لماذا وإلى أين ؟

ما بعد تزمامرت.. “نْسَا أنك تحبستي 17 عام راه عفا عليك الملك حيت ماعارفش شنو وقعلكم” (الحلقة 20)

تفاصيل الموت البطيء والنجاة بأعجوبة من معتقل تازمامارت ماتزال مختبئة رغم القصص التي رويت على لسان الناجين، منهم ضيف حلقاتنا عبد الله أعكاو  (كان برتبة رقيب ميكانيكي متخصص في الذخيرة) الذي مازال لم ينشر بعد مذكراته على غرار جل الذين نجوا بأعجوبة، وهو  الذي كُتب له العيش بعد قضائه أكثر من 17 سنة داخل المعتقل الرهيب بتهمة محاولة الانقلاب على الملك الراحل الحسن الثاني.. في هذه الحلقات سنتذكر معه ماضيه الأليم منذ محاولات العيش وسط القبر  إلى العودة لحضن العائلة وتلمس الطريق نحو الإدماج والإنصاف..

 

 

غادرت مقر قيادة الدرك الملكي أجر جسمي برفقة عناصر الدرك صوب مكتب قائد سيدي بطاش الذي كان ينتظرنا، هناك وجدت كبار مسؤولي بلدتي في انتظاري وقد اكتظوا في مكتبه، من مسؤولي مديرية المياه والغابات والجماعة ومؤسسات أخرى. صافحوني واحدا واحد وهم يرمقونني بنظرات يختلط فيها الاستغراب بالحسرة والشفقة والدهشة، ويسألون أنفسهم كيف لهذا الماثل أمامهم أن ينبعث من قبره، وتحسروا على حاله وسنواته الضائعة. وبدوري لأول مرة أرى بعيني المتعبتين المعميتين أناسا مدنيين طبيعيين يعيشون الحياة التي مهما كان حجم إحباطاتها وقسوتها وغدرها لن تكون بحجم ما نتصور، إنها جميلة ويهون فيها أي شيء مهما صعب، فقط الصبر والتشبث بالأمل.

رحب بي الجميع وأخذت مكانا بينهم على كرسي، بينما بقوا مركزين نظرهم نحوي، كان طبيعيا أن أبدو أمامهم كائنا غريبا يثير وجوده بينهم بتلك الحالة الفضول لاستجلاء تفاصيل ما فعل به الزمن الذي لم يكتشفوا وجهه المفجع. بعد برهة أخذ القائد الكلمة، بارك عودتي ببضعة جمل ليستعجل الانتقال إلى ما هو أهم بالنسبة إليه، وبالنسبة لمسؤوليه. لقد طلب مني أن أنسى ما مر علي، أن أنسى عذابات ثمانية عشر سنة كأنها ليست من سنوات عمري، أن أنسى أني كنت في معتقل اسمه تزمامارت. أكثر من هذا أنه شرع برعونة أمامي وأمام جمع القاعة في تشويه وتزوير ما سجله التاريخ بدم الفظاعة والموت البطيء، رغم معرفته جيدا الحقيقة الكاملة، كل هذا طبعا لأنه نفذ الأوامر التي نزلت عليه.

قمة الرعونة هي عندما أخبر القائد الجمع الذي كان أمامي بأني عدت للتو من سجن كباقي السجون قضيت فيه مدة حبسية عادية وها أنا عدت إلى بلدتي بعد صدور عفو ملكي عني.. كذب علينا جميعا والحال أن حالتي تحيل من رآني على أني كنت أموت ببطء. لم يفت القائد أن يشير إلى أن محنتنا لم تكن على إثر أوامر ملكية! قال حاشا أن تكون كذلك، ودافع على أن الحسن الثاني لم يكن يعلم ما جرى ولم يكن ليسمح بذلك لو وصل إلى علمه أن عسكريين أقبروا وهم أحياء.

وجدت نفسي محرجا وأنا أستمع إلى خطابه البئيس، كنت أمام احتمالين في تلك اللحظة، إما أن أستجمع أنفاسي وأتدخل لأقاطع كذبه وأفضحه وأذكره وأروي للحضور قصتي وهم الذين تعطشوا لسماع تفاصيلها، أو أن أبقى في صمتي وأقمع حرقتي وأعيدها إلى داخلي خصوصا أني كنت في حالة شرود معنوي وصحي، وذلك ما قررته، قررت أن أصمت عن الحقيقة إلى أن يحين وقت كشفها لأني استعجلت مغادرة القاعة وترك تلك الوجوه التي لا أعرفها، لقد كان تفكيري كله في أن أرى أمي.

لقد كان القائد يكذب على نفسه وليس عليهم، فهم واعون جيدا بما حصل، فقد عرف الجميع ما كان يحصل في تزمامارت، فبعد ذلك عبر لي بعضهم عن حنقهم من كلام القائد واستفزهم تأكيده على أني كنت أقضي عقوبة سجنية عادية كأن الناس جاهلون لما وقع لنا. في لحظة دخولي في صمت طويل رغم إحساسي بأن قلبي يُعتصر ولساني يتلوى يريد دحض كل ما قاله القائد، ولج المكتب صهري بوشعيب تاهت عيناه برهة بين الحضور تبحث قبل أن تقف عندي، لينطلق نحوي متأثرا مستسلما لدموعه وأخذ يحضنني بقوة وينادي باسمي غير مصدق أني مازلت حيا، وانهمرت قبلاته مبللة وجهي المتعب. كان تصرفه معبرا عن تأثره البليغ بلقياي وهو الذي لم يكن يتوقع بعد هذه السنين أن يراني مرة أخرى، أما أنا وإن لم تنزل قطرة دمع من مقلتاي الخاويتين إلا أني أيضا تأثرت كثيرا بعد معانقة الفرد الأول من عائلتي الذين اشتقت إليهم.

احصل على تحديثات فورية مباشرة على جهازك ، اشترك الآن

من شروط النشر : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

3 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments
خليل
المعلق(ة)
28 مايو 2019 20:53

افضع سجن في العالم تزمامارت اتاثر بحكايات معتقلي تزمامارت ومتتبع لها مهما الموت ارحم على العيش في تزمامارت

محمد
المعلق(ة)
28 مايو 2019 18:25

لا تحزنوا….. إن يوم الحساب قريب….. الحمد لله على نعمة العدل الإلهي.

Rachid samy
المعلق(ة)
28 مايو 2019 18:12

17ans de bagne et il ne sait pas ce Qu il nous

Arrive .

La dictature et l oligarchie n ont ni Coeur

Chaud ni un iota d humanite,

يستخدم موقع الويب هذا ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

3
0
أضف تعليقكx
()
x