لماذا وإلى أين ؟

الإنسان والحرية

محمد الراشيدي*

لقد انشغل الانسان منذ الازل بالبحث عن حلول للمشاكل التي تواجهه، فكل الابتكارات والاختراعات التي أبدعها، جاءت جميعها تعبيرا عن حاجة يترصدها الانسان، وتجاوزا لعقبة واجهته… ولعل العقبة الكبرى التي لم تزل تراوح تفكيره وخياله الى حدود اليوم وينشغل بها: كيف له ان يعيش بأمن وسلام؟ كيف له ان يحافظ على حياته؟

للجواب عن هذا السؤال الذي يبدو بسيطا في ظاهره، تناسلت الأقلام والأفكار على مر العصور، حيث حاول المفكرون والمنجمون والعلماء والخميائيون … على مر العصور الوصول الى التركيبة السحرية التي ستمكن الانسان من البقاء على قيد الحياة في امن وسلام. فمنهم من ادعى ان الحل يتمثل في الخضوع للغريزة، واتباع اهوائها، واعتقد بعضهم عكس ذلك، فدافعوا عن العقل والعقلانية، وأعلوا من شأن العقل واعتبروه نبراسا انسانيا يتميز به عن غيره من الكائنات، في حين اعتقد اخرون فيما بعد ان الحل في المعتقد، على اختلاف شكله ومصدره. رغم التباين الحاصل بين هذه التصورات والاختلاف القائم بينها، الا ان هناك خيطا ناظما بينها، فجلها ان لم نقل كلها، تدعوا الى ضرورة اتباع القانون (مع تشبث كل فريق بمصدر معين لقوانينه).

القانون اذن هو ضالة الانسان منذ غابر الازمان، فهو وحده الكفيل ببناء حبل الثقة بين البشر وضمان حياة هنيئة وامنة للجميع على اختلاف معتقداتهم واهوائهم. لهذا فإننا من خلال هذا الجرد التاريخي لمعاناة البشر مع ذواتهم، لن نسلط الضوء على الابعاد الغريزية او العقائدية للقوانين، بل سنكتفي بالقوانين الوضعية التي نشأت نتيجة إرادة البشر العاقلة، لأنها الوحيدة (القوانين) التي من شأنها، كما أسلفنا، ان تفصل بين البشر وتنظم عيشهم، دون مراعاة لأصولهم او لدينهم او اهوائهم.

لم يستشعر الانسان الحاجة الى القوانين الا عندما ظهرت الجماعة، وبات العيش في كنف المجتمع امرا محتوما، حيث كان فيما مضى حسب تصور العديد من فلاسفة التعاقد، يعيش العزلة والوحدة الطبيعية، التي كان ينعم فيها بالراحة نتيجة غياب الاخر، غير ان ظهور الجماعة بفعل عوامل عديدة سيولد الأحقاد، وينمي الصراع، ويجعل الحياة تستحيل الى جحيم بعد ان كانت نعيما . فحياة المجتمع لم تجلب للإنسان الا الوبال والمصائب، فكان لزاما عليه ان يبحث عن حل للعودة الى زمن الطمأنينة والراحة. فكان ان ابتكر فكرة الدولة التي ستضمن بفعل تعاليها عن الافراد حقوق الجميع. فعن أي دولة أسفر بحثه؟ وماهي خصائصا؟

معلوم ان الدولة هي محض فكرة لا تجسيد واقعي لها ، فهي تتحقق من خلال نظام سياسي معين، لهذا فلا عجب ان الأنظمة السياسية التي شهدها التاريخ الإنساني تعددت وتنوعت الى مستوى لا حد له وتشكلت في قوالب عدة، فهذا الاستبدادي، وذا الاوليغرشي، وذاك الملكي واخر جمهوري… وبما ان ليس هناك من قيمة تضاهي في قوتها الامن والطمأنينة لدى الانسان، الا الحرية، فقد كدًّ هذا الأخير لكي يجعل من الأنظمة السياسية كفيلة بضمان امنه دون الاضرار كثيرا بحريته، التي لا حياة ولا أمن من دونها، لهذا شهد التاريخ الإنساني صراعات واحتجاجات متنوعة متباعدة زمنيا ومكانيا، بين الانسان / الفرد/ الرعية / المواطن وبين الجهاز التنظيمي الذي يجسد الدولة، حتى تمكن الانسان من خلال مجموعة من الثورات والثورات المضادة، من بلوغ ما اعتبره اوج التنظيم الاجتماعي، الا وهو الديموقراطية. التي باتت تشكل أسس التعاقد القائم بينه وبين الدولة، وتحدد حقوق وحدود كل طرف منهما. لهذا كان لزاما عليهما معا ان يسعيا الى ان انشاء تنظيمات مستقلة، يمكن ان نصطلح عليها ها هنا، بمؤسسة المجتمع المدني، تكون وظيفتها هي مراقبة الدولة للحيلولة دون ارتكاب مسيريها لاي شطط.

هكذا تطورت الديموقراطيات العريقة في مختلف ارجاء المعمور من خلال الموازنة بين الواجب والحق، فتطورت البلدان وازدهر عيش افرادها نتيجة ذلك، وتمكن الانسان، المتعطش للامن والحرية والطمأنينة، ان يدرك بعضا منها. لهذا يقول دوركايم “ان من شأن الدولة، ان تصبح جهازا قمعيا معزولا عن مصالح الجماهير.. ويمكن لهذا ان يحدث إذا لم يتم تطوير منظمات ثانوية تتوسط بين الفرد والدولة، وتكون راعية لمبادئ التعاقد، ودرء اي صراعات بين الجماعات”. غير ان بعض الدول عوض ان تنحو في نفس اتجاه من سبقوها، ارتأت عكس ذلك، فعوض ان تعلي من قيمة الافراد، وتنمي لديهم الشعور بالحرية والمسؤولية، من خلال الانخراط في الهيئات السالفة الذكر ( نقصد هيئات المجتمع المدني)، فإنها عوض ذلك تسعى الى تقويض أدوار القائم منها، واقبار الهيئات التي لم تنشأ بعد، محاولة في كل مرة الى اخراس الأصوات التي تتعالى لرفع هذه الوصاية التي تقوم بها الدولة على الادهان والابدان، وهي بذلك تعتقد انها ستصون حكمها وتحفظ سلطتها، ولكنها لا تدري انها في الحقيقة من خلال سنها لقوانين جائرة تكمم الافواه، وتشريعها لتنظيمات جوفاء، وحمايتها لأشخاص فاسدين، تساهم في تعميق الهوة بين المواطن/ الانسان وبين نظامه السياسي، وترفع درجة الاحتقان في الصدور. فعوض ان تترك له الحرية في النقد والتعبير عن أفكاره ومواقفه، بالشكل الذي يسمح للنظام ان يستمر ويتطور، وللمواطن ان يحيا ويطمئن ويتحرر، فالإنسان التواق للحرية منذ الازل، شبيه بجدول الماء الذي ينحت لنفسه، مسارا حتى بين الصخور، وإذا لم يجد طرقا مؤهلة لبلوغ منيته، صنع لنفسه قنوات غير رسمية ملتوية، غامضة ومجهولة، فأدى ذلك الى دمار كل من الفرد والنظام. افلا يعقلون؟

*أستاذ فلسفة، وباحث في السوسيولوجيا الحضرية

إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبر بالضرورة عن رأي آشكاين و إنما تعبر عن رأي صاحبها حصرا

احصل على تحديثات فورية مباشرة على جهازك ، اشترك الآن

0 0 أصوات
تقيم المقال
من شروط النشر : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments

يستخدم موقع الويب هذا ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

0
أضف تعليقكx
()
x