لماذا وإلى أين ؟

“حديدان” مُخَلِّصا .. قراءة في صورة البطل في الدراما التلفزيونية المغربية

محمد تيسوكمين

بقدرر ما أبدعت البشرية على مر تاريخها الطويل إجابات وحلولا لمختلف معضلاتها الوجودية، إجابات وحلول اختلفت أشكالها على مر العصور منذ اكتشاف النار إلى عصر التكنولوجيا الفائقة، لتعبر عن حيوية الفكر البشري وسعيه الدائم نحو الاكتمال، وكتعبير عن براعة الكائن البشري وقدراته الخلاقة في الانفلات من وضعه وسعيه نحو التقدم والتجاوز المستمر لشرطها الوجودي، واسمة بذلك تاريخها الحافل بالتقدم في اتجاهه العام، بلحظات نكوص تشكل شروخا وقطائع في هذا المسار.

يحاول هذا المقال رصد تجلّ من تجليات لحظة النكوص هذه، معبرا عنه في اللحظة المغربية الراهنة ، بالإنتاج الدرامي التلفزيوني، بما هو تعبير عن أزمة معممة تعطلت فيها قدرات انتاج الحلول الواقعية، تاركة المجال لبروز الحلول الدفاعية التي يقدم عليها الانسان بشكل استهامي بهدف التأقلم والتلاؤم مع الوضعية الراهنة بشكل يخفف من وطأتها ويكفل له شيئا من الانسجام الوجودي والتحقيق المزيف للذات عبر البحث عن بطل مُخَلِّص خارق يقع خارج الذات وخارج اللحظة التاريخية عموماً؛ حيث يتم استدعاء البطل من مناطق موغلة من الذاكرة الجماعية(الحقيقية والمتخيلة) والارتهان إلى الأساطير لتغذية وتنشيط المزاج الشعبي العام.

البطل المُخَلِّص عبر تاريخ الشعوب المضطهدة

عمدت الشعوب منذ القديم خلال لحظات عذابها إلى الاستنجاد بمختلف الاعتقادات الاسطورية والدينية والشعبية فشكلت    صياغة خاصة لمُخَلِّصها ، وقد اختلفت هذه الصياغة من شعب إلى آخر ومن فترة تاريخية إلى أخرى ، ولكنها تتفق على القدرات الخارقة لهذا المُخَلِّص وأدواره الأساسية للاضطلاع بهذه المهمة بنجاح ، عاقدة عليه آمالها في الخلاص. و لازالت الى الآن تستنجد به بين الفينة والأخرى ويظهر هذا المُخَلِّص بملامح تخص الزمان والمكان والأفق الحضاري للشعب المعني:

  • صاغه الشعب اليهودي المعذب والمضطهد على صورة الله أو كلمة الله مجسدة في المسيح لينقذ المغلوبين والمضطهدين من طرف الرومان منذ ألفي سنة، ولازال المسيح المُخَلِّص لم ينه مهمته بعد، فلازال المؤمنون ينتظرون قدومه كلما اشتدت بهم وطأة الحياة.
  • صاغه المسلمون الأوائل ، خاصة من آل البيت بعد الظلم والاضطهاد والتقتيل الذي تعرضوا له خلال الفترة الأموية في شكل الإمام المهدي، الذي يطل عليهم بين الفينة والأخرى وقد تمكن من تخليصهم مرارا ومكنهم من بناء دول، ولازال الأمل معقودا عليه. وتتناسب الحاجة إليه طردا مع حجم الاضطهاد والظلم اللاحق بهم .
  • أما الصياغة المغربية فلم تنجو من تأثير الصياغتين السابقتين، خاصة في شقها الاسلامي الشيعي، مما يعني حضور المهدي المنتظر كمُخَلِّص أساسي، وقد تجسد تاريخيا على سبيل المثال:

1 صالح بن طريف 728-791  مؤسس الدولة البورغواطية بتامسنا

2 عبيد الله المهدي 873-934  مؤسس الدولة الفاطمية انطلاقا من كتامة وسلجماسة

3 المهدي بن تومرت 1077-1130 مؤسس الدولة الموحدية

4 ابن أبي الطواجين  ت 1227 ثائر غمارة بالريف

5 ابن أبي محلي 1560-1613

6 بوحلاس نهاية القرن 18 ، ثائر بسوس

7 الجيلالي الزرهوني 1860-1909 ثائر بالمنطقة الشرقية.

وجه البطل المُخَلِّص في الدراما التلفزيونية المغربية

يحيل هذا العنوان إلى المؤلف الشهير “البطل بألف وجه” ل جوزيف كامبل، الذي ضمنه خلاصة بحثه حول مختلف الحكايات والأساطير والقصص وكل الأجناس السردية لدى مختلف الشعوب ، حيث خلص إلى أنه رغم الاختلافات الظاهرية في الاشكال السردية، إلا أنها تتفق في بنية الحكاية والمسار الذي يقطعه البطل خلال رحلته عبر الأحداث، كما تتفق أيضا في الملامح العامة للبطل والذي لم يكن في البداية إلا شخصا عاديا من “أيها الناس”، يعيش حياة عادية إلى أن يتلقى نداء للمغامرة، دون موعد سابق معها ولا رغبة له في خوضها. فيتأفف بداية ويطلب المساعدة ، ولا يقدم على الرحيل والدخول في المغامرة إلا مرغما بعدما ييأس من المساعدة ، وهكذا يدخل في المغامرة غرا، يحاول، يخطئ ويصيب إلى أن يقترب فيقع في أزمة، ثم يخرج منها ظافرا بعدما يحصل على” مفتاح” للحل ليعود الى الوضع الراهن في مستوى أعلى.

هذه هي بنية الحكاية وأوجه البطل كما صاغتها الدراسة. فكيف استطاع البطل في الدراما التلفزيونية المغربية خرق هذه القاعدة؟

يجب بداية ألا يفهم أن الأمر ينطبق على البطل في الدراما التلفزيونية المغربية بعامة، فهناك أعمال من الكثرة والتنوع بما لا يسمح المجال للاشتغال عليها فبالأحرى إدخالها ضمن هذا التصنيف، بل يتعلق بتوجه ملحوظ في الآونة الأخيرة ويحظى بمتابعة جماهيرية كبيرة يتمتع بسمات مخصوصة من البطولة نقترح أن نسميها اجرائيا ” البطولة الحديدانية” .

حديدان الوجه المغربي للبطل المُخَلِّص

يقتضي تحليل هذه العبارة الوقوف عند العناصر الآتية:

1 يقصد ب “حديدان” ليس فقط بطل المسلسل المغربي المعروف والذي قام بتشخيص دوره الممثل المغربي المقتدر كمال كاظمي خلال خمس مواسم لفائدة القناة الثانية، بل جميع الأعمال الدرامية التي تستند إلى نفس خصائص هذه الشخصية ، مهما كان اسمها: حديدان، بابا علي ، كبور أحمد القران، أبطال سعيد الناصري( ولد الدرب، البانضي، العوني) … مما يعني أن حديدان لا يتعلق بشخصية معينة في عمل معين يحق للسيناريست أن يبدعه بالشكل  والمواصفات التي يريد، في علاقة تامة مع أحداث وشخصيات وزمان ومكان نفس العمل. بل بظاهرة اكتسحت المجال الدرامي التلفزيوني المغربي وحقق نجاحا جماهيريا كبيرا . بمعنى أن حديدان خرج من المسلسل الأصلي فأصبح ينتقل بين مسلسلات وأفلام وسيتكومات عديدة ومن الشاشات التلفزيونية إلى باقي وسائل التواصل الاجتماعي الأخرى ومنها إلى الحياة العامة للمغاربة. وعندما يصل الأمر إلى هذا الحد فإننا نكف عن تناول هذه الشخصية بمعايير النقد الأدبي والسينمائي، إلى الاشتغال عليها كظاهرة اجتماعية تولد أشكال معينة من الاستجابة وتترسخ كقدوة وكنموذج وتتغلغل تدريجيا كعنصر أساسي في الهابيتوس الاجتماعي .

وقد تم اختيار اسم حديدان للتعبير عن هذه الشخصية لأنه من جهة يكثف كل أبعادها الجسدية والنفسية والاجتماعية والقيمية ، ومن جهة أخرى لأن اسم حديدان استقر في التمثل الاجتماعي للمغاربة من خلال هذا المسلسل الذي يعد أطول مسلسل في تاريخ الدراما المغربية في حدود علمي، بواقع 150 حلقة مفتوحة على مواسم لاحقة إضافة إلى بداية نسخته الأمازيغية في موسمها الاول هذه السنة -بابا علي- ثم من جهة ثالثة لاشتغال الشركة المنتجة بوعي تجاري كبير على هذه الظاهرة.

2 تنسجم شخصية حديدان بهذا المعنى العام مع مواصفات وخصائص البطل المُخَلِّص؛ بما هو استجابة لحاجيات الانسان في لحظة القهر والعجز العام إلى العزاء والسلوى عن آلام الواقع الراهن، ويعبر عن لحظة أمل وشعور بالاعتبار الذاتي من خلال التماهي مع بطولات الفارس صانع الخوارق والذي يخرج دوما منتصرا في كل امتحان. ويتناسب تعلقه ببطله المغوار وتفويض أمره له بمقدار الغبن المفروض عليه ومقدار خلو واقعه الفعلي من أي بطولات أو حلول واقعية لمعاناته.

غير أن شخصية حديدان وإن كانت تستجيب لحاجة الأفراد إلى البطل المُخَلِّص، فإن حديدان يختلف عن النموذج التقليدي للبطل المُخَلِّص، باعتباره فردا مُخَلِّصا للجماعة وقائدها نحو عوالم الانعتاق والتحرر.على العكس من ذلك فحديدان المغربي مجرد بطل يبحث عن خلاصه الشخصي إلى أبعد الحدود فيتماهى معه الافراد في استنساخ تجاربه وحلوله لمعاناتهم الشخصية. لذلك نجد هذه الشخصية تتمتع بأكبر قدر من خصائص الخبث والخسة، موغل في الانانية والانتهازية، مبتكر لكل أنواع الحيل والمقالب، مستهتر بكل قيم الجماعة والعيش المشترك.

هذا الاختلاف بين شخصية حديدان المغربي ونموذج البطل المُخَلِّص ليس مجرد تفصيل بسيط بين الشخصيتين، بل اختلاف جوهري ومؤشر على أن المجتمع المغربي يعرف تحولات قيمية كبرى نحو الأنانية والانتهازية. وتسمح لنا المقارنة بين النسخة المغربية لبابا علي مع النسخة الاصلية لعلي بابا والتي يفترض أنها مجرد اقتباس لها، – والاقتباس بالتعريف هو نقل غير حرفي لمادة من سياق ثقافي إلى آخر بإخضاعها لخصوصيات الثقافة المنقول إليها ، والانتهازية  هي خصوصيتنا إذن في هذا المقام ، والطريف في الموضوع هو الاستعانة في النسخة المغربية بحيل وخدع أحد دهاة منطقة سوس التي يستعمها في النصب والاحتيال على ضحاياه لسلب عقاراتهم – تسمح لنا هذه المقارنة بين النسختين بالوقوف على الانحدار القيمي والأخلاقي للنسخة المغربية. فبينما لم يكن علي بابا إلا حطابا بسيطا استثمر حيله للقضاء على اللصوص، تحول بابا علي إلى طاغية لم ينج من أحابيله أحد من أفراد القبيلة.

فالمقصود إذن بالوجه المغربي للبطل المُخَلِّص ليس القائد الأسطوري المنقذ لجماعته من القهر ، كما صاغته الثقافات السابقة وصاغه المغاربة أيضا عبر التاريخ كما تقدم، بل بطل انتهازي أناني محتال يخلص نفسه فقط بكل الأساليب اللاأخلاقية ، فيتماهى معه الأفراد لا شعوريا محاولين استعارة أساليبه الملتوية كنموذج للنجاح الاجتماعي والنتيجة طبعا هي المزيد من التردي القيمي والأخلاقي.

3 لا يتعلق الأمر بعمل أو أعمال فنية تصاغ في إطار حرية الابداع والتعبير المكفولة لكتابها واختياراتهم المطلقة في صياغة أبعاد شخصياتهم، بل بظاهرة موجهة في جزء كبير منها لأهداف تجارية من قبل بعض شركات الانتاج، انطلاقا من دراسة ذكية للسوق، تتلاعب بالحاجيات النفسية والاجتماعية للجمهور.

وإذا كانت مختلف المنتوجات تقتضي الخضوع لمعايير الجودة والسلامة الصحية، فإن المنتوج الدرامي هو الأولى بالانضباط لمعايير الذوق الجمالي والقيمي، بحكم استهدافه للصحة العقلية والنفسية والعاطفية للجمهور، بماهي أساس تمثل الذات والعالم، تتأسس عليها معايير الحكم والسلوك الاجتماعي.

سيكون من المبالغة بالطبع القول أن حديدان هو سبب أزمة القيم التي يشهدها المجتمع المغربي في كل المستويات والأصعدة. فللأزمة جذورها العميقة ، لكن لا يجب التغاضي عما يمارسه حديدان من تكريس لهذه الأزمة والتطبيع معها واستدامتها. عبر الترويج  لها جماهيريا في الوقت الذي تقع فيه مهمة الاعلام العمومي، باعتباره أكثر وسائل التنشئة الاجتماعية تأثيرا وفعالية ، في الاتجاه المعاكس وهي التخليق والتهذيب والتربية على القيم الاجتماعية وفضائل العيش المشترك.

خاتمة

في الوقت الذي تتعاطى فيه مختلف الآداب والفنون مع الظواهر الاجتماعية بالنقد والتوجيه، سعيا إلى الرقي الاجتماعي، وتجاوز الكائن والمبتذل إلى عوالم بديلة من الخلق الجمالي والقيمي والوجودي الممكن، انطلاقا من فهمها العميق لأغوار النفس البشرية، وانطلاقا من الدور الاجتماعي للفنان. وفي الوقت الذي اشتغل فيه مثلا صامويل بيكيت بشكل فني ساخر وحافل بالرمزية على انتظار الشعوب للبطل المُخَلِّص وتفويض أمرها لغيرها عبر تحفته ” في انتظار غودو” . تعاطت الدراما التلفزيونية المغربية- لنكن دقيقين نخص تحديدا بعض شركات الانتاج- مع هذه الحاجيات بأكبر قدر من الاستغلال التجاري قصد تحقيق النجاح الجماهيري. فليس اعتباطيا أن تحتكر شركات انتاج معينة هذا النموذج من البطولة استجابة للمزاج الشعبي العام وتكريسا له، بل وتعزيزا له بالتكرار على مدى سنوات وعبر مختلف القنوات التلفزيونية وعن طريق مسلسلات وأفلام وسيتكومات وبأسماء أبطال مختلفة. وأعتقد أن هذه الممارسة هي أوضح تعبير عن ممارسة الحديدانية بماهي احتيال وخداع وخيانة.

سيناريست وناقد

إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبر بالضرورة عن رأي آشكاين وإنما عن رأي صاحبها.

احصل على تحديثات فورية مباشرة على جهازك ، اشترك الآن

0 0 أصوات
تقيم المقال
من شروط النشر : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

2 تعليقات
الأكثر تصويتا
أحدث أقدم
Inline Feedbacks
View all comments
الصديق عزيز
المعلق(ة)
15 أبريل 2022 21:03

هنيئا لنا بالأستاذ توسكمين قلما ناقدا و لاذعا بمقدوره تحريك مياه هذه البركة الآسنة المسماة فنا و دراما عندنا في المغرب .. و التي هدفها الأساس الذي وددت لو أن أستاذنا أشار له مباشرة و وقف عنده عندما أشار للأسباب العميقة التي ليس الفن المغربي سوى محاولة للتطبيع معها، ألا وهو تمويه الصراع الاجتماعي و السياسي و الطبقي…

Hind
المعلق(ة)
15 أبريل 2022 14:55

مقال عن شخصية حديدان هرطقة في هرطقة لصاحب المقال يبدو انه يعيش أزمة التعبير عن الذات …وان المغاربة يحننون الى الخرافة. مسلسل حيدادن نمودجا ….أسطورة خرافية …الباندية …والسيناريست …..مولي. في زمن التفاهة لضرو راسو مولي وليرسيناريست

يستخدم موقع الويب هذا ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

2
0
أضف تعليقكx
()
x