2024 © - أشكاين جميع الحقوق محفوظة - [email protected]

حين دعا أمير المؤمنين، الملك محمد السادس، في خطوة غير مسبوقة، المجلس العلمي الأعلى إلى تخليد الذكرى الخامسة عشرة بعد الأربعمائة من ميلاد خير البرية، لم تكن الدعوة مجرد إحياء تقليدي لذكرى المولد النبوي الشريف، بل كانت نداء بليغا للرجوع إلى الأصل، إلى المعنى، إلى البوصلة.
وقد وجدتني، كما كثيرون، أتساءل: كيف نخلد هذه الذكرى العظيمة، لا كشكل، بل كجوهر؟
ما معنى أن نحتفل بمولد النبي محمد ﷺ ونحن نعيش في زمن القيم المتآكلة، والعنف المتنكر في ثياب الدين، والتفكك الذي يهدد الإنسان من الداخل؟
حين تأملت في سيرة النبي، أدركت أن البعض، عن قصد أو جهل، اختزلها في الغزوات والفتوحات والسيوف. لكن الحقيقة أن تلك الحروب لم تكن هدفا في حد ذاتها. كانت وسيلة اضطرارية، لحماية الرسالة، لحماية المؤمنين ولحماية حرية الإيمان.
لم يكن محمد ﷺ “رسول حرب”، بل نبي سلام قاتل من أجل ألا يُقاتَل بعده أحد. كانت حروبه دفاعية، مؤقتة، محددة بسياقها. وكانت غايته، دائما، بناء مجتمع قيمي، أخلاقي، متراحم، متماسك.
والدليل على ذلك ما قاله بنفسه، في خطبة الوداع، قبل أن يغادر الدنيا بسلام، حين نزل قول الله تعالى:
“اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا.”
كأن لسان حاله يقول: انتهت المعركة.. وبدأ عهد الرسالة الخالدة.
فلماذا لا نرى من محمد إلا السيف، ولا نرى منه اليد التي كانت تمسح على رأس اليتيم؟
لماذا نورث أبناءنا غبار المعارك، ولا نورثهم نور القيم التي قاتل من أجلها؟
لماذا يصر البعض على استنساخ الحروب، بدل أن يورثوا الرحمة، والعدل، والحياء، والتسامح، والمحبة؟
الاحتفال الحقيقي بهذه الذكرى، هو في أن نحمل راية إحياء القيم، لا راية تكرار الصراع.
أن ننقل للأجيال القادمة محمد الإنسان، محمد المربي، محمد الرحمة المهداة، لا محمد المحارب المفترض.
أن نعيد الإسلام إلى مكانه الطبيعي: مشروع بناء لا مشروع هدم، قوة أخلاقية لا سلطة سياسية، دين يتمم مكارم الأخلاق، لا يختزل في معارك الماضي.
دعوة أمير المؤمنين لم تكن دعوة بروتوكول، بل كانت تذكيرا استراتيجيا بأن الإسلام لا يختزل في شعائر، بل في قيم… وأن محمدا ﷺ ليس مجرد سيرة تروى، بل رسالة تتجدد.
فلنخلد الذكرى إذا، لا بتكثير القصائد والمدائح فقط، بل بتجديد العهد مع القيم التي جاء بها النبي.
فلنحيي سنته في التربية، في الرحمة، في العدل، في المساوات، في الحكمة، في الحياء وفي بناء الإنسان قبل أي شيء.
هكذا نحيي المولد.
وهكذا نعيد محمدا ﷺ إلى واقعنا.. لا كرمز تاريخي، بل كقدوة دائمة.