لماذا وإلى أين ؟

حكايات تازمامارت (الحلقة 10).. أيهاي شوف هذا عندو الفرماج خاصو غير الروج

تفاصيل الموت البطيء والنجاة بأعجوبة من معتقل تازمامارت ماتزال مختبئة رغم القصص التي رويت على لسان الناجين، منهم ضيف حلقاتنا عبد الله أعكاو  (كان برتبة رقيب ميكانيكي متخصص في الذخيرة) الذي مازال لم ينشر بعد مذكراته على غرار جل الذين نجوا بأعجوبة، وهو  الذي كُتب له العيش بعد قضائه 17 سنة داخل المعتقل الرهيب بتهمة محاولة الانقلاب على الملك الراحل الحسن الثاني.. في هذه الحلقات سنتذكر معه ماضيه الأليم منذ محاولات العيش وسط القبر  إلى العودة لحضن العائلة وتلمس الطريق نحو الإدماج والإنصاف..

كما قلت في الحلقة الماضية، استقام لنا الحال لما تمكننا من فتح نافذة على العالم بفضل “الترانزيستور” وربطنا الاتصال ببعض العائلات، لكن في غمرة هذا الانفراج الباعث على أمل كبير، حل يوم مشؤوم قلب كل شيء.
إذ في الوقت الذي كنا نقتصر على طلب بعض الضروريات من خلال رسائل بعضنا إلى عائلاتهم، وفي مجملها تكون عبارة عن مقويات لما اقتنعنا بأن الدواء بالنسبة إلى أغلبنا لا يجدي نفعا، توصل بعضنا بمجلتين كانتا تمرران من زنزانة إلى أخرى ليطلع عليها المعتقلون، ولسوء حظنا أنه في تلك اللحظة التي مررها صديق إلى جاره باغته حارس مقيت وخطفها من بين يديه وهو يرسم ابتسامة حقد وخبث. ورغم أننا ظللنا نتوسل إليه تلذذ بذلك ولم يشفق لحالنا ولم يعر لنا أي اهمام فغاد العنبر، فكانت نتيجة هذه الواقعة أن داهم الحراس زنازيننا وشرعوا في تفتيشنا تفتيشا رهيبا وحشيا لم يبق فينا شيئا.

في ذلك اليوم من سنة 1982 فتحوا علينا الأبواب ولم يتركوا شيئا إلا وفتشوه

لقد كانت لهذا التفتيش عواقب ضارة ومؤذية بالنسبة إلي.. فقبل حلول هذا اليوم الذي أعادني إلى نقطة الصفر كنت قد طلبت من الحراس السماح لي بعيادة الصفريوي لأنه كان طريح الفراش، ولما أذنوا لي بذلك قضيت معه قرابة ثلاثة أشهر أعتني به. وكان قد تمكن من ربط الاتصال مع عائلته ومن حين إلى آخر كان يمدني حارس بالأشياء المُرسلة إليه، ومنها علب جبنة لأمنحها للصفريوي لذلك كنت أحتفظ ببعض العلب الفارغة.
في ذلك اليوم من سنة 1982 فتحوا علينا الأبواب ولم يتركوا شيئا إلا وفتشوه، من شقوق وثقوب الحيطان والزوايا وما لدينا من أسمال وحتى الحفرة التي تسمى المرحاض…
كان الأمر يستدعي منا إيجاد طرق لدس كل الأشياء التي جمعناها طيلة سنوات، كي لا يكتشفها الحراس، من مسامير ومرايا وقنينات وعلب فارغة ومقص محلي الصنع… لذلك التجأت شخصيا إلى جمع كل ما لدي من “مكتسبات” في كيس صغير حزمته جيدا وربطت أسفله بحبل وأخرجته من ثقب السقف ووضعت الطرف الآخر للحبل على جانب الثقب بكيفية دقيقة تسهل إخراج الكيس بجره.
عندما ولج الحارس زنزانتي ذهب توا إلى الفراش الذي صنعته فمزق جزءا منه فكان أول ما وقعت عليه يداه هو علبة جبن مضغوطة، فاستمر في التمزيق فسقطت باقي العلب الفارغة التي بعجتها وحشوت بها فراشي. إذ لأتفادى صقيع وصلابة المصطبة الإسمنتية التي كانت بمثابة سريرنا، التجأت إلى تخييط ما تبقى لدي من فراشين رقيقين حتى أصبحا عبارة عن كيس مفتوح من جهة واحدة لأبدأ بحشو ودس كل الأشياء التي تصلح لصنع مُضطجع. حشوت فيه بقايا بعض العلب المضغوطة وحتى شعري الذي قصصت وشعر بعض الأصدقاء وجمعت خشاش الأغطية حتى تمكنت من صنع ما يشبه شبه سرير أنام عليه.
حين تساقطت أشيائي التفت إلى صديقه الذي كان منهمكا في تفتيش زنزانة مجاورة، فخاطبه وهو يضحك بسخرية “أيهاي شوف هذا عندوالفرماج خاصو غير الروج”، وأخذ معه فراشي إلى ساحة المعتقل. طننت أنه سيفرغه من كل ما دسسته لكنه عاد من دونه وأغلق الباب عليّ متجاهلا صراخي، لأجد نفسي في زنزانة فارغة كما دخلتها أول مرة.

احصل على تحديثات فورية مباشرة على جهازك ، اشترك الآن

من شروط النشر : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments

يستخدم موقع الويب هذا ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

0
أضف تعليقكx
()
x