لماذا وإلى أين ؟

التيجيني يكتب: إرادة ملكية تواجه جمود الدولة.. متى تُنصف الجالية؟

في كل مناسبة وطنية أو لحظة تاريخية، لا يغفل الخطاب الملكي عن توجيه تحية تقدير واعتزاز للجالية المغربية المقيمة بالخارج، باعتبارها ركيزة وطنية استراتيجية، ورافعة اقتصادية وثقافية لا غنى عنها في مسار التنمية. هذه الجالية التي يتجاوز عددها خمسة ملايين نسمة، والموزعة على أكثر من 120 دولة، لم تعد فقط خزانا للتحويلات المالية التي تجاوزت سقف 110 مليارات درهم في بعض السنوات، بل أضحت قوة اقتراح ومشاركة، وذخيرة بشرية متميزة في كبريات المؤسسات السياسية والعلمية والاقتصادية حول العالم.

لكن المفارقة الصارخة، والتي تتكرر سنة بعد أخرى، هي اتساع الهوة بين الإرادة الملكية الصريحة والمتكررة في تفعيل أدوار الجالية، وبين بطء وتراخي الحكومة والمؤسسات المعنية، إن لم نقل غيابها التام عن ركب التفاعل العملي. فمنذ بداية الألفية، حرص الملك محمد السادس، في عدد من خطبه التوجيهية، على تأكيد ضرورة إدماج مغاربة العالم في السياسات العمومية، وإشراكهم في بلورة النموذج التنموي الوطني، بل ومنحهم حقوقهم الكاملة في التمثيلية السياسية والمشاركة الانتخابية.

وجاء خطاب 20 غشت 2022 ليشكل منعطفا حاسما حين دعا العاهل المغربي صراحة إلى “إعادة هيكلة المؤسسات المكلفة بشؤون الجالية”، مشددا على الحاجة إلى حكامة جديدة وفعالة، تسعى إلى تعبئة الكفاءات المغربية بالخارج وتيسير اندماجها ومشاركتها في مختلف الأوراش الوطنية. ولئن كان ذلك الخطاب بمثابة ورقة طريق واضحة، فقد جاء خطاب عيد العرش في 29 يوليوز 2024، ليعكس مرة أخرى وضوح الرؤية الملكية واستمراريتها، حيث دعا جلالة الملك إلى “تجويد الإطار المؤسساتي، وتنشيط مجال التمثيلية السياسية والثقافية لمغاربة الخارج”، في إشارة مباشرة إلى الحاجة لإصلاح عميق وشامل في طريقة تعامل الدولة مع قضايا الجالية، وإلى أهمية إشراكها في السياسات العمومية ليس على الهامش، بل في صلب الفعل الوطني الحقيقي.

ورغم وضوح هذه التوجيهات، ورغم ما تحمله من بعد استراتيجي واستعجالي، ظل التفاعل الحكومي في أدنى درجاته، يراوح مكانه في حلقة من التردد والمماطلة، مما عمق شعور التهميش داخل صفوف الجالية، وأضعف ثقتها في جدية الدولة. المؤسسات التي يفترض أن تكون في صلب العناية بشؤون مغاربة العالم، مثل مجلس الجالية المغربية بالخارج، باتت اليوم محل تساؤلات عميقة بعد أكثر من عقد من الجمود وعدم التجديد، دون أية آلية واضحة للمساءلة أو التقييم، بينما تحولت مؤسسة الحسن الثاني إلى جهاز إداري بروتوكولي يفتقر للروح والمبادرة.

أما المجلس الأوروبي للعلماء المغاربة، الذي كان يفترض أن يشكل حصنا ضد التطرف والفراغ الديني والهوياتي داخل أوساط الجالية، فقد فشل فشلا ذريعا في القيام بدوره، سواء في تأطير الأئمة، أو في مواجهة ظواهر التشيع والانغلاق في بعض الأوساط، أو حتى في إنتاج خطاب ديني مغربي معتدل ينسجم مع السياق الأوروبي. بل إن هذا المجلس، الذي تأسس ليكون أداة للربط بين الهوية الروحية المغربية ومغاربة أوروبا، أصبح مثار انتقادات متزايدة، بسبب الغموض في التسيير، وتراجع أدائه، وتهميشه للكفاءات الشابة.

وسط هذا المشهد، تتراكم معاناة مغاربة العالم في تفاصيل يومية مرهقة، مساطر إدارية معقدة، خدمات قنصلية مكلفة، عراقيل في تحويل العملة والاستثمار، غياب تأطير ثقافي وتعليمي للأجيال الصاعدة، وتأخر في رقمنة الخدمات التي باتت بديهية في دول إقامتهم. والأسوأ من ذلك، استمرار حرمانهم من الحق الدستوري في التصويت والتمثيلية البرلمانية، رغم أن الفصل 17 من دستور المملكة واضح في هذا الصدد.

لقد عبر الملك محمد السادس، في أكثر من مناسبة، عن أن الجالية المغربية ليست مجرد “مصدر عملة صعبة”، بل هي امتداد عضوي للأمة المغربية، وشريك في المستقبل. فهل من المقبول اليوم أن تستمر المؤسسات في تجاهل هذه الحقيقة، وكأن الخطاب الملكي لا يعنيها؟ وهل يمكن أن نراهن على تعبئة مغاربة العالم في إنجاح الرهانات الكبرى، من قبيل استضافة مونديال 2030، أو تسريع مسار التنمية الشاملة، دون أن نتيح لهم الأدوات والمكانة والمشاركة الحقيقية؟

إن الوقت قد حان لتجاوز منطق التسيير الكلاسيكي والتعاطي الموسمي مع ملف الجالية، والانتقال إلى سياسة وطنية شاملة وعملية، تجعل من مغاربة الخارج شركاء فعليين في بناء المغرب الجديد، لا مجرد متفرجين على دينامية الداخل من الخارج.

إن المغرب الذي يطمح إلى الحفاظ على خيط الانتماء المتين مع أبنائه في الخارج، لا تكفيه وعود الحكومة ولا عبارات التقدير الموسمية، بل هو مطالب أولا بالوفاء بالتزاماته تجاههم، من خلال ترجمة ما تم الإعلان عنه إلى إجراءات ملموسة وسياسات جريئة، تنسجم مع ما عبر عنه جلالة الملك في أكثر من مناسبة. فما لم تتحول الالتزامات إلى أفعال، سيظل الانتماء مفرغا من معناه، والثقة تذوب في فراغ الانتظار، والارتباط ينزلق بصمت نحو القطيعة.

احصل على تحديثات فورية مباشرة على جهازك ، اشترك الآن

من شروط النشر : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments

يستخدم موقع الويب هذا ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

0
أضف تعليقكx
()
x