2024 © - أشكاين جميع الحقوق محفوظة - [email protected]
حكايات تازمامارت.. “سأفضح ما يجري لأكون سببا في إخراجكم من هذا القبر” (الحلقة 11)

تفاصيل الموت البطيء والنجاة بأعجوبة من معتقل تازمامارت ماتزال مختبئة رغم القصص التي رويت على لسان الناجين، منهم ضيف حلقاتنا عبد الله أعكاو (كان برتبة رقيب ميكانيكي متخصص في الذخيرة) الذي مازال لم ينشر بعد مذكراته على غرار جل الذين نجوا بأعجوبة، وهو الذي كُتب له العيش بعد قضائه 17 سنة داخل المعتقل الرهيب بتهمة محاولة الانقلاب على الملك الراحل الحسن الثاني.. في هذه الحلقات سنتذكر معه ماضيه الأليم منذ محاولات العيش وسط القبر إلى العودة لحضن العائلة وتلمس الطريق نحو الإدماج والإنصاف..
كان لواقعة مداهمة زنزانتي (سنة 1982) وحرماني من كل أغراضي التي استطعت توفيرها طيلة سنوات وقع سلبي كبير جدا، خصوصا أن حجرتي أفرغت تماما وازدادت بؤسا، وانعكس ذلك على صحتي التي زادت تدهورا..
لكن وكما أؤمن به فبعد عُسر ينبعث أمل وسط هذا الجحيم يجعلنا نتفاءل مرة أخرى، فقد طرأ تغيير مفاجئ لم نكن نتوقعه وصب في مصلحة المعتقلين، تمثل في الامتياز الذي حظي به الملازم امبارك الطويل بفضل زوجته الأمريكية ومن خلال وزارة الخارجية الأمريكية. وأتذكر أن لجنة خاصة يترأسها الكولونيل فضول حلت حاملة معها آليات استتشفائية متنقلة وخضع إلى تشخيص طبي، قبل أن تأتي مروحية نقلته إلى الرباط.
عبر عبد العالي الصفريوي عن رغبته في الاتصال بعائلته ولكن عبر الحارس المقيت بوكبش وقد حذرته شخصيا من خطورة محاولته إلا أن العكس حصل
وكما جاء في رواية الطويل فقد استُقبل حينها من قبل لجنة مكونة من فرقة عسكرية ترأسها الجنرال حسني بنسليمان ومسؤول أمريكي كبير، عرفنا بعد خروجنا أنه السفير الأمريكي الذي جاء لمعاينة الطويل ويأخذ ضمانات بألا يصيبه مكروه في تزمامارت، وهو ما كان إذ بعد عودته تغير وضعه، حيث كان يسمح له بالخروج إلى ساحة المعتقل ليعانق أشعة الشمس التي افتقدناها طيلة اليوم، وحظي بفراش وأدوات ولحاف وأغطية وأكل ونظافة.
بالنسبة إلي، كان هذا تحولا إيجابيا، فقد كان الطويل رئيسي في المصلحة، لذلك رأيت أن خروجه في صالحنا طال الزمن أو قصر، وبدا ذلك حين لعب دورا كبيرا في تليين عقلية ومعاملة الحراس لنا، وكان يمر علينا في الدهليز متبادلا الحديث معنا وحثنا على الصبر. وما كنت أنتظر من الطويل آنذاك، وقد تحدثنا سوية في الموضوع عندما يمر إلى زنزانتي، هو أن يركز على أن إيصال مأساتنا إلى خارج تزمامارت وألا تبقى عملية التواصل في سريتها المطبقة، يجب أن يعرف الجميع أننا مازلنا أحياء هنا وإن كنا أمواتا.
في هذه الفترة كان الطويل يزودنا بما كان يجمعه من طعام ليفرقه علينا، كما كان يزودنا بمقويات من نوع one a day ذات المفعول الكبير. لكن مع ذلك وجد هذا الملازم نفسه في وضع حرج إذ كان بعضنا يرغبون ويسعون، عبر اتصالاتهم بعائلاتهم، إلى أن يحظوا بنفس الامتيازات التي حظي بها، لكن هيهات فزوجته أمريكية وهذا هو الفرق الذي جعل المعادلة مستحيلة.
وما بقي عالقا في ذهني أنه في غمرة هذا الانفراج عبر عبد العالي الصفريوي عن رغبته في الاتصال بعائلته ولكن عبر الحارس المقيت بوكبش، وقد حذرته شخصيا من خطورة محاولته لأن بوكبش لا ثقة فيه ولم تحرك حالتنا فيه ذرة إنسانية، لكنه غامر، فبدأ بالتقرب منه، وفي مرات كان يطلب منه أن يمده بالماء أو شيئا يعينه على مرضه. وكم كان مفاجئا أن يستطيع الصفريوي كسب ثقة هذا الحارس الفض، فقد ربط الاتصال بعائلته، وعندما عاد من لقاء عائلته جلب له بعض الأغراض وحتى النقود أيضا.
لقد كانت مبادرة بوكبش بالاتصال بعائلة الصفريوي غريبة، فقد كان فضا معنا طيلة ما مر من سنوات ولم يشفق لحالنا، وما كان مثيرا هو أن بوكبش لم يكتف بقبول التوسط مع عائلة الصفريوي، بل ذهب إلى حد مطالبتنا بأن نفضح ما يجري عبر رسائلنا على أن يتكلف بإيصالها مهما كان، وأتذكر أنه قال للصفريوي بالحرف “إن ما يهمني هو فضح قضيتكم وأن أكون سببا في إخراجكم من هذا المأزق”، وهذا تغير كبير لم نكن لنتوقعه من هذا الشخص الذي كان سببا في موت الشجعي وزاد وضعنا تأزما بتعامله القبيح.