2024 © - أشكاين جميع الحقوق محفوظة - [email protected]
ما معنى أن تجمع واشنطن بين الوساطة وحمل القلم
لحسن الجيت
المقاربة الأمريكية في عهد الرئيس دونالد ترامب تقوم أساساً على كون واشنطن تنحو، كما يبدو، في اتجاه جعل عالمنا خالياً من الصراعات والحروب، بما فيها النزاع المفتعل في منطقتنا المغاربية. ويبدو أن الجانب الأمريكي قد اعتمد خطة ذكية لمعالجة الأزمة المستفحلة بين المغرب والجزائر التي انطلقت منذ ستينيات القرن الماضي وازدادت تأزماً من الجانب الجزائري بعد استرجاع المغرب لأقاليمه الصحراوية من المستعمر الإسباني.
الخطة الأمريكية تعكس إدراكاً ووعياً لدى صانع القرار في واشنطن من حيث درجة فهمه واطلاعه على تراكمات الأزمة المركبة بين المغرب والجزائر، سواء على مستوى العلاقات الثنائية أو على مستوى ما خلَّفه استكمال المغرب لوحدته الترابية من تعقيدات، غير مغربية، جعلت من الأزمة الثنائية أكثر استفحالاً. تلك الخطة بُنيت لتقوم واشنطن بمهمة مزدوجة، أولها أن تكون حاملة للقلم لصياغة قرارات مجلس الأمن بخصوص قضيتنا الوطنية، وثانيها أن تكون وسيطاً بين المغرب والجزائر لإنهاء الأزمة القائمة بينهما والتي أُريد لها أن تشوب مختلف أوجه العلاقات الثنائية، لتنعكس تداعياتها سلباً بخلق حالة من التوتر تتجاوز حدود المنطقة ككل.
الجمع بين المهمتين، أي بين الوساطة وحمل القلم، يتفاعلان مع بعضهما البعض من خلال استخدام ذكي لمخرجات قرارات مجلس الأمن، وآخرها القرار رقم 2797، لخدمة أهداف الوساطة، من قبيل حَمْل طرفي الأزمة على المضي في اتجاه انفراج على المستوى الثنائي، لعله قد يفضي إلى حلحلة النزاع المفتعل بخصوص قضية الصحراء المغربية. وفي سياق ذلك، نلاحظ أن قرار مجلس الأمن الأخير، كما جاء في مخرجاته، حَرَص على أن يجعل من خطة الحكم الذاتي التي اقترحها المغرب عام 2007 نقطة ارتكاز وتحول نوعي في طبيعة الشرعية الدولية، بعد اعتمادها كإطار حاضن لمناقشة أفكار جديدة يُفترض في المبعوث الأممي ستيفان ديميستورا أن يكون أكثر من غيره وأكثر من ذي قبل حرصاً على احترام ذلك الإطار.
وتفاعلاً مع الوسيط الأمريكي، أكد المغرب في شخص جلالة الملك، مباشرة بعد اعتماد القرار الأممي، أن يده ممدودة للأشقاء الجزائريين للذهاب سوياً إلى حوار مفتوح ترعاه واشنطن، وهو ما يتماشى كذلك مع منطوق قرار مجلس الأمن الدولي.
كما أن حامل القلم حَرَص من جانبه على أن يَحْمِل القرار الأممي رسالة لِمَن يَعنيه الأمر، مفادها أنه قد آن الأوان للحسم في أمر هذا النزاع بشكل لا رجعة فيه. ودعا حامل القلم كذلك الأطراف المعنية بالنزاع إلى عدم عرقلة النقاش، أي بتسهيله بين الطرفين الأساسيين. والمقصود في هذا السياق هو الطرف الجزائري الذي جَعَل من هذه القضية كأنها قضية جزائرية، فيما تبقى نواكشوط، قياساً بالجزائر، أبعد من أن تكون هي المُومأ إليها بالإصبع في القرار الأممي. ولذلك، فإن واشنطن تتحاشى أن تضع الجزائر أمام الأمر الواقع من خلال هذا القرار الأممي، وكأن لسان حالها يقول للنظام الجزائري: ما دام يَدّعي أنه ليس طرفاً في هذا النزاع، فعليه إذن أن يأخذ مسافة من الطرفين الرئيسيين ليتناقشا فيما بينهما، بعيداً عن أية وصاية، حول كيفية تنزيل الحكم الذاتي باعتباره الإطار الأكثر قابلية للتطبيق. وبالتالي، عليه، أي النظام الجزائري، في المقابل أن يتعاطى بإيجابية مع الوساطة الأمريكية ليتفرغ لمعالجة أزمته مع المغرب.
يبدو أن النظام الجزائري قد استوعب الرسالة وأدرك أنه هو المُطالب أكثر من غيره بتقديم التسهيلات، وأن مخرجات القرار الأممي تُظهر لنا النظام الجزائري في صورة “كاد المريب أن يقول خذوني”. ولأن الإدارة الأمريكية برئاسة دونالد ترامب تتحاشى أن تضع النظام الجزائري في حرج أكثر من الحرج الذي تضمَّنه القرار 2797، فهي تتفهم الخرجات الإعلامية لبعض المسؤولين الجزائريين الذين يتظاهرون أمام الرأي العام بأن المغرب لم يُحقق على حسابهم النصر المبين. ومن الطبيعي أن يعتمدوا هذا الخطاب أمام شعبهم لأنه ليس من السهل عليهم التستر على ضياع نصف قرن من الزمن وهدر مال قارون من أجل قضية خسروها.
لكن في مقابل ذلك الخطاب المُتعجرف بريش الطاووس المنفوخ، يبدو أن الجانب الجزائري يقول كلاماً مُغايراً في الكواليس، ويختلف تماماً عن اللغة التي يخاطب بها الرأي العام الجزائري. على الأقل، ذلك ما يوحي به كبير مستشاري الرئيس الأمريكي مسعد فارس بوليس الذي يؤكد أن هناك استعداداً للطرفين المغربي والجزائري للتجاوب مع الوساطة الأمريكية، ولربما هناك تقدم ما قد حصل أو يحصل على هذا المسار.
ما حدث ويحدث اليوم وهو ما سيحدث غداً لا يمكن تفسيره إلا بفضل سيرورة تاريخية لا مجال فيها للصدفة ولا للمحاباة. فما يجنيه المغرب من ثمار هو نتاج لسياسات يعود الحساب فيها إلى قرون. فالولايات المتحدة الأمريكية قد استدانت ديناً من المغرب منذ عام 1777 وقد آن الأوان للدول التي لها ذاكرة ولا تتنكر للديون التي هي على عاتقها، ومنها الولايات المتحدة التي كان المغرب أول من اعترف بها في العالم. وكان يوم 31 أكتوبر 2025 هو اليوم الذي سددت فيه الولايات المتحدة دَيْنها إلى المغرب. هذا الدين سَجَّل نقلة نوعية في مسلسل الاعترافات، أي من اعترافات الدول إلى اعترافات الأمم المتحدة بسيادة المغرب على صحرائه. وقد يكون هذا الاعتراف الأممي نِبْراساً لاعترافات أخرى من قبل منظمات قارية كالاتحاد الإفريقي الذي يتعين عليه شطب الكيان الوهمي الذي أُقحم في المنظومة الإفريقية.
ومن كان يُشكك في تدوينة دونالد ترامب التي اعترف فيها بمغربية الصحراء خلال الأيام الأخيرة من ولايته السابقة، عليه الآن أن يقف على حقيقة ما كنا نواجههم به آنذاك. فَهُم كُثر أولئك الذين كانوا يريدون شراً بالمغرب وقالوا في حينها إن الرئيس الأمريكي السابق “جو بايدن” سيلغي هذا الاعتراف، وقد فَعَل “بايدن” كل شيء عدا أن يُعيد النظر في مغربية الصحراء. لم تكن الجزائر وحدها تُطبّل لإلغاء لطالما انتظرته عبثاً، بل هناك من كان يشتغل في الداخل على أجندتها قد راهن هو الآخر على ذلك الإلغاء. وها هم اليوم يُشيدون بدبلوماسية الملك ويُصدرون بلاغات ويُدلون بخطب في البرلمان المغربي كلها ثناء وإشادة بالخيارات الملكية، بعد أن كانوا يُشككون فيها وينتقدون الاتفاق الثلاثي المغربي-الأمريكي-الإسرائيلي. ونقول لهم ولغيرهم مرة أخرى: ما دامت الأرض كروية، فالصحراء ستظل مغربية.
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبر بالضرورة عن رأي “آشكاين” وإنما عن رأي صاحبها
