2024 © - أشكاين جميع الحقوق محفوظة - [email protected]
عبد الوهاب الفيعا*
لا يأتي تتويج المنتخب المغربي لأقل من 20 سنة بكأس العالم 2025 بوصفه حدثًا رياضيًا صرفًا، بل لحظة وعي جماعي. في تسعين دقيقة من الكرة، تتكثّف سنوات من العمل الصامت، وتنعكس ملامح مجتمع يتعلّم كيف يحوّل الحلم إلى مشروع، والمشروع إلى إنجاز. هنا، تتجاوز الكرة حدود الملعب لتصبح لغة مشتركة بين الأجيال والجهات، ومنصة رمزية لإعادة تعريف الممكن.
رمزية البطولات العالمية: أيقونة للهوية والثقة
في زمن الصورة السريعة والسرديات المتنافسة، تملك البطولات العالمية قدرة نادرة على صناعة إجماع إيجابي. تتوحد الأعلام، وتتقاطع الوجوه حول معنى بسيط لكنه عميق:نحن نستطيع.
هذا “الانتصار السردي” (أي القصة التي يرويها المجتمع عن نفسه) يعيد توزيع الثقة داخل المجتمع: يُقنع الشباب بأن مكانهم في الصفّ الأول ممكن، ويعطي صانعي القرار دليلًا ملموسًا على أن الاستثمار في الإنسان ليس رفاهًا بل استراتيجية فاعلة. كما يرسّخ صورة المغرب عالميًا بوصفه بلدًا يصنع المواهب ويقدّم سردية نجاح قابلة للتكرار، ما يسهم في القوة الناعمة للدولة ويعيد تأطير حضورها دوليًا.
من الرمز إلى الأثر: كيف تدفع البطولات عجلة التنمية؟
رأسمال اجتماعي:الجماهير التي تتعلّم التشجيع المنضبط واحترام الخصم وقبول النتائج تُراكم سلوكًا مدنيًا يُترجم لاحقًا في المدرسة والجامعة وسوق العمل.
رأسمال بشري: منظومات التكوين، والطب الرياضي، وعلم البيانات في الأداء، والتدريب على الذكاء العاطفي والذهني، كلها علوم قابلة للنقل إلى قطاعات أخرى.
رأسمال اقتصادي: نجاح رياضي كبير يخلق موجات استهلاك واستثمار في الإعلام، والسياحة، والرعايات، وصناعات المحتوى، مع فرص عمل تمتد من الأنشطة الإبداعية إلى الخدمات اللوجستية.
رأسمال حضري: البنية التحتية الرياضية الجيدة (ملاعب أحياء، مراكز تكوين، فضاءات مفتوحة) تُحسّن جودة العيش، وتقلل فجوات المجال بين المركز والهوامش عندما تُوزّع بعدالة.
دروس عملية من تتويجU20:منظومة لا مباراة واحدة
اللقب ليس مفاجأة بل نتيجة مسار يربط الكشافين، والأكاديميات، والمدارس، والمراكز الجهوية، مع معايير واضحة للانتقاء والتدرج. حكامة الأداء عبر مؤشرات قياس في كل محطة- من أحمال التدريب إلى الصحة الذهنية- تجعل القرار قريبًا من العلم وبعيدًا عن الحدس وحده. أما ثقافة الفريق من انضباط وتبادل أدوار وثقة في البدلاء، فليست قيمًا رياضية فقط؛ إنها نموذج إداري يمكن نسخه في الشركات والإدارات العمومية.
الرياضة مرآة المنظومة: لا تنمية بدون تعليم وصحة وعدالة
لا يمكن فصل الإنجاز الرياضي عن جودة المنظومات الأساسية:
التعليم: اللاعب الذكي تكتيكيًا هو ابن مدرسة تُعلّم التفكير النقدي وحل المشكلات. الاستثمار في التعليم الجيد- من الابتدائي إلى الجامعي- يصنع أجيالًا قادرة على الإبداع في الملعب وخارجه.
الصحة: الأداء الرياضي العالي يبدأ من التغذية السليمة والرعاية الصحية المبكرة. طفل يعاني من سوء التغذية لن يصل إلى إمكاناته الكاملة. الاستثمار في الصحة العمومية- خاصة في المناطق النائية – يوسّع قاعدة المواهب.
العدالة الاجتماعية والمجالية: كم من موهبة ضاعت لأن ملعب قريتها مهمل، أو لأن أسرتها لا تستطيع تحمّل تكاليف الانتقال للتدريب؟ العدالة في توزيع البنيات التحتية والولوج المتساوي للفرص ليست شعارات، بل شروط موضوعية لاكتشاف المواهب أينما كانت.
الخلاصة: الرياضة ليست بديلًا عن التنمية الشاملة، بل مؤشر عليها ومحفّز لها. كل درهم يُستثمر في التعليم والصحة والعدالة هو استثمار غير مباشر في الجيل القادم من الأبطال- رياضيين كانوا أو مهندسين أو فنانين.
ماذا بعد الاحتفالات؟ خارطة طريق لتحويل الإنجاز إلى سياسة عامة
أولًا – تعميم قاعدة الهرم: برنامج وطني لملاعب القرب وصيانة دورية شفافة، مع شراكات بين المدارس والأندية لدمج الساعات الرياضية الممنهجة، وتكوين المدربين على علوم التدريب الحديثة.
ثانيًا – ربط الرياضة بالتعليم:منح دراسية رياضية-أكاديمية، ومسارات مهنية مزدوجة، ومراكز توجيه للانتقال السلس من الهواية إلى الاحتراف.
ثالثًا – اقتصاد رياضي مستدام: حوافز ضريبية للرعايات المحلية، وحضانات لمشاريع التكنولوجيا الرياضية، ودعم شركات ناشئة في تحليل البيانات والتغذية والتأهيل.
رابعًا – عدالة مجالية وجندرية: خارطة تجهيزات تُراعي الفوارق بين الجهات، مع تمكين كرة القدم النسوية وباقي الرياضات الجماعية والفردية.
خامسًا – حكامة وشفافية: نشر تقارير سنوية عن الإنفاق والأثر، وتفعيل آليات مساءلة تشاركية مع المجتمع المدني والإعلام.
سادسًا – استثمار القوة الناعمة: تسويق دولي لقصص نجوم الأكاديميات، وربطها بالدبلوماسية الثقافية والسياحة الرياضية.
الأثر النفسي والثقافي: صناعة معنى جديد للنجاح
حين يرى طفل من قرية بعيدة شابًا يشبهه يرفع كأس العالم، تتغيّر معادلة طموحه. تصبح المعايير العالية مألوفة، ويغدو الانضباط فضيلة يومية لا استثناءً موسميًا. يتحول النجاح من حظ فردي إلى نتيجة منظومة، ومن صورة براقة إلى قصة عمل طويل. وهنا يولد أهم مكاسب التنمية: ثقافة تؤمن بأن الأفضل ممكن دائمًا.
من الفخر إلى الاستدامة
تتويج شباب المغرب ليس فاصلة في سطر عابر، بل نقطة انطلاق لباراديغم تنموي يضع الإنسان في المركز. البطولات العالمية تمنحنا الرمز، والسياسات الذكية تمنحنا الأثر. بين الاثنين، تقع مسؤوليتنا الجماعية: أن نحوّل الفرح إلى مؤسسة، والحلم إلى برنامج، واللقب إلى عادة.
يحيا المغرب الذي يصنع مواهبه عبر مدرسة تُحسن رعايتها – من الملعب إلى المجتمع.
*باحث في الفلسفة وقضايا حقوق الإنسان من المغرب
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبر بالضرورة عن رأي آشكاين وإنما عن رأي صاحبها