2024 © - أشكاين جميع الحقوق محفوظة - [email protected]
الرباط في الزمان والمكان ومراحل تطور العمران 1150 – 1912 (6)
مختصر كتاب: “مدينة الرباط في القرن التاسع عشر (1818 – 1912)، جوانب من الحياة الاجتماعية والاقتصادية”، لمؤلفه: د. عبد العزيز الخمليشي.
أصل هذا البحث أطروحة جامعية قدمت للمناقشة بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط يوم 11 يوليو 2007، ونال بها المؤلف دكتوراه الدولة في التاريخ بميزة حسن جدا.
قام بتلخيصه، محمد المختار جزوليت*
2- الرباط عاصمة ثانوية من عواصم البلاد (1757 – 1912):
أ- من حكم السلطان سيدي محمد بن عبد الله إلى حكم السلطان مولاي سليمان:
اتخذ السلطان محمد بن عبد الله مدينة الرباط مقرا لإقامته خلال تنقلاته بين فاس ومراكش أو العكس. وقد حاول إخراج أهل الرباط من المدينة 1773م، لكنه تراجع عن قراره بسبب فتوى بعض علماء فاس التي رفضت القرار، وتخوفه من عدم إيجاد عنصر بشري بديل يقوم مقامهم بأمور البحر.
إلا أنه رغم ذلك اتخذ في حقهم إجراءات تأديبية وذلك بإطلاق يد العبيد في ممتلكاتهم وغلاتهم، وقطعهم الأشجار المثمرة الموجودة في أكدال وذلك تمهيدا للبدء في تشييد إقامته السلطانية التي استمر العمل في بنائها ما يزيد عن سنتين (1774 – 1776).
وهذه الإقامة عبارة عن مدينة قائمة بذاتها تتكون من أزقة ودروب ودور خاصة بسكنى العبيد وأسواق وأفران عمومية وخمس جوامع وهي جامع السنة وجامع أهل فاس وجامع أهل مراكش وجامع أهل سوس وجامع الأوداية. وحمام أكدال، هذا فضلا عن إقامة السلطان – على مقربة من باب الرواح – والتي أصبحت تسمى بدار أكدال.
وقد بلغ عدد العبيد الذين جلبهم السلطان لحراسة إقامته 4500 عائلة من فاس ومكناس ومراكش وهذا هو الأصل في تسمية تلك الجوامع بتلك الأسماء.
أما عن منجزاته الأخرى فقد جدد ما تهدم من القصبة وزاد في تصحينها بإقامة أبراج جديدة (… برج خنزيرة – برج صقالة ابن عائشة)، وببابي القصبة بنى بيت المال، كما جدد قصبة مولاي رشيد وعمرها بالعبيد. فضلا عن تجديد باب الرواح وباب شالة وبناء باب الجديد وبناء عدد من الحوانيت.
إلا أن أهم بناء هو بناء دار لسك النقود بحومة الكزا.
كما عمل السلطان محمد بن عبد الله على إحياء مشروع جده بإيصال الماء الجاري من عين عتيق بعد أن كان قد تحطم خلال أزمة الثلاثين سنة (1727 – 1757).
أما الجهاد البحري الذي اشتهرت به المدينة خلال القرن 17 فقد تقلص، وذلك على حساب ظهور وظيفة جديدة، هي وظيفة التبادل التجاري مع أوروبا، فضلا عن الوظيفة الدبلوماسية حيث أصبحت تضم ابتداء من العام 1768 أربع قنصليات.
وقد عرفت المدينة مثل سائر المدن هزات ومنها انتفاضة العبيد الكبرى التي ترافقت مع أزمة جفاف عظيمة استمرت حوالي 6 سنوات (1776 – 1782) عرفت البلاد خلالها، وضمنها الرباط مجاعات وأوبئة ووفيات وسلب ونهب وخراب ترتب عنه أن الإقامة السلطانية بأكدال أضحت خرابا منذ 1781، وتشاء المصادفات أن تكون هذه الإقامة هي التي احتضنت جثته غداة وفاته (1790).
إذا استثنينا فترة حكم اليزيد القصيرة (1790 – 1792) التي لم تشهد فيها المدينة أي عمران يستحق الذكر فإن في عهد السلطان المولى سليمان (1792 – 1822) أخذت شكلها النهائي الذي ظلت عليه طيلة القرن 19 وإلى حدود توقيع عهد الحماية.
وأول ما يجب تسجيله على مستوى الإضافات السكنية، الإقامة السلطانية الجديدة الواقعة على جانب البحر والمحمية بالسور البراني والمسماة ب (دار القبيبات) التي كانت جاهزة سنة 1799 إلا أن السلطان اضطر إلى مغادرتها بمجرد دخولها. وذلك بسبب انتشار وباء الطاعون.
وسبب تفضيل السلطان لهذا المكان لبناء إقامة جديدة دون أن يفكر في تعمير إقامة أكدال هو أن ماء عين عتيق كان يمر بباب القبيبات قبل أن يصل إلى المدينة من جهة باب العلو، والحالة هذه أنه أحسن موضع لتشييد إقامة تكون سباقة إلى الاستفادة من مياه العين.
أما الإقامة الثانية، فكانت تقع داخل السور الأندلسي بشارع سيدي فاتح المسماة بدار مولاي رشيد وكانت جاهزة سنة 1813م.
والإضافة السكنية الثالثة تتعلق ببناء ملاح جديد أنجز بين شهر غشت 1807 وشهر أكتوبر 1808 وذلك بحي وقاصة بمحاذاة السور الأندلسي لنقل اليهود من ملاحهم القديم – الموجود في حومة البحيرة، حيث كانوا يقطنون جنبا إلى جنب مع المسلمين – وتقدر مساحته بحوالي خمسة هكتارات.
كما بنى السجن الموجود في درب الحوت في عام 1811، وقام بتركيب صومعة جامع السويقة في عام 1812 وأتم بناءه ثم سمي باسمه، ولابد من الإشارة هنا إلى أن هذا الجامع قد أعطي الأمر ببنائه في عهد السلطان المولى اليزيد وكان يؤدي وظائفه الدينية.
وقد أمر أيضا بغطاء الماء الجاري من عين عتيق سنة 1804.
وتمكنت أوقاف كبرى البرباط في عهده من تزويد المدينة بعدد من السقايات الجديدة.
إلا أن المدينة عرفت حدثين كان لهما انعكاس سلبي على ساكنتها وعمرانها واقتصادها.
1- انتشار وباء الطاعون سنة 1799 الذي أحدث نزيفا ديموغرافيا قاسيا.
2- إلغاء الجهاد البحري سنة 1818 نتيجة الضغوط الأوروبية التي مورست على المخزن ابتداء من مؤتمر فيينا 1815 وانتهاء بمؤتمر إيكس لاشابيل 1818.
ب- من حكم السلطان مولاي عبد الرحمن بن هشام (1822 – 1859)إلى حكم السلطان مولاي الحسن (1873 – 1894).
قبل احتلال الجزائر بثلاث سنوات حاول السلطان المولى عبد الرحمن بن هشام إحياء الجهاد البحري إلا أنه اصطدم بتعاظم قوة الفرنج ووفرة عددهم وأدواتهم البحرية، فقد قامت النمسا في العام 1829 بالهجوم على مرسى العرائش وأحرقت المراكب الراسية فيه، مما أدى إلى توقف حركة الجهاد البحري، والبحث عن مورد آخر للرزق.
وفي سنة 1833 عرفت القصبة حدثا آخر غير ملامحها فقد تم تعمير القصبة بعناصر جديدة من جيش الأوداية – وهذا سبب تسميتها بقصبة الأوداية – وذلك إثر الانتفاضة التي قاموا بها بفاس، وبعد توبتهم وزعهم المولى عبد الرحمان على 3 جهات: 1. القصبة؛ 2. مجموعة ثانية قليلة أنزلهم في البداية بقصبة المنصورية 50 كلم جنوب الرباط على ضفاف وادي النفيفيخ وذلك لحراسة الطريق السلطاني من هجمات قبيلة زعير؛ 3. لكن بعد مرور 6 سنوات قام بتنقيلهم من جديد إلى قصبة تمارة التي أعادوا ترميمها، ولضمان أسباب عيشهم أقطعهم أراض بين الرباط وتمارة.
ومن بين إنجازاته، بناؤه لسور أشبار، الذي يمتد من برج الصراط إلى قبالة قصبة الأوداية، كما بنى بالمدينة دار البارود، ومارستانا لمعالجة المرضى والمعتوهين.
أما منجزات السلطان محمد بن عبد الرحمن (1859 – 1873) بالرباط، فقد اشترى عام 1862م كل الجنات والأراضي التي كانت تمتد على مساحة حوالي 49 هكتارا – وهي مساحة المشور الملكي حاليا – وانطلق العمل في بنائها سنة 1862م – باعتبار أن قصر القبيبات لم يعد كافيا – وجلب الماء إليها وأصلح مسجد السنة وكان بائدا يعشش فيه الصدى والبوم، وأصلح مسجد أهل فاس وأمر “ببناء السور الممتد من باب الجديد إلى باب الرواح وإصلاح السور الكبير المجاور للدار السعيدة”.
وبموازاة هذه الأشغال أنجزت مجموعة من الدور لفائدة الجيش المسمى بـ “التروك” أو “التواركة” الذي جلبه السلطان من مراكش لحراسة داره وقد تم الانتهاء من بناء هذه الدار الكبيرة الفيحاء سنة 1864. أما فيما يخص الإنجاز الثاني المتعلق بعنصر الماء فقد قرر السلطان تزويد إقامته الجديدة بالاعتماد على مصدر مائي قائم بذاته هو مياه عين غبولة فقام بإحياء المشروع الموحدي القديم.
ولقد كانت البداية الأولى لانطلاقة الأشغال سنة 1863م وتم الانتهاء سنة 1869، حين وصلت مياه الساقية إلى إقامة أكدال ومنها تم إدخال الماء إلى مسجدي السنة وأهل فاس.
ومن منجزاته داخل المدينة بناء حمام جديد هو حمام القصري، الكائن في حومة البحيرة وهو رابع وآخر حمام يبنى ويحبس إلى حدود 1912 كما قام بإصلاح دار أخيه مولاي رشيد بتجديد قواديسها وتزليجها.
إن الاهتمام الذي أولاه سيدي محمد لمدينة الرباط يعني، أنها أصبحت حقا، حاضرة من الحواضر السلطانية، بحكم موقعها الاستراتيجي. ومن ثم فقد حظيت بالعناية نفسها من قبل السلاطين الذين تعاقبوا على الحكم، قبل أن تتخذ عاصمة البلاد من قبل سلطات الحماية مع توقيع عقد الحماية.
وفي عهد السلطان مولاي الحسن (1873 – 1894م): أول ما تم إنجازه بفعل الضغط الأجنبي هو تجديد المرسى 1882 وخلالها تم ترصيف مون المرسى وبناء عدد من الاهراء كمرحلة أولى، وفي المرحلة الثانية 1883 أعيد بناء الديوانة وإحداث هري كبير بجوارها وترصيف المرسى.
غير أن أبرز معلمة هي البرج الجديد الواقع خارج باب لعلو، على الشاطئ، والذي جلبت إليه المدافع من ألمانيا.
وقد اهتم السلطان أيضا بإقامة القبيبات، حيث بنى إقامة جديدة على الشاطئ، بمحاذاة إقامة المولى سليمان وذلك سنة 1892.
أما الإضافة المرتبطة بإقامة أكدال، فقد أشار إليها الدكالي بقوله: “وفي أواخر دولة مولانا المقدس ]…[ أحدث زيادة في دار أبيه المجاورة لضريح سيدي محمد بن عبد الله، فزيدت فيها قبب وقصور تزري بمقاصر الزهراء وبديع المنصور” ودام العمل فيها من 1886 إلى 1893.
كما تم تنظيم البريد في عام 1892.
ج من حكم مولاي عبد العزيز إلى الحماية قبل الأوان (1894 – 1908):
كان المولى الحسن قد خصص نفقات لتجديد وترسيم عين غبولة، وبالفعل تم تسريح القادوس القديم إلا أنه إلى حدود تاريخ وفاة المولى الحسن لم يكن أمر الساقية الجديدة قد انتهى بعد.
وللأسف لقد ظل المشروع متوقفا في عهد المولى عبد العزيز، بل أضيف إليه مشكل جديد تمثل في فيضان الماء الواصل إلى مسجد السنة. ومع توالي الأيام ازدادت المشاكل ونقص ماء الساقية القديمة بسبب الإهمال وقلة الموارد المالية، بل إنه تعرض للانقطاع في إحدى المرات مما ألحق الضرر بالعراصي المخزنية.
وهكذا في ظل الأزمة المالية الخانقة التي ألمت بالمخزن أصبح من العسير إنجاز أبسط الترميمات الأساسية.
إلا أن أهم حدث جرى في نهاية حكم المولى عبد العزيز هو إحداث مركز التلغراف اللاسلكي من قبل الأجانب بدءا من العام 1907، دون أن تجدي احتجاجات وتنبيهات السلطان في شيء.
ومتى تذكرنا أن احتلال الدار البيضاء، وإلى جانبها وجدة، تم في العام 1907 تبين لنا زحف المحتل إلى الداخل من جهتين، وكانت حملة موانييه من الدار البيضاء نحو الرباط يوم 28 أبريل 1911 بل إن هناك وثيقة تؤكد أن دخول موانييه لأول مرة إلى المدينة كان قبل هذا التاريخ بحوالي سنتين.
وتلك كانت بداية مرحلة ونهاية مرحلة. نهاية مرحلة مدينة تأسست على قاعدة الجهاد، وبداية مرحلة مدينة اتخذت منها سلطات الحماية عاصمة إدارية للمملكة، لتنطلق منها قرارات تطويع البلاد.
وقد أقدم عدد من خيرة البحرية على تقديم استقالتهم بشكل جماعي، تلافيا للائتمار بأوامر الفرنسيين الذين أصبحوا يديرون ديوانة المرسى، فقد فضلوا الانسحاب بصمت من عالم البحر الذي يذكرهم بحنين الجهاد – خصوصا أن معظمهم كان ينحدر من أصول المجاهدين القدامى –.
يتبع…
*أستاذ اللغة العربية وآدابها؛ حاصل على الاجازة في اللغة العربية وآدابها؛ حاصل على دبلوم الدراسات المعمقة في الأدب القديم.؛ من مواليد الرباط سنة 1956