجل تمديد احتلالهما للتراب الصحراوي. فبعد أن عجزت التدخلات العسكرية الوحشية عن فصل ساكنة الصحراء عن باقي التراب المغربي، ورغم تجزئة التراب، بدأت توظف ورقة الخريطة القبلية، خصوصا القبائل المهمة ديموغرافيا والممتدة على مستوى المجال (الرقيبات بشكل خاص) (ص: 187)،بالضغط على القبائل وضبط تحركاتها والتضييق عليها، وبافتعال نزاعات فيما بينها. الأمر الذي انتبه إليه المغرب، وجعله يقومبحملة واسعة بين صفوف قبائل الصحراء للتحسيس بخطورة مثل هذه المخططات الاستعمارية الفرنسية والاسبانية(ص: 190).
مقابل ذلك، عملت القبائل الصحراوية على توثيق الارتباط فيما بينها، مستندة على اتفاقياتبين قبلية قائمة على التكامل الاقتصادي، وعلى قوة الروابط الاجتماعية والسياسية وعمقها التاريخي، فيما بينها وفي علاقتها مع باقي قبائل التراب المغربي. فرغم سياسة الحدود المرسومة من قبل القوتين الاستعماريتين، استمرت الروابط التاريخية بين القبائل، فعلى سبيل المثال استمرت قبيلة الرقيبات، في التنقل إلى مراعي وأسواق واد نون، وإلى مراعي درعة وأسواق كلميم، رغم محاولات السلطات الاستعمارية الفرنسية لثنيها عن ذلك، وتغيير وجهتها نحو تندوف والجنوب الجزائري(ص: 200). فضدا على منطق الحدود الاستعمارية المصطنعة في الصحراء المغربية، كانت القبائل الصحراوية، تصعد في الفترات الصعبة (الجفاف، القحط، والهجمات العدوانية، وحملات القمع) نحو الشمال، لطلب الدعم والعون من السلطات المركزية (ص: 202).وهكذا، شكلت الأحداث التي شهدتها سنوات الخمسينيات من القرن الماضي، لاسيما إحداث جيش تحرير الصحراء وعملية إيكوفيان، لحظات فارقة في تاريخ المنطقة.
وانطلاقا من بداية سنوات الستينيات من القرن الماضي، سيواصل المغرب معركته ضد القوتين الاستعماريتين، في سياق جد صعب، حيث سيتخلى المغرب مؤقتا عن المواجهة المسلحة مع اسبانيا، وسيختار طريق التفاوض المباشر (ص: 208).ومن ثمة انتقلت المعركة، من المواجهة على الأرض إلى المواجهة في أروقة الأمم المتحدة..وفي هذا الصدد يكشف الباحث عن واقعة مهمة بشأن مسألة الصحراء، حدثت في هذه الفترة، لكنها غير معروفة للعموم. فشهران قبل قرار الأمم المتحدة المشهور(1514)، كان المغرب قد وضع مشكل الصحراء أمام الأمم المتحدة، كما تثبت ذلك مذكرة للسفير الفرنسي في مدريد تعود إلى سنة 1961، يشير فيها إلى أن المغرب سبق وطرح مسألة الصحراء في الأمم المتحدة في شهر نونبر 1960، خلال جلسة للجمعية العمومية. ولم تتأخر اسبانيا عن الاستجابة لطلب الأمم المتحدة، والاعتراف بشكل غير مباشر بأن الصحراء كانت ترابا تحت الاستعمار(ص: 218).وطوال أكثر من عقد من الزمن، تشبت المغرب بموقفه الداعي إلى تطبيق صحيح وعادل للقرار رقم 1541، الذي يقضي بأن تحرر الصحراء من الاستعمار، وتطبيق مبدأ تقرير المصير يجب أن يحافظا على وحدته وسيادته الترابية، ولا يفضيان بالضرورة إلى إنشاء دولة مستقلة(ص: 236). وكما أوضح محمد الشرقاوي،يمكن دائمًا إقامة الجدران ورسم الحدود المصطنعة، لكن لن ننجح أبدا في القضاء على إرادة العيش المشترك، التي يتم التعبير عنها بوسائل أخرى غير الاستفتاء .
مسلسل اختراع “الشعب الصحراوي” ومعركة المحكمة الدولية
يعتبر الباحث رحال بوبريك، بأن عملية إيكوفيان والأحداث التي أعقبتها، ما بين 1958 و1962، عرقلت استكمال الوحدة الترابية للمغرب، في فترة دقيقة من سيرورة تحرر مناطق البلاد الأخرى (منطقة الحماية الفرنسية، والاسبانية في الوسط والشمال)، ووضعت حدا للفعل العسكري في جنوب المغرب، لكن دون أن توقف مطالبة المغرب باستعادة أقاليمه الصحراوية كاملة.فإذا كان المغرب قد استعاد أقاليمه الصحراوية في واد نون سنة 1956، وفي طرفاية سنة 1958، وفي إفنيبعد ذلك بسنوات، أي في سنة 1969، فإنمنطقة الصحراء الواقعة جنوب “الطاح”، ظلتخاضعةللاستعمار الاسباني، إذ جعل منها ما يشبه مختبرا لمشروع اختراع دولة مستقلة عن المغرب وتابعة له، من أجل ضمان استمرارية مصالحه(ص: 212).
عملت السلطات الاستعمارية الاسبانية على تنزيل فكرتها القديمة، المتمثلة في اختلاق كيان قانوني وسياسي في الصحراء، ومحاولة منحه هوية ثقافية خاصة (الثقافة الحسانية)، وبناء سردية تاريخية متمحورة حول أطروحة أن الصحراء مجال ترابي مستقل عن المغرب، ومن أجل ذلك سخرتاسبانيا بنيات البحث العلمي التدخلي ووسائل الاعلام (الإذاعة والصحافة المكتوبة)، بغية تعزيز هذه الأطروحة، والكشف عما تعتبره خصوصيات تاريخية وجغرافية واقتصادية وسياسية للمجتمع الصحراوي (ص: 271-272).وقد حذر المغرب اسبانيا من مغبة خلق دولة مستقلة في الصحراء، تابعة لها (ص: 273).وفي سنة 1974، قاد – مدعوما بالدول العربية- حملة ديبلوماسية ضد مخططات اسبانيا وداعميها (موريتانيا والجزائر). ومنذ بداية سنوات السبعينيات، لم يعد المغرب في مواجهة اسبانيا فقط، في مسألة الصحراء، بل انضاف إليها فاعلون آخرون، التقت مصالحهم مع مصالحها، وهم الجزائر وموريتانيا وجبهة البوليساريو (ص: 276).فمنذ سنة 1973، غيرت الجزائر موقفها إزاء الصحراء، وتحالفت مع اسبانيا، وانخرطا معا في معاكسة مصالح المغرب في الأمم المتحدة وفي الاتحاد الافريقي وفي مختلف الهيئات الدولية، وعلى مستوى الميدان، منحت قاعدة خلفية لحركة جبهة البوليساريو في تندوف(ص: 281-282).
وفي شتنبر 1974، قرر المغرب وضع مسألة الصحراء لدى محكة العدل الدولية في لاهاي، من أجل التحكيم، رغم معارضة اسبانيا (ص: 310). قدم المغرب لقضاة المحكمة، قرائن داخلية (عقود بيعة القياد والزعماء الصحراويين للسلطان، ووثائق تعيين القياد..) وأخرى دولية(معاهدات موقعة مع اسبانيا والولايات المتحدة الامريكية، وبريطانيا وألمانيا)، تعترف بالروابط القانونية للسيادة الترابية بين الصحراء والمغرب. فهذه الروابط القانونية، هي في نظر المغرب، روابط سيادة وممارسة فعلية للسلطة في فترة الاستعمار الاسباني(ص: 311).وبناء على ذلك، أقرت محكمة لاهاي بأن ساكنة الصحراء تربطها علاقة بيعة بملك المغرب، ولعل هذا الاعتراف هو الذي برر الإعلان عن المسيرة الخضراء.لكن المحكمة، كما أكد عبد الله العروي، ذهبت بعيدا، لأن أطرافا أخرى- وخصوصا الجزائر- حرفت المسألة بالحديث عن مشكلة تقرير المصير، في إطار مفاهيمي غريب تماما عن الإطار المفاهيمي للبيعة .والواقع أن استثمار الباحث لخلفيته السوسيو-أنثروبولوجية والتاريخية، أتاحت له إبراز نقط ضعف رأي المحكمة الدولية، وسعيها إلى تحقيق نوع من التوازن المصطنع بين الأطراف المتنازعة، كما سمح له بالكشف عن عجز رأي المحكمة عن إدراك خصوصية وضعية الصحراء وروابطها مع الدولة المغربية (ص: 312).
تاريخيا شكلت الأقاليم الصحراوية، جزء لا يتجزأ من المغرب، لاعتبارات عدة، أهمها: الاعتبارات التاريخية (فالأسر الحاكمة بالمغرب مارست سيادتها على الصحراء، بل إن بعضها ينحدر من الصحراء)، والقانونية (المعاهدات الدولية تعترف بسيادة المغرب على تراب الصحراء) وإداريا ودينيا(قرارات تعيين إدارية للقياد والشيوخ والزعماء الدينيين من طرف السلطان، وثائق بيعة، وتنظيم الصلاة باسم السلطان..) وسوسيو-ثقافية (الروابط بين القبائل، والهجرات، والانصهار الاثني، والثقافة العالمة..)، والاقتصادية (تبادلات تجارية) (ص: 212)..كما أتاحت خلفية الباحث السوسيو-أنثروبولوجية والتاريخية إبراز الدلالات الحقيقية لثنائية بلاد المخزن وبلاد السيبا، ضدا على الدلالات التي ترسخت في الأدبيات السوسيولوجية الاستعمارية، والتي كانت وراء اسقاط محكمة العدل الدولية لمفهوم الدولة-الأمة، كما تبلور في الفلسفة السياسية وفقه القانون الغربيين، على مفهوم الدولة المغربية ذات المرجعية الدينية، التي لا يمكن الفصل فيها بين الروابط القانونية والروابط القانونية للسيادة(ص: 312).
فمحكمة العدل الدولية، لم تنتبه للاستمرارية الجغرافية والإثنية والثقافية القائمة بين المغرب المحرر، وبين التراب الصحراوي الذي ما يزال قابعا تحت الاحتلال الاسباني، بل والذي صار مسرحالتحريف الوقائع المحلية وتزييف حقائق التاريخ والجغرافيا والاجتماع، من طرف القوة المستعمرة،بغاية خلق شروط تستجيب لمصالحها.
وكما أكد عبد الله العروي، فلو وجد مجتمع متجانس، وشعب واع بخصوصيته، في الحدود الترابية للصحراء، فسيكون قادرا على فرض نفسه منذ زمن بعيد، على القوى الاستعمارية، كما على حكام البلدان المجاورة. والحال أن ذلك غير صحيح، ويتناقض معادعاء الولادة العفوية لشعب، بل ودولة في غضون سنتين (1973-1975) . وكما لاحظ الباحث بوبريك وعن حق، ففي الوقت الذي لم يصحح التحرر الجزئي للمغرب، أخطاء الاستعمارين الفرنسي والاسباني، لم تنصف المحكمة الدولية المغرب تماما، لأنها لم تستعن كما يجب بخبراء في فقه القانون الإسلامي وفي تاريخ وأنثروبولوجيا وجغرافيا المجال الصحراوي(ص: 313)، من أجل استكناه زخم الوثائق والخرائط والعقود ومختلف الشواهد المقدمة من طرف المغرب، أو تلك المقدمة من طرف اسبانيا وموريتانيا (ص: 317).والنتيجة هي أن رأي محكمة العدل الدولية، بدلا من مساعدة الأمم المتحدة على حسم ملف الصحراء، لم يعمل سوى على وضعها في مأزق قانوني، ما تزال إلى اليوم تحاول الخروج منه (ص: 323).
الجزائر واستئناف المشروع الاستعماري في الصحراء
أنشأت اسبانيا، في خريف 1974، حزب الاتحاد الوطني الصحراوي، ووضعت على رأسه خليهنا ولد الرشيد، كما حاولت أن تستقطب إلى هذا التنظيم الحزبي النخب الصحراوية الشابة، التي لا تتوافق مع شيوخ مجلس إقليم أو مقاطعة الصحراء، الذي يرأسه خطري ولد سعيد الجماني. لكن التحاق قيادات مجلس إقليم الصحراءبالمغرب، وتجديدهم البيعة للملك، دفعها إلى تبني استراتيجية جديدة، من خلال إيجاد توافق مع جبهة البوليزاريو، واقناعها بالانضمام والتحالف مع صنيعتيها مجلس الإقليم وحزب الاتحاد الوطني الصحراوي. وهكذا، غيرت اسبانيا موقفها تجاه البوليزاريو (ص: 294)، انطلاقا من ماي 1975، فصارت بالنسبة لها حركة، يتعين التفاوض معها من أجل التوصل إلى اتفاق يضمن استقلال الصحراء، ويحافظ في الآن نفسه على مصالح اسبانيا (ص: 295)، خصوصا وأن البوليزاريو كان يرفض التفاوض مع التنظيمات التي خلقتها اسبانيا في الصحراء،ويقدم نفسه بالتالي وكأنه الممثل الوحيد ل «الشعب الصحراوي”(ص: 299).والواقع أن رهان اسبانيا على البوليزاريو لمواجهة مطالب المغرب، كان يتقاطع مع حسابات الجزائر، التي ساعدت على تأسيس الحركة، كما دعمتها سياسيا وعسكريا ودبلوماسيا(ص: 300).
فعلى المستوى المحلي، كان هناك تنسيق حثيث بين الضباط الجزائريين في تندوف والضباط الاسبان في الصحراء، تحت إشراف الحاكم العام الاسباني، بغاية تيسير دخول عناصر البوليزاريو المتواجدة في تندوف إلى تراب الصحراء، لتسلم السلطة (ص: 302). غير أن المغرب، بفضل القرار الحكيم للملك الحسن الثاني، أعلن عن تنظيم المسيرة الخضراء في 16 أكتوبر 1975.
وأمام هذا الإصرار المغربي على استرجاع صحرائه، بدأت مفاوضات سرية بينه وبين اسبانيا حول الصحراء في 24 أكتوبر 1975 (ص: 305)، أفضت إلى توقيع اتفاق بينهما يوم 14 نونبر 1975 ،”اتفاق مدريد”، الذي وضع حدا لتسعين سنة من الاحتلال، ولمسلسل طويل من التلكؤ والمناورات الرامية إلى عرقلة عودة الصحراء إلى أحضان المغرب(ص: 331).
لكن بالمقابل شنت جبهة البوليزاريو، مدعومة بالجيش الجزائري، هجوما عسكريا على المغرب في دجنبر 1975، من أجل عرقلة جهود المغرب الساعية لحسم ملف الصحراء، كما قامت عناصر البوليزاريو بتهجير قسري لساكنة الصحراء، عن طريق نشر دعايات كاذبة عن “فظاعات” ارتكبها ما سمته ” المحتل المغربي”. وقد جندت البوليزاريو شاحنات عسكرية جزائرية لنقل الصحراويين المهجرين قسرا إلى مخيمات تندوف في ظروف صعبة، لينضافوا إلى مرتزقة قادمين من الدول المجاورة، بهدف تشكيل “شعب من اللاجئين” (ص: 333).
ففي الوقت الذي أدركت اسبانيا فشل مشروعها بشأن اختراع “الشعب الصحراوي” وإنشاء دولة مستقلة في الصحراء، استأنفت الجزائر هذا المشروع الاستعماري لحسابها الخاص (ص: 351)، فانخرطت في تحالفاتها مع خصوم المغرب، وفي الدعم العسكري والدبلوماسي والسياسيلمشروع “الجمهورية العربية الصحراوية” (ص: 353). وكما أوضح الباحث، فإن الجزائر بإمعانها في عرقلة تحرر الصحراء واندماجها مع وطنها الأم(المغرب)، لعبت دور القوة الاستعمارية (ص: 350) التي بنت موقفها منذ 1973، على الأقل، على جملة من التناقضات: فهي في صراعها مع المستعمر الفرنسي اعترضت على أطروحة “أرض الصحراء الجزائرية، باعتبارها أرضا بدون مالك” ، في حين دافعت عن نفس الأطروحة بالنسبة للصحراء المغربية، كما تحالفت مع اسبانيا المستعمرة، اسبانيا فرانكو، ضد مصلحة المغرب وسعيه لاستكمال وحدته الترابية(ص: 348)، رغم ما بذله من تضحيات من أجل استقلالها، وما قدمه من تنازلات(تندوف) (ص: 284).
خاتمة
يمكن القول في ختام هذه الرحلة الاستكشافية الطويلة لتحولات “مسألة الصحراء”، التي امتدت منذ النصف الثاني من القرن 19، وإلى حدود منتصف سبعينيات القرن العشرين، أن الباحث رحال بوبريك استنطق كما هائلا من الأدبيات والوثائق التاريخية، المستقاه من أرشيف الدول الاستعمارية الرئيسية، التي لها علاقة بهذه المسألة، واستطاع أن يستخلص من دراسته جملة من النتائج، لعل أبرزها: إن “الصحراء الغربية” هي اختراع استعماري، وأن الفصل خرائطيا بين الصحراء وامتدادها التاريخي والاجتماعي والثقافي بالمغرب، لا يستند إلى معطيات التاريخ الموضوعية، ولا يستحضر الحقائق السياسية والأنثروبولوجية للمنطقة، بقدر ما يعبر عن مصالح القوى الاستعمارية المتنافسة عليها.
وكما أكد محمد الشرقاوي، فالثقافة والممارسات الدينية لساكنة الصحراء، متجذرة في الحضارة العربية-الأمازيغية، المميزة للمغرب منذ قرون عديدة، لهذا فإن تاريخ المغرب بدون الصحراء غير قابل للفهم، والصحراء بدون المغرب ليست سوى قفر .كما استنتج الباحث بأن مسألة الصحراء هي مسألة استكمال الوحدة الترابية للبلد وليست تحريرا من الاستعمار لمجال ترابي مستقل(ص: 359).
وأبرز الباحث أيضا بأن مشروع اسبانيا القاضي بخلق دولة مستقلة في الصحراء، عبر تزييف الوقائع، وادعاء وجود “شعور وطني” و”شعب صحراوي” فوق ما تسميه “الصحراء الغربية”، مني بفشل ذريع، بفضل نضال جيش التحرير في الصحراء، وإصرار الدولة المغربية ويقظة قبائل الصحراء والشعب المغربي برمته. كما أظهر الباحث بأن ما فشلت في تحقيقه اسبانيا وفرنسا، احتضنته الجزائر وصنيعتها “البوليزاريو”، ورعته بكل أشكال الدعم العسكري والديبلوماسي والسياسي (ص: 360).
ونشير في الأخير، إلى أن الحقائق التي يكشف عنها الكتاب، تغني فهمنا لتاريخ المغرب، بل وتدعونا إلى مراجعة الكثير من معطيات هذا التاريخ، لا سيما ما يتعلق بمسألة الصحراء.
*دكتورة في علم الاجتماع