2024 © - أشكاين جميع الحقوق محفوظة - [email protected]
عادل امليلح*
أولا: من دون شك فإن القرار الأممي 2797 شكل منعطفا حاسما في مقاربة الأمم المتحدة لملف الصحراء بل قطيعة مع باقي القرارات الأخرى السابقة، عموما يمكن الحديث عن خمس نقاط جوهرية في نص القرار، فالنقطة الأولى هي الإقرار بمبادرة الحكم الذاتي التي تقدم بها المغرب في سنة 2007 كأساس وحيد لإنهاء نزاع الصحراء وإطار وحيد للتفاوض من أجل طي هذا الملف الذي عمر طويلا، أما النقطة الثانية فهي الاعتراف بالسيادة المغربية على الصحراء وخاصة السيادة الاقتصادية التي من شأنها أن تغير القواعد الاقتصادية في المنطقة، والنقطة الثالثة جوهرية تتمثل في الربط بين الحكم الذاتي وتقرير المصير باعتبار الحكم الذاتي شكلا من أشكال تقرير المصير الذي يمنح لسكان الصحراء صلاحيات واسعة في تدبير شؤونهم بشكل حداثي وديمقراطي، في حين تتجلى النقطة الرابعة في كون القرار لم يشر لا من بعيد ولا من قريب إلى أي خيارات أخرى تقوم على الانفصال أو حتى المقترح الذي تقدمت به جبهة البوليساريو سنة 2007 والذي كان مجلس الأمن يشير إليه طيلة 18 سنة. والنقطة الخامسة والأخيرة هي التنصيص على أن الجزائر طرف في النزاع. لقد قلبت هذه التحولات جوهر القضية من الأساس، وهي كلها تسير ضمن الإطار المغربي لإنهاء النزاع المفتعل حول الصحراء، في حين شكلت صدمة كبيرة للأطراف الأخرى التي تحاول التقليل من شأن القرار وأهميته، وبالتالي وجدت جبهة البوليساريو نفسها أمام أمر واقع، أي التفاوض على أساس مبادرة الحكم الذاتي التي أقرها مجلس الأمن، وهو ما كانت ترفضه لسنوات.
ثانيا: ينبغي التأكيد على أن القرار الأممي لا يمكن فصله عن السياقات التي جاء فيها، وعلى رأسها اقتناع العديد من الدول بمبادرة الحكم الذاتي التي تقدم بها المغرب باعتبارها الحل الوحيد الممكن لإنهاء نزاع الصحراء. فأمام فشل مجلس الأمن في الوصول إلى حل نهائي في الملف لمدة 50 سنة وأمام حالة الجمود التي دامت 18 سنة منذ تقديم المغرب لمبادرة الحكم الذاتي، اقتنعت العديد من الدول، بما فيها القوى العظمى، بمصداقية وجدية المبادرة المغربية في إنهاء النزاع. كما عمل المغرب وعلى مدار عقدين من الزمن على خلق تأييد واسع لهذه المبادرة مستعملا كل وسائله الدبلوماسية والاقتصادية والتنموية، وبالتالي فإن القاعدة الدولية التي كانت تدعم طرح الجبهة لم يعد لها وجود، كما أن الظروف الدولية تغيرت لصالح المغرب، مما يعني فقدان السند الدولي. عموما يمكن القول إن خيارات جبهة البوليساريو محصورة ضمن نطاقين: نطاق القرار الأممي رقم 2797 ونطاق العلاقات والمواقف الجديدة التي تشكلت حول هذا الملف.
ومن أجل فهم هذه الخيارات ينبغي بداية الحديث عن الاتجاهات الممكنة التي يمكن أن تسير فيها الجبهة.
الاتجاه الأول يبقى غير مرجح ومستبعد، وهو قبول جبهة البوليساريو بالتفاوض مع المغرب على أساس مبادرة الحكم الذاتي تنفيذا لمخرجات القرار رقم 2797، أي على الأقل القبول بروح الحكم الذاتي، وهو الاتجاه المرغوب من لدن الجميع وهو الغاية الأساسية للقرار الأممي.
والاتجاه الثاني، وهو المرجح، اتجاه جبهة البوليساريو للبحث عن سبل مختلفة للالتفاف على القرار الأممي أو على الأقل البحث عن سبل ممكنة لتمديد عمر النزاع أملا في ظهور تحولات محتملة تقلب الكفة لصالحها مستقبلا أو على الأقل خدمة لطموح الجزائر في عدم إنهاء النزاع، وهذا الاتجاه الأخير هو ما سنتبين في ظله خيارات جبهة البوليساريو، والتي يمكننا أن ندرجها ضمن نطاقين:نطاق القرار 2797 ومبادرة الحكم الذاتي المغربي، ونطاق الواقع السياسي والدبلوماسي الذي أصبح مفروضا على الجبهة.
-نطاق القرار 2797 ومبادرة الحكم الذاتي المغربي:هنا يمكننا أن نحدد ثلاث مستويات:
مستوى القرار الأممي 2797: لقد أغلق القرار الأممي الأخير كل خيارات الجبهة في المطالبة بالانفصال، وبما أن القرار يقر بالمقترح المغربي للحكم الذاتي كحل وحيد للنزاع المفتعل فهو ضمنيا يعترف بالحكم الذاتي كشكل من أشكال تقرير المصير. في المقابل لم يتضمن أي إشارة للمقترح الذي تقدمت به جبهة البوليساريو سنة 2007 ولا إلى ما روج له على أنه مقترح تقاسم كلفة السلام المقدم في 2025. إن الرسالة الضمنية للقرار الأممي هي أن أي مقترح مبني على الرغبة في الانفصال سيكون مرفوضا ومستبعدا. وهنا يكون القرار قد حسم نهائيا في أي تأويل من شأنه أن يفتح الطريق أمام إعادة اجترار المصوغات التي طالما ركزت عليها جبهة البوليساريو في دعم موقفها في القضية. إن جبهة البوليساريو ستعمل بدون شك على البحث عن تأويلات في القرار ومنها ما ذهب إليه المبعوث الشخصي للأمين العام ستيفان دي ميستورا، الذي أول القرار على أنه يفتح للأطراف الأخرى الحق في تقديم مقترحات تفاوضية. وحتى هنا تبدو خيارات الجبهة في بناء مقترح خارج المطالب الانفصالية أمرا صعبا للغاية، وعموما فإن الجبهة تمتلك هنا نقطتين يمكن الرهان عليهما في المفاوضات.
النقطة الأولى: إعادة إحياء خطة السلام والاتفاق الإطار الذي وضعه المبعوث الشخصي السابق جيمس بيكر، عبر المزج بين الحكم الذاتي وخيار الانفصال، حيث ستقترح الجبهة تنفيذ خطة المغرب للحكم الذاتي لمرحلة انتقالية قد لا تتجاوز 5 سنوات يكون بعدها استفتاء حول خيار الانفصال، وفق ضمانات أمنية من مجلس الأمن. وعلى الرغم من أن المغرب سيرفض مسبقا هذه الخطة إلا أن الجبهة قد تراهن عليها.
النقطة الثانية: إعادة المطالبة بتمكين الجبهة من نطاق ترابي في الصحراء يسمح لها بإنشاء دولة مستقلة صغيرة، وهو ما قد تعتبره جبهة البوليساريو حفظا لماء الوجه. وأقصد هنا بقعة ترابية ضيقة على المحيط الأطلسي.
هذه الخيارات مرفوضة من طرف المغرب، لكن الجبهة قد تناور بهما للالتفاف على القرار الأممي.
مستوى مشروع مبادرة الحكم الذاتي المغربي: تعهد المغرب في الفقرة 34 من مشروع المبادرة المقدمة في سنة 2007 بالتفاوض بحسن نية وبروح بناءة منفتحة وصادقة من أجل التوصل إلى حل سياسي نهائي ومقبول من جميع الأطراف لتسوية الخلاف، كما أن صاحب الجلالة الملك محمد السادس أكد على ضرورة الوصول إلى حل لا غالب فيه ولا مغلوب. هكذا فإن المغرب تعهد والتزم بالتفاوض وفق الشرعية الدولية لإنهاء هذا النزاع.
إن القبول بالتفاوض حول مبادرة الحكم الذاتي من طرف جبهة البوليساريو هو إقرار منها بروح الحكم الذاتي القائمة على ضمان سيادة الدولة على ترابها عبر عناصر سيادية تتمثل في العلاقات الخارجية والأمن والدفاع والرموز الوطنية والثوابت العليا. وهي ثوابت لا يمكن أن تقبل التقسيم ولا التجزئة، وبما أن الاختصاصات الموسعة لجهة الحكم الذاتي قد تقبل نقاشات معينة وتعديلات في نطاق السيادة المحلية، فإن الجزائر قد تدفع جبهة البوليساريو نحو قياس واختبار الخطوط الحمراء للمغرب في مبادرة الحكم الذاتي كالمطالبة باختصاصات في العلاقات الخارجية لجهة الحكم الذاتي، وخاصة علاقات إقليمية محدودة، أو عبر المطالبة بالاستئثار باستغلال الموارد في منطقة الصحراء بشكل كامل. وهو ما لن يكون مقبولا من طرف المغرب لأن التنازل عن أي مقوم من مقومات السيادة يعني قطعا زوال السيادة. كما أنه يجب على المغرب أن يميز بين الموارد الاستراتيجية التي تعتبر عنصرا من عناصر السيادة والموارد الأخرى التي يمكن منح جهة الحكم الذاتي اختصاصات في تدبيرها.كما أن التفصيلات التي قد تلحق المشروع المغربي يجب أن تكون قاطعة وحاسمة فيما يتعلق بعناصر السيادة داخل المبادرة والتي لا يمكن أن تقبل أي نقاش.
مستوى تنزيل مبادرة الحكم الذاتي: إذا كانت جبهة البوليساريو تمتلك نية في عدم إنهاء نزاع الصحراء فإن هامش المناورة في هذا الجزء يبقى كبيرا جدا، فالمغرب ربط تنفيذ مبادرة الحكم الذاتي بالاستفتاء كمرحلة تأتي بعد تفاوض الأطراف المعنية برعاية الأمم المتحدة، لكن السؤال الأساسي في الاستفتاء التأكيدي لقبول مبادرة الحكم الذاتي المغربية هو الأساس الذي سيتم عليه تنظيم هذا الاستفتاء، والكيفية التي سيتم من خلالها تنفيذه، خاصة وأن عملية تحديد الهوية فيما بين 1991 و2003 عرفت نزاعات كبيرة بفعل صعوبة تحديد من يحق لهم الاستفتاء، أو بعبارة أخرى، تحديد هوية السكان الذين لهم صفة قاطن صحراوي، مما أدى إلى فشل خطة التسوية التي أقرتها الأمم المتحدة سنة 1991. فجبهة البوليساريو ومعها الجزائر تمتلك خيارين للمناورة:
في البداية، الرهان على التمييز بين سكان الصحراء عبر المطالبة باعتماد اللائحة التي شكلتها لجنة تحديد الهوية لسنة 2002 باعتبارها الأساس الوحيد للاستفتاء وإبعاد كل الطعون التي تم تقديمها أنذاك، وهو ما لا يمكن تنفيذه باعتبار أن الصحراء ومخيمات تندوف عرفت تحولات ديموغرافية كبيرة تتطلب إعادة تحديد الهوية من البداية، وهي عملية مربكة ستتطلب مجهودات كبيرة وقد تعرف عراقيل كثيرة تعطل التعجيل بالحل.وحتى في حالة نجاح الأمم المتحدة في تحديد الهوية فإن جبهة البوليساريو تمتلك خيارات أخرى مثل الرهان على نتائج الاستفتاء في أن تأتي غير تأكيدية لصالح المغرب، وهو أمر مستبعد، لكن رهانات الجبهة هنا تعني نسف شرعية مقترح الحكم الذاتي المغربي من جذوره.
نطاق الواقع السياسي والدبلوماسي:
يعني هذا النطاق الضغط الذي قد ينهي المناورات السابقة بشكل مباشر ويضع جبهة البوليساريو أمام سياسة الأمر الواقع من خلال:
نجاح السلام بين المغرب والجزائر برعاية أمريكية: في هذا الصدد فإن إقرار السلام بين المغرب والجزائر وإنهاء كل الخلافات قد يمهد بشكل أسرع نحو إغلاق الملف، وهو ما يعني قطعا إنهاء كل المناورات التي قد تفكر فيها جبهة البوليساريو، لكن هذا السلام يبقى رهينا بالضغوط التي قد تمارسها الإدارة الأمريكية لدفع النظام الجزائري نحو السلام مع المغرب.
مواصلة المغرب للضغط الدبلوماسي: يمتلك المغرب خيارات كبرى في هذا الصدد، أبرزها مواصلة الاعترافات الدولية بالسيادة المغربية من جهة وحشد الدعم الدولي من أجل المزيد من الضغط على جبهة البوليساريو من جهة أخرى، من خلال حشد الدول الأفريقية الصديقة لطردها من الاتحاد الأفريقي، أوتهيئة الظروف في حالة تعنت الجبهة وسعيها نحو إدامة النزاع نحو سحب الملف من اللجنة الرابعة، والعمل على تثبيت الموقفين الروسي والصيني وفتح قنصليات وجلب استثمارات في نطاق السيادة الاقتصادية التي أصبحت قائمة بموجب الشرعية الدولية.
قيام الولايات المتحدة بتصنيف جبهة البوليساريو منظمة إرهابية: في حالة تعنت جبهة البوليساريو في الاستجابة للقرار الأممي رقم 2797 وفي حالة رفض الجزائر التفاوض مع المغرب حول إحلال السلام، قد تلجأ الولايات المتحدة الأمريكية إلى تصنيف جبهة البوليساريو منظمة إرهابية، مما سيضع النظام الجزائري في ورطة حقيقية باعتبار الجزائر راعية للإرهاب، مما قد يعرضه لعقوبات اقتصادية ليست في صالحه. وهو خيار لن يكون موضع تنفيذ حتى نفاد المهلة التي صرح بها المبعوث الأمريكي، وربما قد تستغرق بعض الوقت.
العودة إلى الأعمال العسكرية: من أجل دعم موقفها الداخلي وخوفا من تفكك عراها قد تلجأ جبهة البوليساريو، التي تعتبر نفسها منذ سنة 2020 في حرب مع المغرب، إلى إعلان الحرب على المغرب في الصحراء بهدف التأثير في الدينامية التنموية لهذه المنطقة وترهيب السكان. ويعني ذلك قطعا إطلاق رصاصة الرحمة على نفسها، بفعل ميزان القوى الكبير الذي أصبح يفرضه المغرب محليا وإقليميا وحتى دوليا، وبفعل أن الأعمال العسكرية قد تدفع المغرب إلى إلغاء المنطقة العازلة وسحب خيار التفاوض مع الجبهة، كما سيسرع من تصنيف هذه الأخيرة منظمة إرهابية. على الرغم من أن الأعمال العسكرية الموسعة قد تزعزع الاستقرار في كامل النطاق المغاربي والساحل، وهو خيار صعب لن تنخرط فيه الجبهة التي ستكتفي بعمليات محدودة موجهة للاستهلاك الداخلي.
حرب أهلية وتفكك الجبهة: لقد أصبحت الأصوات تتعالى داخل المخيمات مطالبة بإنهاء النزاع من جهة وعودة اللاجئين للمغرب من جهة أخرى، في المقابل ترفض السلطة العسكرية لجبهة البوليساريو والمخابرات الجزائرية التي جعلت من اللاجئين في مخيمات تندوف معتقلين في ظروف تفتقر إلى أبسط شروط العيش. كما أن لجوء منظمة الأمم المتحدة إلى إعادة ضبط مساعدتها نحو هذه المخيمات يزيد من المصاعب والضغوط التي قد تدفع بدون شك إلى انتفاضات واسعة من جهة وظهور انشقاقات داخلية مما يؤدي إلى حرب أهلية وانقلابات وغيرها، وهذا يمكن أن يعجل بإنهاء النزاع.
وختاما تبقى مبادرة الحكم الذاتي التزاما مغربيا من أجل إعادة اللاجئين المغاربة وتمكينهم من بناء مجتمع ديمقراطي حداثي وتقاسم المنافع التنموية التي يتمتع بها إخوانهم في الصحراء المغربية، وهي مبادرة تحمل تضحيات وتنازلات كبيرة، وبالتالي فإنها ليست مبادرة خالدة بل فرصة تاريخية تعبر عن حسن نية، وأن أي خيارات تنخرط فيها الجبهة يجب أن تكون محسوبة في إطار الواقع الذي يبلوره الدعم الدولي لمبادرة الحكم الذاتي، والقرار رقم 2797، والقوة الدبلوماسية للمغرب، والتقلبات التي قد تحدث في المنطقة في ظل العودة القوية للولايات المتحدة الأمريكية لترتيب أوراقها في شمال وغرب القارة الإفريقية.
*طالب باحث في سلك الدكتوراة بجامعة ابن طفيل “جيوبولتيك أفريقيا”
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبر بالضرورة عن رأي “آشكاين” وإنما عن رأي صاحبها