2024 © - أشكاين جميع الحقوق محفوظة - [email protected]

في عالم السياسة والحكم، كما في الحياة، لا يدوم البقاء للأقوى ولا للأذكى، بل لمن يدرك منطق الزمن ويحسن الإنصات لقواعده. والتاريخ، لا سيما تاريخ المغرب، زاخر بالعبر لمن أراد أن يعتبر. فكم من مسؤول كانت ترتعد له الأنفس، ويذكر اسمه فتنحني الرؤوس، وكان يتصرف وكأن الدولة لا تقوم إلا على كتفيه، ثم ما لبث أن سقط، إما بصمت مهين، أو في نهاية مأساوية تذكر بزيف اللحظة التي توهم فيها الخلود، واندثر اسمه من المشهد، وكأنه لم يكن. ليس لأن الدولة ضعفت، بل لأنها ببساطة لم تكن يوما قائمة على فرد، مهما بلغ نفوذه أو سطوته.
اليوم، يعيش بعض من يتقلدون الوظائف العليا والمناصب السامية وهما خطيرا، إذ يعتقدون أنهم “العمود الفقري للدولة”، أو أنهم “نخبة خدامها”، ويتوهمون أن لا أحد يمكنه تعويضهم، وأن المؤسسات لا تستقيم إلا بوجودهم. يتصرفون بتعال، ويتحدثون بلغة احتقار، تغذيها نزعة استعلاء وتغول مرضي في النفوذ.
يمارسون السلطة وكأنها ملكية خاصة، لا أمانة وطنية، بل امتياز شخصي، وامتداد لغطرسة طبقية.
لقد أعمتهم الكراسي والمنافع والدوائر المغلقة، حتى لم يعودوا يرون إلا أنفسهم، ولا يسمعون سوى أصواتهم أو همسات من ينافقونهم. أصبح النقد لديهم تهديدا، والاختلاف خيانة، والكفاءة المستقلة عدو يجب تحجيمه أو إقصاؤه. وهنا يكمن الخطر الأكبر؛ حين تتوهم بعض العقول أن النفوذ يجسد الدولة، وأن المنصب السامي يمنح قداسة، وأن المصلحة العامة ليست سوى وسيلة لتحقيق مجد شخصي وطموحات خاصة.
لكن الدولة المغربية، برصيدها التاريخي ورسوخ مؤسساتها، لا تتوقف على أحد. وقد رأينا، مرارا، كيف سقط من ظنوا أنفسهم فوق الدولة، واعتقدوا، في غمرة النفوذ، أنهم لا يستبدلون ولا يستغنى عنهم. فالدولة لا تتوقف على أحد، والمسؤول إلى زوال. وما يبقى ليس الاسم ولا المنصب، بل الأثر الذي خلفه، ومدى صدقه في خدمة الوطن والمواطنين.
لكل من أغراه المنصب، وأعماه النفوذ، وتوهم أنه فوق المحاسبة، نقول: تواضع… فالأرض التي رفعتك اليوم، قد تكون ذاتها التي تسقطك غدا. لا تجعل من نفسك خصما لكفاءات الوطن، ولا حاجزا أمام الطاقات النزيهة. لا تبن مجدك على تهميش غيرك، ولا على سحق من تتوهم أنه دونك.
السلطة تكليف لا تشريف، ومسؤولية لا ينبغي أن تحول إلى أداة للانتقام أو وسيلة للتسلط والتغول. وخدمة الوطن شرف لا يقاس بالمناصب، بل يقاس بالصدق، والنزاهة، والتجرد. ومن ظن أن الدولة المغربية لا تسير بدونه، فلينظر حوله، ويتأمل مصير من سبقوه ممن كانوا يعتقدون الأمر نفسه.
فالتواضع ليس خيارا، بل واجب على كل مسؤول. وأما الغطرسة، فهي أقصر طريق نحو السقوط.. وإن طال الأمد. فالعبرة بالخواتيم.