لماذا وإلى أين ؟

تساؤلات حول الخــــــبـز

محمد العطلاتي

تتعدد الثقافات الغذائية بالنسبة للبشر و تتنوع من مجتمع إلى آخر، وتختلف، تبعا لذلك، العناصر الرئيسية التي تتشكل منها الوجبات الغذائية، فمنها ما يغلب الأصل الحيواني على مكوناته، و منها ما يُعتمد في صناعته على المواد ذات المنشأ النباتي.

المجتمع المغربي، باعتباره منتميا لدولة لم يتحقق بعد نموها الكامل، سواء في الجانب الاقتصادي و السياسي، أو في الجانب المتعلق منه بتطور مجالات البحث في العلوم و المعارف الحديثة، مازالت تطبعه (أي المجتمع) خصائص ذات أصول ثقافية محلية المنشأ، وهي خصائص تؤطر سلوك أفراده و تحضر أثارها في مختلف أنشطته الحياتية، ومن بين هذه الأنشطة البشرية يحضر، في المقام الأول، الموضوع المتعلق بالتغذية أو بطبيعة المواد الغذائية التي حصل الاتفاق بين عامة الناس على اعتبارها مكونا لا بديل عنه و لا يُعقل، تبعا لذلك، غيابها عن موائد الطعام، سواء بالنسبة للأثرياء أو  لغيرهم من البؤساء.

لعل المادة الرئيسية، التي تسجل حضورا يوميا و دائما في كل وجبات طعام المغاربة، هي الخبز، فالمواطن المغربي، بمختلف جهات المملكة، لا يخلو فطوره الصباحي من قطع الخبز، كما لا تخلو منه وجبتا الغذاء و العشاء، بل إن الخبز عادة ما يكون جزءا من “وجبة العصر” الخفيفة التي اعتاد المغاربة تناولها عشية كل يوم.

إن إقـــــبال المغاربة الكثيف على الخبز و ضمان وجوده في البيوت لا يرتبط فقط بالعادات الغذائية المتوارثة عبر الأجيال، بل يرتبط، في المقام الأول، بامتداد ثقافة شعبية حاملة لمفاهيم يمتزج فيها الدين بالأخلاق و الاقتصاد بالخرافة، وبصرف النظر عن البحث في الأصول التاريخية لِكيفية تَشَكُّل نظرة المغاربة نحو الخبز، فإنها نظرة تقترب إلى حد بعيد من مستوى  التقديس، فالخبز، يحتل مكانة لا تضاهيها مكانة غيرها ضمن “متخيل” المغاربة، فهو، بداية، يُحفظ في  مكان مميز  ومعزول عن المواضع التي تحفظ فيه غيره من الأطعمة، كما أن بقايا الخبز لا يُتَخَلَّصُ منها كيفما اتفق، و يُحافَظُ دوما على عَزْلِها عن باقي النفايات المعدة للرمي، بل إن جمهورا عريضا من العامة يعمد، فضلا عن ذلك، إلى تقبيل قطع الخبز المتبقية قبل التخلص منها في مكان آمن و مقبول.

المكانة الاستثنائية التي يحتلها الخبز في الثقافة الشعبية تدل عليه سلوكات و أقوال المغاربة، ففي الجانب البلاغي، على سبيل التمثيل، حين يُراد وصف شخص بالجود و الكرم يقال : (كيعطي الخبز)، كما يقال عن الشخص الثري إنه (عندو الخبز)، و في الجانب الاقتصادي عادة ما يلمح المغاربة للصفقات المربحة بالقول إنها (فيها الخبز)، كما ينعت الشخص المتسبب في إبرامها بكونه (معاه الخبز)، إلى غير ذلك من التعبيرات التي توظف مصطلح (الخبز) من أجل الدلالة على الخير والبركة، وهذا يكشف إلى أي حد يحتل فيه الخبز حيزا  ضخما من لاشعور المغاربة و كيف أنهم يربطون تحقق سعادتهم بوجود الخبز بكميات وافرة و رخيصة، فهو بالنسبة لهم يعتبر أكبر ضمانة لاستقرارهم النفسي و المادي. !

المكانة المرموقة التي تبوأها الخبز في مخيال شعب المغاربة، جعلت منه موضوعا يستأثر باهتمام مركزي من طرف الدولة، حيث سهرت منذ مدة طويلة على تأمين وجود الخبز وذلك عبر الدعم الحكومي الذي يمنع تأثر أسعاره بالتحولات التي يشهدها سوق القمح على المستوى الدولي. في هذا السياق يلزم التذكير بأن قرار حكومة المعطي بوعبيد، في يونيو 1981، بالزيادة في سعر الدقيق، توج باندلاع انتفاضة عارمة في الدار البيضاء قتلت فيها أعداد كبيرة من المتظاهرين، وهم القتلى الذين وصفهم وزير الداخلية، على سبيل السخرية، بكونهم “شهداء الكوميرة”.

انتفاضة البيضاء في يونيو 81، جعلت من الخبز خطا أحمر لا يمكن تجاوزه، فقد اضطرت الحكومة إلى التراجع عن إقرار الزيادة في أسعاره، واعتمدت كل جهد، ممكن و لو كان مُكْلفاً، لحمايته من الارتفاع و ضمان وجوده، ومنذ ذلك الحين استمرت الحكومات المتعاقبة في نهج المقاربة ذاتها تجاه مادة غذائية اسمها “الخبز”.

على خلاف سياسة المغرب، فإن الدول الأروبية، اعتبرت الخبز مجرد صنف من أصناف المواد الغذائية و لم يحظ بأي نوع من أنواع الدعم التي تروم حفظ أسعاره في مستوياتها الدنيا، ففي أواسط الثمانينات، كان سعر أصغر ” كوميرة” بإسبانيا يناهز المائة بسيطة، أي ما كان يعادل آنذاك مبلغ ستة دراهم بالعملة المغربية، أي أن سعره يفوق بأضعاف مضاعفة سعر فاكهة الموز !

لقد تمخض عن سياسة دعم أسعار الدقيق  واقع اقتصادي واجتماعي جديد بالمغرب، فقد أصبح الخبز، بسبب هذا الدعم، موضوعا للاستثمار من قبل البسطاء، حيث يعمد هؤلاء، و أغلبهم نسوة، إلى اقتناء أنواع من الدقيق المدعم بهدف استعماله في تحضيره أنواع  كثيرة من المعجونات كالخبز والرغائف والبغرير والحرشة، وذلك قبل تسويقها للمستهلك بغاية ربحية، وهذا دون أن تعلم عنها شيئا، لا المصالح المكلفة بسلامة المنتجات الغذائية ولا المصالح المكلفة بتحصيل الضرائب و الجبايات.

لقد بينت الإحصاءات أن “إنتاج الخبز بالمغرب يفوق 100 مليون خبزة يوميا، إلا أن كمية منه، تبلغ حوالي 25 في المائة، لا يتم استهلاكها من قبل المواطنين، بل تجد طريقها إلى صناديق النفايات أو إلى بطون الماشية”.

المعلوم، في حالة مثل المغرب، أن هكتارات  واسعة من الحقول التي كانت تستغل سابقا في زراعة حبوب القمح و الشعير، قد توقفت الآن عن مزاولة هذا النشاط الزراعي، وهو ما حصل كنتيجة منطقية لعاملين أساسيين، أولهما هو الامتداد الكبير لحقول الاسمنت و الخرسانة في اتجاه محيط المدن، و الثاني هو استمرار ظاهرة الهجرة القروية نحو المدن و الإقلاع عن ممارسة نشاط الزراعة الشاق و غير المربح،

وبهذا المعنى فإن مصادر صناعة ” الخبز المحلي” مرشحة كل مرة للتناقص، و إذا أخذنا بعين الاعتبار سوق الحبوب في العالم، الآخذة، يوما بعد آخر، في  الارتجاج و التقلب، فإن توفير المزيد من كميات الخبز سيكون عملا شاقا و مكلفا،  فهل يحتاج هذا الواقع، الذي يكلف الميزانية العامة اعتمادات ضخمة دون طائل يذكر،  لإعادة التفكير في نظرة المغاربة نحو الخبز ؟

إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبر بالضرورة عن رأي آشكاين وإنما عن رأي صاحبها.

 

 

احصل على تحديثات فورية مباشرة على جهازك ، اشترك الآن

0 0 أصوات
تقيم المقال
من شروط النشر : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

1 تعليق
الأكثر تصويتا
أحدث أقدم
Inline Feedbacks
View all comments
علي
المعلق(ة)
5 أكتوبر 2021 15:48

موضوع مهم تناوله صاحبه بطريقة مضبوطة ومنهجية رائعة.
في الواقع تعامل المغاربة مع الخبز يكشف الكثير من التناقضات ويفسر الكثير من الامور، من بينها تقديس المغاربة للخبز فقط يحدث أن يلتقط أحدهم قطعة خبز متعفنة ويقبلها ويضعها في مناى عن الأرجل، في الوقت الذي يرمي فيه اللحم والخضر والفواكه. لكن اغرب ما توصلت اليه ان الخبز والكسكس يضاعف فضلات الإنسان ويزيد في الوزن.

يستخدم موقع الويب هذا ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

1
0
أضف تعليقكx
()
x