لماذا وإلى أين ؟

الممارسات الفضلى للقضاة في التشريع: بين نبض الضمير وإشراقات التجارب المقارنة

اسماعيل بوكيلي مخوخي*

في رحاب العدالة، حيث تنطق الكلمات بمهابة الحق، ويُخيط القضاة ثوب القانون بخيط الحكمة والرزانة، تتجلّى مسؤولية سامقة لا يضاهيها في رِفعتها إلا صفاء النيّة وسموّ الغاية. ذلك أن التشريع، وإن بدا في ظاهره من اختصاص السلطة المُنتخبة، فهو في جوهره ينبض من فهم القاضي وتفسيره وتفعيله للنصوص، فالقضاء ليس صدىً للمداد بل ضمير للعباد.

وللقضاة في محراب التشريع مقامات، فهم ليسوا مجرّد منفذين للنصوص، بل حملة نورٍ في دروب التأويل، وصناع اجتهاد يلبّي تطوّر المجتمع ويحقق مقاصد العدالة. فمن رحم الممارسة القضائية، تولد قواعد، وتنبجس اجتهادات، وتصاغ سوابق، تكتسي صفة الإلزام الأدبي والقانوني، فتكون بذلك جسراً يربط بين النص الجامد والحياة النابضة.

أولاً: بين المجاز والتجربة: القاضي مشرّعٌ في ظل الصمت التشريعي

حين يُمسك القاضي بميزان العدالة، فهو لا يزن فقط الخصومات، بل يزن إرث الأمة وكرامة الإنسان. وكثيراً ما يجد نفسه أمام فراغ تشريعي، أو نصوصٍ عتيقة لم تعد تفي بمتطلبات العصر، فينبري برويّة الناسك، ليملأ ذلك الفراغ باجتهاد مشبعٍ بروح الدستور ومقاصد الشريعة ومبادئ العدالة الكونية.

فالقاضي هنا ليس متجاوزًا لدوره، بل هو مُلبٍ لنداء القانون في عمقه لا في حرفه. قال أحد الفقهاء الفرنسيين: “حينما يصمت القانون، يبدأ القاضي في الحديث.”، وهذا الصوت يجب أن يكون مرتكزًا على مبادئ الإنصاف، التجرد، والعقلانية.

وفي تذييل المجاز، نقول:

إذا ضاع نور النص فالعدل منبعُهُ * قضاةٌ إذا قالوا أضاءوا المسالكَا

بفكرٍ سديدٍ كالخليلِ مسدَّدٍ * يروْنَ السكوتَ عن الحقّ هالِكَا

ثانياً: تجارب مقارنة: حين تكون الممارسة القضائية رافعة للتشريع

في فرنسا، حيث تطور القضاء الإداري وبلغ قمة النضج، نلاحظ أن مجلس الدولة أصبح مشاركًا فعليًا في صياغة القوانين، عبر إبداء الرأي المسبق على مشاريع النصوص القانونية، وهو ما جعل التجربة الفرنسية نموذجًا في الربط بين القضاء والتشريع في انسجام لا يُربك ميزان السلط بل يزكّيه.

أما في ألمانيا، فقد تحوّل القضاء الدستوري إلى مشرّع إيجابي، حينما يُلزم البرلمان بإصدار قوانين في مجالات بعينها تحت طائلة عدم دستورية الصمت التشريعي. وفي الولايات المتحدة، فإن المحكمة العليا تُعَدُّ مشرّعًا خفيًا، حين تفسّر الدستور بطريقة تؤدي إلى سن أعراف قانونية تترسّخ في الواقع العملي.

وبلدنا المغرب ليس استثناءً من هذا المدّ؛ فقد أضحت محكمة النقض عبر قراراتها موجّهة للمشرّع، حيث صدرت تشريعات جديدة بناء على ملاحظات قضائية متواترة، كما أن الاجتهادات القضائية باتت تُدَرَّسُ في الجامعات وتُعتَمد في مذكرات مشاريع القوانين.

وتحت ظل الحجاز، نكتب:

في الديار قُضاةٌ همُ الروحُ في الشّرعِ * إذا جفَّ ساقُ النصّ كانوا المشرع

ثالثاً: سِمات الممارسة الفضلى: قاضٍ يُنصت للضمير ويقرأ المستقبل

ليست كل ممارسة تشريعية للقاضي راشدة، فالمعيار ليس في الاجتهاد ذاته، بل في شروطه وضوابطه: النزاهة الفكرية، التجرّد من الأهواء، الالتزام بروح الدستور، واليقظة لنبض المجتمع.

ومن الممارسات الفضلى التي رسّختها التجربة القضائية المقارنة:

الاستئناس بالسوابق القضائية الوطنية والدولية.

الاحتكام للمعايير الدولية لحقوق الإنسان.

استلهام فلسفة التشريع وليس شكله.

الإسهام في صياغة تقارير قضائية تحليلية تُرفَع إلى الجهات التشريعية.

تبنّي التكوين المستمر والانفتاح على المدارس المقارنة. والقاضي، إذا ما أخلص لنفسه وصدح بالحق، صار مع الزمن مشرّع أمة لا مُجرد مفكّك لنصوصها.

ونقول في قافية سامقة:

قاضٍ يزنُ العدلَ لا بالهوى * ولكنْ بميزانِ عقلٍ وشرعِ

إذا ضاق نصٌّ، تنفّس صدرُهُ * ووسّع معناهُ بالعزمِ والوسعِ

فطوبى لقاضٍ إذا قال أنصفا * وكانتْ حروفُهُ سُبحاتِ النجعِ

رابعاً: نحو قضاء مشرّع بالممارسة: أدوار مستقبلية

إننا اليوم في مفترق طرق، حيث يفرض التحوّل الرقمي، وتغيّر القيم المجتمعية، وتطوّر العلوم، أدوارًا جديدة للقاضي. فليس دوره فقط حل المنازعات، بل المساهمة في صياغة المستقبل. يجب تمكين القضاة من عضوية اللجان المكلفة بتعديل القوانين، ومنحهم الحق في إبداء الرأي في مشاريع النصوص ذات الصلة بالمحاكم، وتعزيز البحث القضائي كمصدر مستقل للتشريع.

كما ينبغي تمتين التعاون بين الجمعيات المهنية للقضاة ومراكز الدراسات التشريعية، لإعداد تقارير سنوية تؤطر الاجتهاد القضائي وتقترح التعديلات الملائمة، مع الالتزام بقيم الشفافية، والمسؤولية، والاستقلالية.

ونختم الحجاز بقولٍ بليغٍ:

قُضاةٌ إذا ما اعتلَفوا صاغوا نهجنا * بأحكامهمْ يبنونَ للحقّ شارِعَا

فلا المشرعُ يغني عن عيونِ بصيرهمْ * ولا النصُّ يُجدي دون فكرٍ يُصانِعَا

خاتمة

هكذا يتبيّن لنا أن القاضي، في ممارسة وظيفته، يعلو فوق الحرف إلى المعنى، ومن التفسير إلى التأسيس، ومن الصمت إلى الصياغة. فالممارسات الفضلى للسادة القضاة في التشريع ليست خروجا عن الدور، بل وفاء له. هي صورة سامقة للعدالة حين يتجلى نورها في عقل وقلب ولسان من وهب نفسه لخدمة الحق في محراب القضاء.

وختامًا نقول:

فيا قاضيَ العدلِ امضِ في الدربِ واثقًا * فإنّك للميزانِ عمادُ ورافِعَا

كتبتَ بحبرِ الفكرِ دستورَ أمةٍ * فبوركتَ مِدادًا… وبوركتَ صانِعَا

*عضو المجلس الوطني لنادي قضاة المغرب.

إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبر بالضرورة عن رأي آشكاين وإنما عن رأي صاحبها

احصل على تحديثات فورية مباشرة على جهازك ، اشترك الآن

من شروط النشر : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments

يستخدم موقع الويب هذا ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

0
أضف تعليقكx
()
x