2024 © - أشكاين جميع الحقوق محفوظة - [email protected]
بلاغ الاستثمار الحكومي: الأرقام تتكرر… لكن الأسئلة الحقيقية تظل معلقة

د. إدريس الفينة
مرة أخرى، يخرج البلاغ الرسمي للجنة الوطنية للاستثمارات ليعلن حصيلة جديدة من المشاريع المصادق عليها، وهذه المرة من خلال الدورة الثامنة التي عقدت في الرباط بتاريخ 26 يونيو 2025. رئيس الحكومة، عزيز أخنوش، ترأس اللقاء الذي أسفر عن المصادقة على 47 مشروعًا بغلاف مالي بلغ 51 مليار درهم، مع وعود بإحداث حوالي 17 ألف منصب شغل. للوهلة الأولى، يبدو أننا أمام دينامية استثمارية قوية، تتسق مع الخطاب التنموي الجديد الذي تروّج له الحكومة، وتتماشى مع توجهات ميثاق الاستثمار الجديد الذي دخل حيز التنفيذ منذ مارس 2023. غير أن القراءة المتأنية للبلاغ، والمقارنة مع بلاغات سابقة مماثلة، تكشف عن استمرار انحباس السياسة الاستثمارية في المغرب داخل منطق الإنجاز البلاغي أكثر من الفعل الاقتصادي الملموس والآثار الرقمية الحقيقية سواء بخصوص معدل البطالة او حجم الاستثمارات .
بلاغات اللجنة الوطنية للاستثمارات باتت تسير على نمط واحد منذ إطلاق أولى دوراتها: قائمة مشاريع، أرقام مالية ضخمة، ووعود تشغيلية مغرية، لكنها تخلو في كل مرة من أي تتبع حقيقي لما تم تنفيذه فعليًا من هذه المشاريع خلال الدورات الموالية. بلاغ الدورة الخامسة تحدث مثلاً عن 76 مليار درهم، والسادسة عن 31 مليارًا، فيما يقدم بلاغ الدورة الثامنة رقمًا أقل من حيث القيمة الإجمالية، لكن بعدد أكبر من المشاريع. هذا التباين، بدل أن يكون مؤشراً على مرونة السياسات، يعكس غياب رؤية تقييمية صارمة ومعلنة. ما لا تقوله البلاغات هو الأهم: كم من المشاريع المعلن عنها وصلت إلى مرحلة الإنجاز؟ كم منها توقف لأسباب تمويلية، إدارية، أو بسبب غياب شروط التنفيذ الميداني؟ لا وجود لأي حصيلة منشورة، ولا لأي تقرير مرحلي، ولا حتى لجدول زمني واضح يربط المشاريع المصادق عليها بآجال الإنجاز الفعلية. خصوصا ان من يتقدم اليوم لهذه اللحنة من مستثمرين يكون هدفهم الاول الوصول للدهم العمومي الذي يوزع بسخاء بعيدا عن مراقبة المجلس الأعلى للحسابات من ان تم خلق هذه اللجنة.
المثير أيضاً هو أن القطاعات التي تشملها المشاريع لا تتغير تقريبًا من دورة لأخرى: صناعة السيارات، ترحيل الخدمات، السياحة، الطاقات، والصناعة الغذائية. نفس التكرار، ونفس الأولويات، وكأن المغرب لا يتطور ولا يُدخل قطاعات جديدة ولا يستفيد من التحولات العالمية. بل الأكثر من ذلك، فإن تمركز هذه الاستثمارات في قطاعات تصديرية تقليدية لم يُصحب بسياسات موازية تضمن انتقالًا حقيقيًا إلى اقتصاد الابتكار أو المعرفة، بل يكرس نمطاً إنتاجياً يرتكز على التجميع واليد العاملة الرخيصة، دون استدامة حقيقية للقيمة المضافة المحلية.
من ناحية التوزيع المجالي، يسجل البلاغ توسعاً نسبياً نحو أقاليم أقل استفادة في السابق، مثل بوجدور، وزان، والرشيدية، وهو ما يُفترض أن يكون مؤشراً على إرادة لتحقيق العدالة المجالية. غير أن البلاغ يقدّم هذا التوزيع بشكل عددي لا يُظهر الحجم الحقيقي لكل مشروع أو نسبته من الغلاف المالي العام. وهنا يطرح السؤال الجوهري: هل هي مشاريع رمزية أم فعلية؟ وهل يُراد فعلاً دمج هذه الأقاليم في الخريطة الصناعية، أم فقط تقديم صورة متوازنة في البلاغ السياسي؟
التحول المعلن في هذا البلاغ – وهو نقل صلاحيات المصادقة على المشاريع الأقل من 250 مليون درهم إلى الجهات – يبدو على الورق خطوة في اتجاه اللاتمركز وتفعيل الجهوية المتقدمة، لكنه يأتي دون أي إشارة إلى مدى جاهزية الجهات. هل لديها الإمكانيات البشرية والتقنية لتقييم المشاريع؟ هل توجد صناديق استثمار جهوية فاعلة؟ ما مدى التنسيق بين المصالح المركزية والمجالس الجهوية في تحديد الأولويات؟ هذه الأسئلة تظل مغيبة في بلاغ يبدو أقرب إلى تسويق قرار سياسي منه إلى وضع خريطة طريق تنفيذية واضحة.
النقطة الأكثر ضعفًا في البلاغ، كما في سابقاته، هي غياب الشفافية حول هوية المستثمرين، طبيعة وحجم الدعم العمومي المقدم، شروط الاستفادة، ونسبة التمويل الخاص مقابل العام. هذه المعطيات،يجب ان، تُعلن بشفافية وتُدرج في تقارير مفصلة، حتى يُتاح للرأي العام، والمتابعين وباقي الفاعلين المؤسساتيين أن يمارسوا أدوارهم الرقابية. أما في النموذج الحالي، فالمعلومة الاستثمارية تُختزل في أرقام عامة تفتقر للسياق، وبلاغات تحتفي بالكم دون أن تُظهر النوع.
لا أحد يُنكر أن الاستثمار هو قاطرة ضرورية لأي تحول اقتصادي، ولا جدال في أن المغرب يحتاج إلى رفع منسوب الاستثمارات الخاصة، وتقليص فجوة التشغيل، وتعزيز جاذبية الجهات المهمشة. لكن الاستثمار لا يُقاس فقط بعدد المشاريع المصادق عليها، بل بقدرتها على تغيير الواقع المعيشي، خلق القيمة، وترسيخ مناخ من الثقة المؤسساتية. البلاغات المتكررة دون أثر ملموس تُفقد المواطن الثقة، وتُضعف الجاذبية الداخلية للاستثمار قبل الخارجية، وتحوّل ميثاق الاستثمار من وثيقة استراتيجية إلى إطار رمزي للاستهلاك الإعلامي.
لا نحتاج إلى بلاغ جديد بأرقام أكبر، بل نحتاج إلى تقرير صادق، ومفصل يُخبرنا ماذا تحقق فعلاً، وماذا لم يتحقق، ولماذا. وحده ذلك هو المؤشر الحقيقي على أن المغرب يتحول فعلاً إلى دولة استثمارية حديثة، لا حكومة بلاغات.
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبر بالضرورة عن رأي آشكاين وإنما عن رأي صاحبها.