في هذا الحوار يسلط إدريس بنيعقوب، الباحث في العلوم السياسية، الضوء على جاهزية الدولة لمواجهة أزمة وباء كورونا وهل نجحت الدولة لحد الآن في التصدي للوباء ولآثاره؟ بالإضافة إلى تطرقه للأولويات التي يجب على الدولة المغربية إيلائها أهمية كبرى خلال المرحلة المقبلة؟ مع تبيان بعض الخلاصات التي يمكن الخروج بها من خلال جائحة كورونا على عدة مستويات أبرزها التعليم.
في نظركم كيف كانت جاهزية الدولة لمواجهة أزمة وباء كورونا وهل نجحت الدولة لحد الآن في التصدي للوباء ولآثاره؟
من الصعب الجواب على هذه المسألة دون اتباع خطوات علمية دقيقة لأن السؤال يحتاج إلى التوافق حول منهجية علمية صارمة ومتعددة التخصصات، في تقييم وتشخيص للمعطيات المرتبطة بالاختلالات التي أحدثتها الأزمة، في السير العادي لمرافق الدولة ولوظائفها وأيضا لسير قنوات الإنتاج والاستهلاك المعاشي والقيمي داخل المجتمع.
هذه المنهجية تقتضي طرح الاسئلة الصحيحة الجيدة. أسئلة متنوعة عامة حول القدرة على الضبط العمومي للوقائع والتموقع السليم تجاهها بصفة عامة، وعلى الاستجابة لأسئلة الأزمة، وأيضا على اختيارات ردود الفعل وترتيب أولوياتها. ثم أسئلة خاصة فرعية من قبل التساؤل عن الفعالية القطاعية لتحديد الفراغات ومن تم ملؤها بما يتعين من فعل عمومي.
السؤال الأساسي الذي يعتبر الجواب عنه منطلقا لسلامة كل البناء من مبادرات لمحاصرة آثار الأزمة، هو كيف كان تموقع الدولة تجاه أزمة كورونا؟ وعلى ما يبدو أن الدولة في المغرب تموقعت بشكل مناسب إزاء الوباء وآثاره الآنية، إن على مستوى توقيت اتخاذ قرارات الطوارئ أو على مستوى بناء قرارت واختيارات تدبير الوضعية. لكن كيف كان استعداد المجتمع والدولة للعرض للأزمة من وجهة نظر وسائل وإمكانات وموارد؟
يمكن أن نميز بين مستووين للجواب. مستوى اتخاذ القرار الإداري الذي كان حاضرا بتشكيل هيئات يقظة، وتتبع لإدارة الازمة، وفي اتخاذ سلة من الحلول، بواسطة قرارات إدارية رسمية متعددة القطاعات.لكن مامدى فعالية القرار الإداري لتدبير الوضع؟
الجواب يفترض تدخل المختصين في مجالات عدة اقتصادية، مالية اجتماعيه، مقاولاتية وغيرها، لفحص ملاءمة المخرجات والقرارات المتخذة مع ما يقتضيه السياق المأزوم. أيضا بإمكاننا طرح أسئلة منهجية أخرى، كيف كان المرفق العمومي، المعني مباشرة بالوضع وهل كان جاهزا للرد والتصدي لمختلف إحراجات الوباء؟ كيف كانت وضعية الاقتصاد، هل كان مهيكلا بشكل سليم يمنع الحاجة عن المجتمع، أم كانت هناك هشاشة شكلت عقدا لموارد الخزينة العامة وبالتالي شكلت تعثرا في الجواب على مطالب فئات المجتمع؟ إلى أي مدى يمكن للمجتمع اجتماعيا واقتصاديا أن يصمد أمام تراجع المداخيل، و ثقافيا أمام الإجباربة المفاجئة والمستعجلة للانضباط والتنظيم العام؟ هل يمكن أن نفترض أن هذه الأزمة تؤكد أو تنفي فشل خطط التنمية السابقة، و بذلك نحتاج إلى نموذج تنموي متوازن ومهيكل وصارم؟ كيف ساهمت علاقات المغرب الدولية ومراكز علاقاته التقليدية في تدبير الأزمة، وهل شكلت عوامل تهدئة أم تأزيم، وهل تغيرت مراكز وخريطة الأصدقاء والحلفاء والخصوم والمنافسين، ويتعين إعادة بناء سياستنا الخارجية وفق قواعد جديدة؟ كيف كان دور الجامعة المغربية في الرد على الأزمة وهل كانت جاهزة لذلك كمؤسسة عمومية؟ هل نتوفر على مؤسسات عمومية رسمية اجتماعية تابعة للدولة، تكمل دور الدولة الاجتماعي أثناء الكوارث والطوارئ كمؤسسات بنوك الغذاء و مؤسسات الإسعاف والإغاثة والتطوع؟ كيف كان أداء المجتمع المدني وهل هو مهيكل وقوي لتدبير مثل هذه الصدمات؟ كيف كان دور الإعلام الرسمي والخاص؟ أيضا نطرح سؤال تمركز الثروة، كيف وإلى أي حد عبر الذين راكموا الثروة وفق الاختيارات الاقتصادية السابقة، عن دورهم المواطن، وكيف سيساهمون بعد الأزمة في نزع فتيل توتراتها الاقتصادية والاجتماعية، وهل نحن بحاجة إلى ظهور بورجوازية مغربية حقيقية مواطنة، تعي مركزها الاجتماعي، ودورها التاريخي، لتجديد بناء مغرب ما بعد الوباء، كما فعلت البورجوازية في أوربا ما بعد الحرب العالمية الثانية؟
هذه كلها أسئلة مهمة لاشك، لكن كيف ترون أولويات السياسات العمومية للمرحلة المقبلة، ما بعد كورونا انطلاقا من الوضع الحالي؟
في الحقيقة لست مختصا في دراسة وتحليل السياسات العمومية والقطاعية، لكن يمكنني أن أحاول عرض بعض عناصر الجواب من وجهة نظر سياسية. هي محاولة لطرح بعض عناصر بناء أولويات المرحلة المقبلة، وأيضا في مقاربة شكل وظائف الدولة الجديدة بعد مرور الأزمة. لا شك أن الدولة تخلت حاليا عن جزء من عقيدتها الاقتصادية بفعل الأزمة، خصوصا في تدبير وضعية المقاولات الخاصة، وفي التدخل المباشر والتسلسلي في انتاج حاجيات السياق، وفي ضبط ايقاع حركة السوق، بالإضافة إلى مزيد من التدخل الاجتماعي المكلف.
إذن نحن أمام وضع عطل مقتضيات دستورية مضمنة في الفصل 77 من دستور المملكة الذي يفرض التوازن المالي وفق مقاربة ماكرو اقتصادية. وقد نصبح أمام ضرورة تعديل هذا الفصل لأنه يقيدنا في نموذج تنموي واحد، ولايسمح لنا باختيارات متنوعة، خصوصا إذا فكرنا في إدخال جرعات من المدرسة الكينيزية في تدبير الاقتصاد بهدف اجتماعي.
إذن السياق الحالي عطل عقيدة الدولة الاقتصادية، وأحدث خللا موازناتيا، مع أنه لا يمكن أن ننكر أن بنيات الاقتصاد المغربي في شقه المهيكل وتنوعه، ساهمت بشكل كبير في التصدي للأزمة ولآثارها، لكنها في نفس الوقت كشفت بشكل كبير عن هوامش كبيرة غير مؤطرة وغير مستقرة.
من وجهة سياسية لتحديد الأولويات، أظهرت الأزمة الحاجة إلى مركزية الدولة كضابط اقتصادي واجتماعي لإدارة الطوارئ، وقد يكون دور تستدعي الظروف على المدى المتوسط استمراره، بتوسيع مساحات تدخل الدولة كفاعل محفز وشريك لاستعادة الاقتصاد والقطاع الخاص عافيته. أحد الرهانات المستقبلية التي يمكن أن تقوي الدولة وتحقق بعض المكاسب الاقتصادية والاجتماعية هي محاربة الفساد والمفسدين ومصادرة الأموال التي اكتسبت بطرق غير شرعية مع إعطاء مساحة جديدة للقضاء في هذا الباب.
أيضا هناك قطاعات أبانت عن صمود حقيقي، لكنها تحتاج إلى مزيد من الدعم مستقبلا، كقطاع الفلاحة والصناعة الغذائية والصناعة الصيدلانية مثلا، غير أن قطاعات أخرى لم تواكب بالسرعة المطلوبة الأزمة، كقطاع الأبناك والتأمينات، وتحتاج إلى إعادة تحديد وتجديد لأدوارها ووظائفها، في تمويل الاقتصاد، خصوصا في دعم المقاولات الخاصة المتضررة، وعلى رأسها السياحة والمقاولات الصغرى والمتوسطة.
التعليم أيضا يحتاج إلى نظر خصوصا على مستويات الاختيارات الكبرى. نعم التكوين المهني مهم لكن لا ينبغي أن نغفل الجامعة ودورها وضرورة تشجيع البحث العلمي. الأزمة أظهرت أننا ونحن نحارب الوباء نبذل جهدا مضاعفا وإضافيا مكلفا في محاربة نوع من الجهل واللاوعي، الناتج عن انعدام التمدرس والتوعية أو عن الفقر، مما طرح أسئلة التأطير والتربية على منظومة القيم. لاحظنا أيضا سلوكات متكررة ومتعددة غير متضامنة مع البلد ومع المواطنين، مهتمة فقط بالبحث عن الربح والاتجار في الأزمة، وبالتالي عشنا تناقضا يعبر عنا، ما بين القيم الجماعية ومابين فردانية متوحشة ناتجة عن الخلل في وظيفة الدولة
ومؤسسات الوساطة الاجتماعية، خلل في خلق توازن مابين فئات المجتمع ومابين الفرد والجماعة، يحتاج إلى ظبط على مستوى مسارات إنشاء فعل البحث عن الربح المادي، وفق قواعد الاستحقاق والانصاف.
في هذه المسألة هل يعتبر التعليم المسؤول الأول عن هذه السلوكات؟
طبعا لا. فالسياق العام بالقيم التي فرضت فيه مسؤول أيضا، خصوصا الصورة التي يقدمها عدد من المسؤولين الرسميين والسياسيين عن مفهوم المواطنة بجعلها مشاريع مدرة للدخل المادي.
لكن يظل التعليم أهم حلقة في صناعة مواطن صالح. نحن بحاجة إلى تعليم يشتغل أكثر على منظومة القيم وعلى التربية من على حفظ المعارف. تعليم يخلق الرغبة في الإنجاز، تعليم يجعل الإنسان وليس السوق أو التجاري في عمق برامجه وأهدافه. تبين في الأزمة أن دور رجل التعليم محوري وأساسي. أقول رجل التعليم وليس المدرسة، بمعنى أنه كان حلقة وصل إنسانية عميقة لنشر المعرفة والقيم، معبرا عنها بالتضامن والتضحية، وإبداع طرق للتواصل. لذلك يجب إعادة النظر في أولويات التعليم وفي فلسفته. نحن نحتاج إلى معلم مربي، ذو قدرة على التواصل الإنساني، تتوفر لديه إمكانات لتحقيق ذلك.
كورونا كشفت اليوم أن التعليم هو المدرس، وأن المدرسة قد يتحول إلى كائن متخيل، ليس بالضرورة واقعا ملموسا. التعليم عن بعد أبان قيمة التواصل الاجتماعي وقيمة القيم في تلقين المعرفة. الإعلام أيضا يعد أحد العناصر المهمة في محاربة الجهل واللاوعي، ويساهم في خلق الإحساس بالمسؤولية الجماعية وفي نقل مناهج التصدي الفردي والجماعي للأزمات. ولاحظنا كيف أن إعلامنا السمعي البصري العمومي لم يكن مواكبا للأزمة بالشكل المطلوب على غرار التجارب الغربية، ولم يكن منتجا حقيقيا لسلوكات جديدة بل كان هو أيضا مجرد مستهلك لمنتجات خارجية، وهذا راجع إلى ما راكمه من بيروقراطية إدارية في معالجة الخبر، بيروقراطية غير منسجمة مع تطورات الفضاء الإعلامي المنفتح، والجاهز للتصدي للأزمات وإدارة الوعي الجماعي المشترك بالقضية.