2024 © - أشكاين جميع الحقوق محفوظة - [email protected]

سهيل كيوان
هناك أناس يعيشون بيننا وحولنا، قد لا نشعر بهم، نكون مشغولين أو مهمومين في أمور كثيرة، نظنها كبيرة وعظيمة في لحظتها، بينما يكون شاغل البعض مواجهة فكرة الموت التي دقت بابهم فجأة.
صدفة، التقيت زميلا قديما، وبعد سلام وكلام، قال:
لقد وعدني الأطباء بالموت منذ ثلاث سنوات، يعني كان يفترض أن لا نلتقي الآن. أثار فضولي فطلبت توضيحا فقال:
في يوم ما أثناء ممارستي رياضة المشي على شاطئ البحر، شعرت باختناق وتعب، ذهبت إلى طبيب العائلة، وبعد فحص الدم بأيام، أرسلني إلى المستشفى، مكثت في الاستقبال 48 ساعة، أجروا لي خلالها كل الفحوص والصور، ثم نقلوني إلى قسم السرطان، ولحق بي طاقم كبير من الأطباء والمساعدات، أدركت أن وضعي غير مطمئن، أخبرني الطبيب أن السرطان منتشر في النخاع الشوكي بنسبة 95٪ ولوكيميا في الدم بنسبة 25٪، ثم أخبرني بأنني سأعيش خمسة عشر يوما فقط.
شعرت أنني في فيلم أو مسرحية، وانفجرت في الضحك وهم مندهشون، وقلت للطاقم: لماذا خمسة عشر يوما وليست سبعة عشر يوما مثلا؟
خرجوا من الغرفة، وأنا بدأت أحسب! أغلب الظن أن جنازتي ستكون في عصر يوم جمعة، أو ظهر السبت، شعرتُ بارتياح لأنها ستكون في يومَي عطلة للعمال، ولن أربك برامج عمل لأحد من أقربائي. قررت أن أوصي بعدم دفني في الليل، وفقط في النهار. ورغم ذلك، فأنا مؤمن تماما بأن الإنسان لا يعيش أكثر أو أقل من المكتوب له ولا بدقيقة واحدة. مضت ساعات، فكرت خلالها فــي أولادي وزوجتي.
في منتصف الليل طلبت سيارة أجرة إلى المستشفى، ثم توجهت للطبيبة المناوبة وقلت لها، سأخرج لساعة أو ساعتين وأعود، فقالت: الخروج ممنوع وعلى مسؤوليتك؟
ضحكت وقلت لها: وماذا سيجري أكثر من أنني سأموت بعد خمسة عشر يوما؟
وصلتْ سيارة الأجرة، جلست إلى جانب السائق، طلبت منه أن يأخذني إلى شاطئ البحر.
ما ألذّ نسيم البحر! وما أجمل الأضواء والعشاق! نحن لا ندرك قيمة هذه اللحظات الجميلة إلا بعد أن تصبح بعيدة المنال.
طلبت من السائق أن يأخذني إلى مطعم محترم، وعندما سأل مم أعاني؟ قلت له إنني سأموت بعد خمسة عشر يوما، بل وكي أكون دقيقا، بعد أربعة عشر يوما وعشر ساعات.
دخلنا المطعم، أنا والسائق، احتج النادل على ملابس المستشفى، ونادى مدير المطعم، فحكى له سائق السيارة بأنني راحل بعد أقل من خمسة عشر يوما، فما الفرق بين لباس مستشفى وحلة رسمية؟؟
ابتسم مدير المطعم، ورحّب بي، وأعلن أن المائدة على حسابه.
عندما عدنا رفض سائق سيارة الأجرة أن يأخذ أجرته مني، وتمنى أن نلتقي في ظروف أفضل.
في اليوم التالي، أتت زوجتي لزيارتي، قلت لها هيا نذهب إلى الكافيتيريا. في الطريق، وقفت إلى جانب الحمامات وقلت لها: سأخبرك بأمر مزعج، فإذا أحببت البكاء، ادخلي الحمام وابكي في صمت، القصة كيتَ وكيتَ..
قالت: لا تمزح بهذا، لا تُخفني؟
قلت لها: تخافين أو لا تخافين، هذا ما قاله الأطباء، أنتظرك في الكافتيريا.
دخلتُ الكافتيريا وشممت رائحة القهوة والإسبرسو والكعك الساخن، يا سلام.. لم أكن أنتبه لمتعة رائحة القهوة ولذتها بهذه الحساسية، ولا إلى متعة رائحة الخبز المحمص.
لحقتني زوجتي وكان واضحا أنها متأثرة جدا.
نبهتها بأنني لا أريد زيارات، لأنه إذا علم أهل البلد والأقرباء بأنني مودّعٌ، سيقفون بالدور للسلام والقبلات والاحتضان، أعلمي الناس والأقرباء أن من يحبني لا يزورني.
أكره هذا الشعور بالشفقة الذي تبثه العيون والملامح، إنه أكثر فتكا من السرطان.
رغم الحرص، انتشر الخبر بسرعة، فاشترطتُ على كل من يزورني أن يتحدث في السياسة فقط، فما من أحد إلا وله رأي، لا أريد الحديث عن المرض ولا حتى لخمس دقائق، الدقائق الخمس هي مدة طويلة، من يلعب كرة السلّة يعرف قيمة الدقائق الخمس في المباراة.
أحد زملائي من المحامين، وهو ثقيل ظل، سألني: «ماذا تحب أن نكتب على ضريحك»؟
قلت له ءمثلما سيكتب على ضريحكء إما «كل نفس ذائقة الموت» أو «كل من عليها فان». الفاتحة.
أخبرني الطبيب المسؤول عني بأنهم سيبدأون معي علاجا كيميائيا مكثفا.
قلت ما ضرورته إذا كان تاريخ وفاتي صار معروفا؟ لا أريده إلا إذا مرت الخمسة عشر يوما المحدّدة.
أشغلت نفسي بالقراءة عن حالتي، قرأت آلاف الصفحات في الإنترنت.
بقي أربعة…ثلاثة…يومان..يوم، اثنتا عشرة ساعة، اقتربت النهاية.
قلت يجب أن يكون مظهري مقبولا في رحيلي كما كان في حياتي، فاستحممت، وحلقت ذقني، وتطيبت، وجمعت أغراضي ورتبت أموري كأنني مسافر إلى رحلة استجمام.
غابت شمس اليوم الخامس عشر، فتحت النافذة، ورحت أتأمل الكواكب، انتصف الليل، قلت يبدو أنني مُنحت حياة لبضع ساعات إضافية.
أشرقت الشمس، أحضرت لي الممرضة دواء مع الفطور، فقلت لها خذيه معك، ما دمت سأموت اليوم.
نزلتُ إلى الكافتيريا، صارت ظهرا ولم أمت، يبدو أنهم أخطأوا الحساب بيوم أو يومين!
غابت الشمس، وأشرقت، ومضى سبعة عشر يوما منذ الوعد. ذهبت إلى الطبيب وتظاهرت بأنني زعلان، قال ما بك زعلان؟؟
قلت أنت كذاب!
ءأنا؟!
نعم، أنت وعدتني بالموت بعد خمسة عشر يوما، وها قد مرت سبعة عشر يوما.
قال سنبدأ بالعلاج الكيميائي المكثف، ولا مجال للتأجيل.
أدخلوه إلى جسدي يوميا وعلى مدار أسبوعين، كنـــت أســـتريح بضع ساعات، وأعود من جــديد، أدخلوا اثني عشرة وجبة من الكيميائي التي يُفترض في حالات أخرى أن تستغرق شهرين.
أخبرني الأطباء أن جسمي كان قويا جدا فتحمّل، ولكن الامتحان الآن لمدة ستة أشهر، خلالها أجروا لي زراعة نخاع شوكي، تمت بنجاح.
في البيت، منعت أحدا من دخول غرفتي، حتى أولادي لم أرهم، زوجتي صارت جارتي، تدخل عندي فقط مع كمامة، تنظف الغرفة وتعقمها، وتحضر لي طعاما حسب توصيتي.
أخبرتني أن بعض النساء حسبن لها متى تنتهي عدّة الزوجة بعد وفاة زوجها.
هناك مقولة طبية تقول إن مريض السرطان إما أن يعيش ستة أشهر بين أحبائه وأهله ويموت، أو أن يعيش منعزلا عنهم لمدة ستة أشهر ثم يعيش. مرت ثلاث سنوات على وعدهم لي بالموت.
في آخر الفحوص رافقتني زوجـــتي، لم يكن الفحص سوى سؤال عادي لزوجتي مع ابتسامــــة: كيف الزلمة؟ فردّت زوجتي بشارة (لايك) بإبهامها، وهي مبتسمة. ردّ الطبيب: هذا هو، رفعت الجلسة.
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبر بالضرورة عن رأي آشكاين و إنما تعبر عن رأي صاحبها حصرا.