2024 © - أشكاين جميع الحقوق محفوظة - [email protected]
علي عثمان*
عاد الجدل خلال السنوات الأخيرة حول مستقبل اتفاقية أوتاوا الخاصة بحظر الألغام المضادة للأفراد، خاصة في ظل تبدل موازين القوى وتصاعد النزاعات المسلحة حتى في المناطق التي كانت تُعد مستقرة سابقًا. وفي مؤتمر “إعادة التفكير في اتفاقية أوتاوا 2025” الذي عُقد في العاصمة الكرواتية زغرب، شدد المشاركون على أن التطورات الجيوسياسية والتكنولوجية المتسارعة تفرض إعادة تقييم شاملة لمعاهدة مضى على توقيعها أكثر من 25 عامًا.
اتفاقية إنسانية في عالم يتغيّر
مثّلت اتفاقية أوتاوا عند إطلاقها عام 1997 خطوة إنسانية كبرى، إذ تعهدت عشرات الدول بتدمير مخزونها من الألغام لحماية المدنيين. غير أن مشهد الحروب خلال العقدين الأخيرين تبدّل كثيرًا، ما دفع البعض إلى اعتبار نصوص الاتفاقية غير منسجمة مع واقع النزاعات الحديثة.
وفي عام 2025 أعلنت ست دول — بولندا، فنلندا، لاتفيا، ليتوانيا، إستونيا، وأوكرانيا — انسحابها أو استكمال انسحابها، بحجة أن الاتفاقية باتت تقيد الدول المتضررة بدل حمايتها.
يُذكر أن روسيا والصين والولايات المتحدة لم توقع على الاتفاقية، ما جعل الالتزامات القانونية والمالية تقع على عاتق الدول الأصغر فقط.
ويقول المهندس العسكري الأوكراني يوري هوديمينكو:
“دمرنا أكثر من ثلاثة ملايين لغم. نزعنا سلاحنا بينما عززت دول أخرى قوتها وتحولت لمعتدين. عندما تُقيّد الاتفاقية الضحية وتترك المعتدي بلا التزامات، تغيب العدالة.”
إفريقيا أولًا: إرث ثقيل لا يزال حيًا
لفت ممثلو منظمات إزالة الألغام في إفريقيا إلى أن القارة تحمل واحدًا من أكبر إرث الألغام في العالم، يعود معظمه إلى الحقبة الاستعمارية؛ إذ زرعت فرنسا وحدها نحو 11 مليون لغم في الجزائر، ومليونًا في تونس، و300 ألف في موريتانيا لحماية مواقعها أو لصد المقاومين.
ورغم تصديق باريس على اتفاقية أوتاوا عام 1998، فإن نصوص المعاهدة لا توفر آليات حقيقية لمعالجة هذا الإرث، ما أتاح لفرنسا الإفلات من المسؤولية القانونية، بينما تستمر الألغام بحصد الأرواح وعرقلة التنمية في دول نالت استقلالها منذ عقود.
ويقول صديق غربا شيهو، رئيس اللجنة الوطنية للعمل الإنساني لمكافحة الألغام في نيجيريا:
“في نيجيريا، لا نملك خرائط أو إشارات تحذيرية. الألغام بدائية وتستهدف المدنيين في حياتهم اليومية. مهمتنا أن نعيد للحقول حياتها.”
دمرت نيجيريا أكثر من مليون لغم واحتفظت بكمية محدودة للتدريب، لكنها تشدد على أن الامتثال للاتفاقية غير كافٍ في ظل استمرار الجماعات المسلحة في استخدام الألغام بحرية.
ويضيف العقيد محمدو باهام محمد لغداف من موريتانيا:
“كل لغم يُزال يعني إنقاذ حياة، وإزالة خوف، واستعادة أمل.”
وتسعى موريتانيا لإعلان نفسها خالية من الألغام بين عامي 2028 و2029 رغم صعوبة كشف نماذج الألغام القديمة مثل APID-51.
حياة تحت تهديد الألغام: الحالة الأوكرانية
تفيد بيانات مركز تنسيق مكافحة الألغام في خاركيف بأن نحو 40% من المنطقة ملوث بالألغام المحتملة. ويقول روسلان ميسيونيا:
“أصيب منذ بداية الحرب الروسية 426 شخصًا وقُتل 99. لم يعد الأهالي يشعرون بالأمان حتى في أبسط تفاصيل حياتهم.”
وتضيف النائبة الأوكرانية آنا سكوروهود:
“روسيا، غير الموقعة على الاتفاقية، تزرع الألغام في أكثر من 20% من أراضينا، بينما تُفرض على أوكرانيا قيود تضعف دفاعاتها وتترك لها وحدها عبء التطهير.”
كرواتيا: تجربة طويلة ودروس مستفادة
قدّمت كرواتيا نموذجًا عالميًا في عمليات إزالة الألغام بعد حرب البلقان، بمشاركة أكثر من 40 جهة مختصة، واكتشاف ألغام تعود حتى للحرب العالمية الثانية. ومن المتوقع أن تعلن نفسها خالية من الألغام بحلول 2026 بعد نحو ثلاثة عقود من العمل المكثف.
ويتساءل وزير الدفاع الأسبق لوكا بيبيتش:
“من يتحمل كلفة تطهير أراضٍ زرعتها قوات معتدية؟ وكيف نحاسب الدول غير الموقعة؟ وهل ما زال الحظر الشامل ممكنًا في زمن الحروب الحديثة؟”
مولدوفا: ألغام بقدرات جديدة… واتفاقية قديمة
يشير سيرغي تشيليفنيك، من مركز تدريب التخلص من الذخائر المتفجرة، إلى أن الألغام الحديثة لم تعد ميكانيكية فقط، بل تُفعل عن بُعد، وتُخفى في أشياء مدنية، وتزرع داخل تجمعات مأهولة، مؤكدًا أن الاتفاقية تنظّم أسلحة تنتمي إلى عالم مضى.
ويدعو إلى تشكيل فريق دولي لإعادة تقييم فعالية الاتفاقية وتحديثها.
أذربيجان: استخدام الألغام لمعاقبة المدنيين
يروي حافظ عظيم زاده، وهو ناجٍ من لغم في منطقة أغدام:
“فقدت ساقي بينما كنت أتفقد بئر مياه عام 2021. المنطقة مدنية بالكامل. زُرعت الألغام لقتل السكان.”
وتمنع الألغام نحو مليون لاجئ من العودة إلى قره باغ، فيما تبلغ كلفة التطهير نحو 25 مليار دولار.
“من زرع هذه الألغام لا يواجه أي محاسبة. يجب أن يصبح مبدأ المسؤولية جزءًا من الإصلاح.”
أوروبا: صدمة الانسحابات وعودة الواقعية
أدى انسحاب خمس دول أوروبية من الاتفاقية إلى صدمة داخل القارة التي كانت تطمح لقيادة الجهود العالمية في نزع السلاح الإنساني. ورغم تمسّك رومانيا بالمعاهدة، إلا أن الحرب في أوكرانيا وتزايد التهديدات الروسية جعلتها أكثر تفهمًا لمخاوف جيرانها.
ويقول الصحفي الألماني–الأوكراني بوريس نيميروفسكي:
“الاتفاقية ركيزة إنسانية، لكنها وُضعت قبل ظهور الطائرات المسيّرة والألغام ذاتية التعطيل.”
وتقترح ألمانيا تحديث التعريف القانوني للألغام، وإلزام الدول المعتدية بالمساهمة في تمويل عمليات التطهير. وتشير التقديرات إلى أن ما بين 139 و174 ألف كيلومتر مربع من أوكرانيا — أي أكثر من خُمس البلاد — ملوث بالألغام.
إصلاح أم جمود؟
خلص المشاركون في مؤتمر زغرب إلى أن المشكلة ليست في جوهر الاتفاقية وأهدافها الإنسانية، بل في جمودها وعدم قدرتها على مواكبة تطورات الحروب الحديثة. فالدعوة لم تكن للتخلي عن المبادئ، بل إلى تعديل الإطار القانوني ليصبح أكثر عدالة وفعالية، ويميز بين الضحية والمعتدي، ويُلزم الدول غير المنضمة، ويستجيب للتطورات التقنية.
وهكذا تقف اتفاقية أوتاوا أمام خيارين لا ثالث لهما:
إما أن تتطور لتصبح أكثر عدالة وشمولًا وواقعية، أو تبقى شاهدًا على اتساع الفجوة بين المبادئ النبيلة وواقع الميدان.
*كاتب صحفي مختص بالشأن الأفريقي
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبر بالضرورة عن رأي “آشكاين” وإنما عن رأي صاحبها.