2024 © - أشكاين جميع الحقوق محفوظة - [email protected]
أعاد مشروع قانون المجلس الوطني للصحافة، الذي تمت المصادقة عليه أمس الأربعاء 24 دجنبر الجاري بمجلس النواب، إشعال النقاش داخل الجسم الصحفي والحقوقي، بعد توالي الانتقادات التي تعتبر أن عددا من مقتضياته تمس بجوهر التنظيم الذاتي للمهنة، وتفتح الباب أمام ما سميت “خروقات دستورية صريحة” تمس استقلالية الصحافة وحرية التعبير.
ويتركز الجدل أساسا حول “نمط التمثيلية”، و”صيغة الانتداب”، و”منطق رأس المال ورقم المعاملات”، وهي عناصر اعتبرها مهنيون ونقابيون مدخلا لإعادة تشكيل المجلس على مقاس فئات بعينها، بما يتناقض مع روح الدستور والمعايير الدولية المؤطرة لحرية الصحافة.
استقلالية الصحافة على محك الدستور
في هذا السياق، أكد المحامي بهيئة الرباط والمهتم بالشأن الإعلامي، محمد اشماعو، أن “الإشكال لا يهم فصولا معزولة، بل يطال فلسفة المشروع ككل”، مشددا على أن “النقاش مطروح بخصوص بناء مشروع القانون ككل”.
وأوضح إشماعو، ضمن تصريح لجريدة “آشكاين” الإخبارية، أن المواد الأكثر إثارة للريبة هي تلك المرتبطة بالانتداب، ولاسيما المادة 49، معتبرا أن اعتماد منطق رأس المال وعدد المستخدمين “يوجه المجلس القادم لصالح فئة معينة، والتي يمكنها هذا المقتضى من السيطرة على تركيبة المجلس وبالتالي التحكم فيه”.
ويرى المتحدث ذاته أن المشروع ينقل مركز الثقل من الصحافة المهنية إلى منطق تجاري صرف، قائلا إن “هذا المشروع يرتكز على رأس المال والذي لا يخدم بالضرورة الصحافة المهنية والجادة، لكنه يخدم توجها معينا يحقق أرقام معاملات مهمة من اليوتيوب من خلال نشر ما يمكن تسميته بـ’التفاهة’ “.
واعتبر اشماعو أن هذا التوجه يشكل مساسا مباشرا باستقلالية الصحافة، موضحا أن “هذا التوجه يمس بمبدأ استقلالية الصحافة ويفرض المنطق الريعي، وهو ما يخالف مقتضيات الفصل 28 من الدستور”، الذي ينص على أن السلطات العمومية تشجع تنظيم قطاع الصحافة بشكل مستقل وديمقراطي.
وفي تحليله للمنطق التمثيلي الذي اعتمده المشروع، شدد المحامي بهيئة الرباط على أن “منطق التمثيلية الذي يرتكز على رقم المعاملات يتناقض مع المنطق الدولي والحقوقي، ويتعارض مع مبادئ باريس التي تؤطر الهيئات ذات الصيغة التدبيرية الذاتية، والتي تشترط الاستقلالية والحياد”.
ونبه اشماعو، “اليوم تم التخلي عن المبادئ التي تكرس الاستقلالية، وتم التركيز على التبعية المالية التي تضرب الاستقلالية”، محذرا من أن تمثيل الناشرين وفق رؤوس أموالهم وعدد المستخدمين “يفرغ التنظيم الذاتي من مضمونه”.
وذهب إشماعو أبعد من ذلك، معتبرا أن “الخطير في هذا القانون هو أنه دُبر بليل، وغرضه واضح، وهو ممارسة منطق الكماشة على الإعلام وحرية التعبير لإخضاعها وضرب استقلاليتها”.
وسجل المتحدث عينه أن رفض المشروع لم يقتصر على فئة محدودة، مبرزا أن “كل وزراء الإعلام السابقين في المغرب عبروا عن رفضهم للمشروع، وأغلبية تمثيلية الصحفيين وأصحاب المقاولات عبروا عن رفضهم، باستثناء الجهة المستفيدة”، مشيرا أيضا إلى انسحاب فرق المعارضة من جلسة التصويت بمجلس النواب.
ومن زاوية دستورية، شدد إشماعو على أن التنظيم الذاتي لا يستقيم دون حرية الاختيار، موضحا، “إذا كنا بصدد الحديث عن التنظيم الذاتي للصحفيين، وأغلبية المهنيين يرفضونه، فعن أي تنظيم ذاتي نتحدث؟ تنظيم من؟”، مضيفا أن “الاختيار لا يمكن أن يعني الانتداب، وهو يعني دائما الانتخاب”، معتبرا أن “الصيغة الحالية تضرب الرأي الفردي وتوجه الاختيار لجهة بعينها”.
نقابة الصحفيين: طريقة الإقتراع تخرق الدستور
من جهتها، اعتبرت النقابة الوطنية للصحافة المغربية، في مذكرة رسمية، أن مشروع القانون يتضمن مقتضيات تشكل خرقا واضحا لعدد من الفصول الدستورية، وفي مقدمتها الفصل 8 المتعلق بالمشاركة النقابية.
وجاء في المذكرة، التي اطلع موقع “آشكاين” على نظير منها، أن “اعتماد الاقتراع الفردي في انتخاب أعضاء المجلس الوطني للصحافة من فئة الصحافيين المهنيين دون الاعتراف بدور النقابات في اقتراح اللوائح أو تقديم مرشحيها، يقصي هذه التنظيمات من المشاركة في مؤسسة يفترض أنها تنظيم ذاتي للمهنيين”، وهو ما يفرغ الفصل 8 من محتواه العملي.
وسجلت النقابة مساسا بمبدأ التعددية والتمثيلية العادلة المنصوص عليه في الفصل 11 من الدستور، معتبرة أن “النمط الفردي الاسمي يؤدي علميا إلى تهميش عدد من فئات الصحافيين، وربما يفتح المجال أمام هيمنة فئة محددة”.
وفي السياق ذاته، اعتبرت المذكرة أن المشروع يخالف الفصل 12 من الدستور المتعلق بالديمقراطية التشاركية، مؤكدة أن “إقصاء التنظيمات النقابية من مرحلة الترشح والاقتراع هو إقصاء ضمني من المساهمة في القرار المهني التشاركي”.
ولم تستبعد النقابة وجود تعارض بين المشروع والالتزامات الدولية للمغرب، مبرزة أن “النظام الانتخابي المعتمد في مشروع القانون يخالف اتفاقيات منظمة العمل الدولية والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية”، لأنه يهمش التنظيمات النقابية باعتبارها الوسيط الطبيعي داخل المهنة.
وحذرت النقابة الأكبر للصحفيين بالمغرب من أن تغييب التمثيلية النقابية “يفرغ مفهوم الديمقراطية المهنية من مضمونه، ويحول الانتخابات إلى منافسة شخصية تنتج أفرادا بلا مساءلة تنظيمية”.
وسجلت النقابة ما أسمته بـ”خروج المشروع عن الفلسفة التي بني عليها القانون رقم 90.13″، معتبرة أن التخلي عن الاقتراع باللائحة المعتمد في تجربة 2018 “يمثل انتكاسة تنظيمية وخرقا لمبدأ الاستمرارية المؤسساتية”، ويفتح الباب أمام احتكار التمثيل من طرف قطاع دون آخر.
مشروع القانون والزامات المغرب الحقوقية
إلى جانب هذه الانتقادات، يرى متتبعون أن عددا من فصول المشروع يمكن أن يشكل موضوع طعن بعدم الدستورية، خاصة تلك التي قد تقيد حرية التعبير، أو توسع صلاحيات هيئات غير منتخبة، أو تمس باستقلالية المجلس وشفافية عمله.
وتحذر هذه القراءات من مخاطر فرض رقابة مسبقة أو تجريم الانتقاد، بما يتعارض مع المادة 19 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، ويهدد الأساس الديمقراطي للممارسة الصحفية.
وكان المجلس الوطني لحقوق الإنسان قد أصدر، في شتنبر 2025، مذكرة سجل فيها ملاحظات جوهرية حول المشروع، داعيا إلى مواءمته مع المعايير الدولية والحقوقية، في وقت اعتبرت فيه فرق المعارضة البرلمانية أن بعض مقتضياته تشكل مساسا صريحا بمبدأ التعددية.
وأمام هذا السجال المتصاعد، يبدو أن مشروع قانون المجلس الوطني للصحافة لم يعد مجرد نص تنظيمي، بل تحول إلى اختبار دستوري حقيقي لمدى الإلتزام بضمان استقلالية الصحافة، واحترام التنظيم الذاتي للمهنة، وصون حرية التعبير كما كرسها الدستور والمواثيق الدولية.