لماذا وإلى أين ؟

نيران الجبن …

عز الدين بونيت

قلبي مع أرضنا الجزائرية التي تحترق، وشعبنا الجزائري الذي يتألم لفراق الأهل والأحبة فراقا فظيعا، أو لضياع ثروات صغيرة أو كبيرة، ويكافح من أجل التغلب على النيران المستعرة، بما أوتي من عزم وما توفر له من وسائل وإمكانيات.

وأنا أشعر بكثير من الأسف لبعض من سولت لهم “عبقريتهم” الفجة أن يقايضوا هذه المأساة الحقيقية بمآرب منحطة، حين حولوها الى مناسبة لترويج هيستيريا الحقد وتصفية الحسابات وإعادة ترتيب توازنات المواقع بين شركاء السطو على سلطة الشعب الجزائري، إما لتعطيل أجندات بعضهم البعض او لوأد كل احتمال لإفسال مبادرة الصلح المغربية، لدى بعض الاجنحة أو لدى الرأي العام الجزائري؛ وذلك عبر الترويج لمزاعم مثيرة للسخرية والشفقة حول دور محتمل للمغرب في هذه الحرائق.

ويبدو اليوم، ان الاتجاه الذي نحت نحوه تحاليل معظم المتتبعين لوضعية النيران، هو تفضيل فرضية الفعل الإجرامي على غيرها من الفرضيات. الركون السهل الى مثل هذا التوجه واستبعاد كل الفرضيات الاخرى، وعلى رأسها ما تستدعيه البديهة السليمة، من البدء بالعوامل الطبيعية اولا، ثم العوامل الناتجة عن الأخطاء البشرية لاحقا، قبل الجزم بوجود أسباب إجرامية، في اندلاع الحرائق، لا يؤدي سوى الى تأبيد الجهل بالاسباب الحقيقية وبالتالي الجهل بالكيفيات الملائمة لمنع تكرارها مستقبلا او التقليص من ضراوتها.

كلنا يذكر حرائق خريف 2019 التي أتت على أجزاء واسعة جدا من الغطاء النباتي الأسترالي وأدت الى تدخل دولي كبير لوقفها. لم يسارع أحد من أطراف السياسة والاعلام الأسترالية عندها منذ الوهلة الأولى للجزم بأن تلك الحرائق كانت إجرامية. وحين تندلع الحرائق (كل سنة تقريبا) في الولايات المتحدة، لا يسارع أحد الى اطلاق الاتهامات، بل يفتح التحقيقات ويتوخى التعرف على الأسباب الحقيقية لكل حريق، من أجل تفاديها مستقبلا، عوض الركون الى التفسيرات الكسولة التي لا تفيد في الاستعداد للمرات القادمة والأسوأ دائما.

في تقديري ان مسارعة الأوساط الغامضة المألوفة في الجزائر الى توزيع الاتهامات يمينا وشمالا، وتسييس الموضوع والتلاعب بجدية المأساة والاستهانة بها، يهدف الى التعمية والتغطية على الأخطاء التقنية والتدبيرية التي تهم موضوع رعاية المساحات الغابوية، لا سيما في موسم الحرائق الذي هو موسم ارتفاع درجة الحرارة وتقلص الرطوبة في الهواء واشتداد الرياح الجافة (وكلها عوامل طبيعية تزيد من فرص اندلاع النيران، ومن قوة وسرعة اضطرامها).

الشيء المؤكد الوحيد لحد الآن، هو ان هناك أخطاء ارتكبت، ليس على المستوى السياسي، بل على المستوى التقني والتدبيري لموضوع الاستعداد لاحتمال الحريق، سواء من جهة تعزيز وسائل اليقظة والمراقبة الدائمة للمجال الغابوي، لاستباق اي اندلاع للنار قصد وأدها في المهد؛ أو من حيث وضع بروطوكولات مضبوطة للحد من انتشار النيران بسرعة، من خلال العناية بالمساحات الفاصلة بين البقع الغابوية، والحرص على تنقيتها المستمرة من الحشائش والنباتات اليابسة التي تسهل انتقال الحريق من بقعة الى أخرى؛ او من حيث مستوى الجاهزية والعتاد…

المسارعة الى اتهام أياد خفية وأجندات خارجية، عوض تحمل المسؤولية الكاملة والسعي الى الوقوف على مواطن الخلل وأسباب الحريق الحقيقية، هدفه الوحيد هو التغطية على الأخطاء المحتملة وتهريب النقاش حولها، والتملص من المساءلة التقنية، والمساءلة السياسية التي تليها.

اما إقحام المغرب في صفاقة هذه الاتهامات المزرية، فهو منتهى التفاهة والفقر السياسي والاستراتيجي.

لن يجدي أصحاب هذه العقلية في تدبير الشؤون العامة الجزائرية، ان يوغلوا في التهرب الدائم من تحمل تبعات أخطائهم بإلقائها على أعدائهم الوهميين، وسيستمرون حتما في مراكمة نفس الأخطاء ومواجهة نفس المآسي، ما داموا يختارون، في كل مرة، الهروب من تحمل مسؤولياتهم، عوض تدارك أخطائهم ومحاولة إصلاحها، وترتيب الجزاءات الملائمة عليها.

مواصلة الهرب، عوض المواجهة في كل مرة، ليس له الا اسم واحد: الجبن!!!

أما الشعب المغربي، وأستطيع ان اؤكد، بلا تردد، ان “المخزن المغربي” ايضا، يشتركان في الوقت الحالي، في أمنية واحدة: أن يروا بجوار بلدهم دولة جارة ناضجة تفكر حقا في معالجة أزماتها وجها لوجه، عوض دفنها تحت السجاد في كل مرة؛ دولة شجاعة، تتيح لشعبها كل الفرص لإطلاق طاقاته الخلاقة من أجل المساهمة في بناء مستقبل أكثر إزهارا لشعوبنا، وأكثر تحررا من أعطاب ومكبلات الماضي العقيم.

رحم الله شهداء اللهب من شعبنا هناك، وتعازينا لذويهم ولكل الشعب الجزائري المكلوم.

أستاذ التعليم العالي بكلية الاداب والعلوم الانسانية بجامعة ابن زهر

إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبر بالضرورة عن رأي آشكاين وإنما عن رأي صاحبها.

احصل على تحديثات فورية مباشرة على جهازك ، اشترك الآن

0 0 أصوات
تقيم المقال
من شروط النشر : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments

يستخدم موقع الويب هذا ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

0
أضف تعليقكx
()
x